تزامن صدور كتاب «الوصول إلى المرتفعات: القصة الداخلية لمحاولة سرية للتوصل إلى سلام سوري-إسرائيلي»، من تأليف السفير السابق فريدريك سي هوف، مع تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خلال إحاطة لباحثين ووسائل إعلام أجنبية نظمها معهد واشنطن: «إنه يجب على رئيس النظام السوري بشار الأسد قطع علاقاته مع إيران إذا أراد العودة إلى جامعة الدول العربية».
وفي الكتاب، كما نقل عدد من الصحف والمواقع الإسرائيلية والعربية مقتطفات منه، يتحدث هوف الذي عمل وسيطاً أميركياً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها بنيامين نتنياهو ورئيس النظام السوري بشار الأسد، أن الصيغة التي كان يجري التفاوض على أساسها لم تكن الأرض مقابل السلام، أو السلام مقابل السلام كما جرت العادة، وإنما الأرض مقابل التغير الاستراتيجي وابتعاد سوريا عن إيران وذراعها في لبنان أي حزب الله.
ووفقا لهوف فقد كان الطرفان على استعداد تام للمضي قدما في هذه المفاوضات، حتى إن الأسد أكد أن «الجميع سيفاجأ بالسرعة التي سوف يلتزم بها أمين عام حزب الله حسن نصر الله، بالقواعد (المتفق عليها بين الجانبين) بمجرد إعلان كل من سوريا وإسرائيل التوصل إلى اتفاق سلام». لكن الوساطة بين الطرفين لم تستمر، وتوقفت مع انطلاق الثورة السورية.
إلا أن اللافت أنه وبعد 11 عاما على انطلاق الثورة السورية، وكل ما لحق بسوريا أرضا وشعبا، وبعدما باتت إيران تسيطر على أكثر من ثلثي مساحة سوريا إضافة إلى سيطرتها على الدولة وأجهزتها، والتغير الديموغرافي الذي أحدثته والميليشيات التي زرعتها، أن يعود الرهان الإسرائيلي تحديدا على قطع علاقة الأسد بإيران مقابل عودته هذه المرة إلى الجامعة العربية وليس مقابل السلام.
وهنا لا بد من طرح سؤالين، وخصوصا على أصحاب فرضية أن التوصل إلى سلام بين إسرائيل وسوريا الأسد بات اليوم ممكنا أكثر من أي وقت مضى، وأن أحد الاثمان التي على الأسد أن يدفعها ليعود إلى الشرعية الدولية والعربية هو توقيعه لاتفاق سلام مع إسرائيل وتخليه عن ارتباطه العضوي مع إيران. فالسؤال الأول هو كيف التوصل إلى اتفاق سلام دون الانسحاب الإسرائيلي من الجولان؟ فخلال المباحثات بين الجانبين السوري والإسرائيلي التي قام بها هوف بدور وسيط، أبدت إسرائيل قبولها بالانسحاب من الجولان والعودة إلى حدود يونيو (حزيران) 1967، أما اليوم وفي ظل كل ما حصل ويحصل في سوريا، وبعدما حصلت إسرائيل على اعتراف من الإدارة الأميركية السابقة بسيادتها على الجولان، لم يعد الحديث عن الانسحاب الإسرائيلي من الجولان مطروحا أقله في الوضع الراهن.
البعض يقول إنه إذا لم تنسحب إسرائيل من الجولان، فكيف يتوقع البعض أن يتم التوصل إلى سلام بينها وبين النظام السوري، وخصوصا أن النظام يستمد شرعيته بين مؤيديه من ادعائه أنه مقاوم وممانع ولا يرضى بالتنازل عن شبر من الأراضي السورية، وكل ما إلى ذلك من شعارات.
لكن إسرائيل باتت تدرك جيدا أن موضوع السلام مع النظام السوري بات تحصيل حاصل وهو مرتبط أصلا باتفاق سلام بين إيران وإسرائيل، وهذا الاتفاق قد تصل إليه في الأعوام القادمة بعد ترتيبات مع إيران، فقد سبق وأثبتت إيران براغماتيتها وقدرتها على التعامل مع إسرائيل، بل والتعاون العسكري كما حدث في منتصف الثمانينات في عهد الخميني، ضمن إطار القضية المعروفة بـ«إيران غيت».
ولذلك فإن إسرائيل التي تدرك التغير العميق في مفهوم الشرعية الذي كان يستند له النظام السوري قبل عام 2011، والذي كان يتمحور حول قضية تحرير الجولان، لأن هذا المفهوم لم يعد قائما بسبب استناد النظام لقاعدته الطائفية التي ستوافق على أي خيار يأخذه النظام ما دام يخدم بقاء هذه القاعدة الطائفية مع بعض المنتفعين في الحكم، فالنظام لم يعد يلتفت لرأي الغالبية من السنة في سوريا أو يسعى لمحاباتهم وتسويق نفسه بأنه المقاوم الذي يريد تحرير الجولان ودعم القضية الفلسطينية، فالسنة في سوريا باتوا أشبه بأقلية ضائعة بعد تهجير أكثر من نصفهم خارج البلاد، وبعد التجريف الديموغرافي الذي جرى لمناطقهم، ولذلك باتت شرعية النظام تتعلق فقط بإرضاء قاعدته الطائفية المتحالفة في أغلبها مع إيران والتي ترى في إيران عمقها الاستراتيجي، ولهذا السبب فقط يمكن القول إن إسرائيل لم تعد تلتفت لقضية السلام مع النظام ولم يعد على سلم أولوياتها أصلا.
لكن السؤال الذي لا يقل أهمية عن الأول: لماذا سيقطع النظام السوري علاقته مع إيران؟ هو الذي لم يفعل سابقا رغم كل الإغراءات والحوافز التي قدمت له؟ لماذا سيقطعها اليوم وقد أصبحت إيران قوة إقليمية يقدم لها العالم التنازلات مقابل بعض التطمينات التي تقدمها بما يتعلق بأذرعها وميليشياتها في المنطقة؟ إيران نفسها التي أنقذت نظام الأسد من السقوط وشاركته بحربه ضد السوريين، وإيران نفسها التي باتت تسيطر على معظم سوريا وليس فقط على رأس النظام؟ فحتى لو فرضنا أنه ورغم كل ذلك وافق الأسد على قطع علاقته مع إيران، فهل يستطيع؟
لقد عرفنا من المذكرات والتصريحات والوثائق المسربة أن نظام الأسد لطالما أبدى استعداده للتوصل إلى سلام مع إسرائيل، دون أن يضع أي شرط مرتبط بالقضية الفلسطينية التي يتاجر بها ضمن شروط هذا السلام، ومع ذلك لم يتحقق هذا السلام سابقا ولن يتحقق اليوم.
كما سمعنا وعشنا تجارب فصل الأسد عن إيران، ومحاولات تعريبه المستمرة والحوافز التي قدمت له، وكله باء بالفشل.
الأسد كما هو غير مؤذ لإسرائيل، وقد تكون إسرائيل من أكثر المستفيدين من الدمار الذي حل بسوريا والانهيار الذي لحق بجيشها ومؤسساتها، فباتت سوريا بحاجة إلى عشرات السنين لتقف مجددا على «قدميها»، أما العداء اللفظي لإسرائيل فمنه يستمد الأسد شرعيته، وبكلتا الحالتين لا أحد يمثل تهديدا جديا للآخر.
وإن كانت إسرائيل تشعر بالخطر من الدور الإيراني في سوريا، والذي لم تستطع موسكو وضع حد له، إما لعدم رغبتها وإما لعدم قدرتها وإما للسببين معا، فإن ضمان أمن إسرائيل من هذا الخطر يتم التباحث حوله في فيينا وليس في دمشق، وإن أرادت طهران فما على دمشق إلى التنفيذ والالتزام.