لندن: على مدار عقود، فُرضت رقابة على الملفات المتعلقة بالعلاقات بين إسرائيل وإيران. والآن رفعت السرية عن حوالي عشرة آلاف وثيقة سرية وأصبحت متاحة للاطلاع في أرشيف الحكومة الإسرائيلية. تروي الوثائق قصة شراكة واسعة النطاق وعلاقات استثنائية بين البلدين. تثير مقارنة العلاقات في الماضي وكيف تحولت على مدار أربعين عاماً وتحث على التساؤل عن كيف أمكن حدوثها.
في يونيو (حزيران) عام 2005، أصبح عمدة طهران المتشدد محمود أحمدي نجاد الرئيس السادس لجمهورية إيران الإسلامية. بعد أشهر قليلة من توليه منصبه، أدلى أحمدي نجاد بخطاب في مؤتمر عقد في مقر وزارة الداخلية بطهران تحت عنوان «العالم بدون صهيونية». وفي خطاب محمل بعبارات الكراهية، وصف الرئيس الإيراني آنذاك إسرائيل بأنها «وصمة عار»، قائلاً: «كما قال الإمام الخميني، يجب محو إسرائيل من على الخريطة.. لن تسمح الأمة الإسلامية لعدوها التاريخي بالعيش وسطها. وأي شخص يوقع اتفاقاً يعترف فيه بالكيان الإسرائيلي يعني أنه يوقع على استسلام العالم الإسلامي». قبل هذا الخطاب بخمسة أعوام، دعا الرئيس هاشمي رافسنجاني حينذاك إلى «القضاء على إسرائيل بضربة نووية».
ومع ذلك في مارس (آذار) عام 1950، كانت إيران ثاني دولة ذات أغلبية مسلمة بعد تركيا تعترف بدولة إسرائيل، والذي تحول إلى اعتراف علني ورسمي بعد عشرة أعوام. وعلى مدار 30 عاماً تمتعت الدولتان بعلاقات طيبة للغاية وبتعاون على مستويات عديدة.
قال موشيه شاريت: «علاقاتنا مع إيران معقدة للغاية وتؤكد المثل العربي القائل: الضرورات تبيح المحظورات»- 11 يوليو (تموز) 1951.
رأى شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي فرصة استراتيجية في إقامة علاقات وثيقة مع الدولة المؤسسة حديثاً. كان ما حققته إسرائيل من انتصارين عسكريين في عامي 1948 و1967 حاسمين في تغيير قواعد اللعبة. وبدأت تظهر في صورة قوة إقليمية بارزة. أثارت القدرات العسكرية الإسرائيلية إعجاب الشاه وتزامن ذلك مع طموحه لجعل إيران قوة إقليمية. كما أنه شعر بتهديد من القومية العربية التي يروج لها جمال عبد الناصر بدعم من السوفيات. وكان الشاه في حاجة إلى حليف قوي، والذي اتضح أنه أحدث عدو له، إسرائيل.
من وجهة نظر إسرائيل، انطبق على إيران المبدأ الذي تبناه أول رئيس وزارء لإسرائيل ديفيد بن غوريون ويطلق عليه «عقيدة المحيط» والذي يهدف إلى تكوين تحالف وعلاقات ودية مع الدول غير العربية الواقعة في محيط الشرق الأوسط، بما فيها تركيا وإيران وإثيوبيا، وكذلك أيضا الأقليات العرقية والدينية مثل المارونيين في لبنان والأكراد في العراق والذين احتفظت إسرائيل بعلاقات حذرة معهم من الستينيات من القرن الماضي.
وفي الفترة الأخيرة، أفرجت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن أكثر من عشرة آلاف وثيقة تتصل بالعلاقات بين إسرائيل وإيران منذ عام 1953 وحتى عام 1979. تروي الوثائق قصة العلاقات الوثيقة والعميقة. في ذلك الوقت كانت إسرائيل مؤسسة حديثاً وتواجه العديد من التحديات، أحدها هو التهديد الذي تشكله دول الجوار العربي المعادية، والتي كانت تعارض وجود إسرائيل في حد ذاته. كانت الشراكة مع إيران استراتيجية ومحورية لإسرائيل من الناحية الأمنية والاقتصادية. ووصل حجم الصادرات النفطية الإيرانية لإسرائيل إلى أكثر من 60 في المائة من الاحتياجات الإسرائيلية. وتطلب التحالف من أجل النفط إلى دولتين ليعملا معاً على تأمين مسارات الشحن ومواجهة محاولات عبد الناصر في مصر لتصدير فكرة القومية العربية والترويج للتحالفات العسكرية في العالم العربي الذي كان شديد العداء تجاه إيران وإسرائيل حينئذ.
عملت الشركات الإسرائيلية المتخصصة في مجالات متنوعة، من المنسوجات والمعدات الطبية والمياه والأسمدة والإنشاءات والطيرات والشحن والغاز والمشروعات الزراعية والبنية التحتية، بكثافة في إيران. وفي خلال بضعة أعوام، كانت إيران أحد أهم المستوردين من إسرائيل. ومن ضمن هذه الشركات شركة فيريد للتخطيط والإنشاءات التي فازت بتعاقد لإنشاء سد بارتفاع 160 قدما في شيراز بإيران.
كما أصبحت إسرائيل من أكبر موردي السلاح إلى إيران. واتسع نطاق الأنشطة للغاية من بيع الأسلحة والمنتجات العسكرية إلى تدريب الجيش الإيراني والأجهزة الأمنية. وفي فترة الستينات، نظمت شركة الطيران الإسرائيلية (العال) رحلات منتظمة بين تل أبيب وطهران، وكان لإسرائيل العديد من المتعاقدين والمستشارين العسكريين المقيمين في إيران، لدرجة أن حكومة إسرائيل افتتحت مدرسة عبرية للأطفال الإسرائيلين. وتوطدت العلاقات على أعلى مستوى، وتقابلت رئيسة الوزراء غولدا مائير مع الشاه في عام 1972. وبعد عامين عندما استقالت مائير وتولى منصبها إسحق رابين، قام بزيارة إيران هو أيضاً.
سقوط الشاه
ولكن كانت الأمور مختلفة خارج طهران والمدن الإيرانية الكبرى. كانت إيران تعاني من انقسام ثقافي واجتماعي اقتصادي حاد. بينما نعمت طهران ومدن مثل تبريز بالثراء والحداثة وتسكنها طبقة متعلمة، عاش بقية سكان البلاد في الفقر ونمت معارضة واسعة ضد نظام الشاه الفاسد القمعي. واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وعلت معها أصوات مطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة. كانت شوارع إيران تغلي وانفجرت في النهاية في صورة احتجاجات شعبية وحدت الناس من مختلف الأطياف السياسية.
أساء الشاه التعامل مع تلك الاحتجاجات، مستخدماُ القوة المفرطة وأمر الجيش والشرطة بإطلاق النيران على المتظاهرين العُزَّل. وأدت وحشية الشاه إلى تأجيج الثورة، التي ساعد على قيادتها من الخارج الزعيم الديني المنفي آية الله الخميني.
هرب الشاه من إيران ومن فوره وصل الخميني في الأول من فبراير (شباط) عام 1979 إلى إيران. وبعد أسبوع من عودة الخميني، قررت الحكومة الإسرائيلية إخلاء ممثليها المتبقين في طهران وخاصة السفير يوسف حرملين.
أطيح بنظام الشاه العلماني المستبد إثر ثورة شعبية وحل محله نظام حكم ديني مستبد. اختطف الإسلاميون المتطرفون الثورة، وأصبح الخميني قائداً أعلى وأسس جمهورية إيران الإسلامية. وشنت الحكومة الجديدة حملة إرهاب وقمع ضد المعارضين، وفر كثير من الإيرانيين للبحث عن ملاذ في أوروبا والولايات المتحدة.
عند اندلاع الثورة كان يعيش في إيران 100,000 يهودي، تمتعوا بحياة آمنة وجيدة نسبياً. ولكن كل هذا تغير، وبدأ خطاب الخميني يزداد عداء ضد إسرائيل. وأصبحت حياة اليهود مهددة ومن استطاع منهم الهرب، فر بحياته بالكاد.
أعلن الخميني أن إسرائيل «عدوة للإسلام» وووصفها بأنها «الشيطان الأصغر» ووصف أميركا بـ«الشيطان الأكبر». وفي 18 فبراير 1979، قرر تجميد العلاقات مع إسرائيل وأخلى السفارة الإسرائيلية في طهران وسلم مفاتيحها إلى منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. وفرض النظام الجديد حظراً على هجرة اليهود ووضع سياسات تهدف إلى تدمير إسرائيل.
المحظور: الدولة الإسلامية تشتري السلاح من «الشيطان الأصغر»
في عام 1980، في ظل الحرب الإيرانية العراقية، تفوقت الاستراتيجية البرغماتية على مبادئ الخميني. وهنا كان لإسرائيل وإيران عدو مشترك هو صدام حسين. تورطت إيران في حرب متواصلة مع العراق من عام 1980 إلى 1988، وحصل حسين على دعم من دول الخليج الغنية واستطاع كسب الولايات المتحدة وأغلب الدول الغربية في صفه.
كانت إيران في حاجة ماسة إلى السلاح، ولم تضيع إسرائيل فرصة مد إيران بالسلاح. وبعد أن تولى ريغان رئاسة أميركا بفترة وجيزة، غيرت إدارته على نحو سري ومفاجئ سياسة أميركا وسمحت لإسرائيل ببيع أسلحة وقطع غيار وذخيرة أميركية الصنع بقيمة عدة مليارات من الدولارات إلى إيران.
إيران وصناعة العملاء في المنطقة
بعد هزيمة نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية عام 1991، انتهى التهديد العراقي لإيران. وأصبح تركيز إيران الجديد منصباً على إحياء هدفها القديم: إسرائيل. وكان الخميني سعيداً للعودة إلى خطاب مقاومة «نظام الشيطان الأصغر الصهيوني».
قدم الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس أسلحة وتدريباً ودعماً مالياً للميليشيات والحركات السياسية الموجودة في ست دول عربية على الأقل: البحرين والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية وسوريا واليمن. ومنذ عام 2012، أنفقت إيران ما لا يقل عن 16 مليار دولار لدعم عملائها في المنطقة. وفي عام 2020، أشارت تقديرات وزارة الخارجية الأميركية إلى أن إيران تمنح حزب الله 700 مليون دولار سنوياً.
«موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران».. تصريح حسن نصر الله أمين عام حزب الله في 2016.
استطاع عميل مأجور مثل حزب الله تنفيذ عمليات لإيران ضد أهداف إسرائيلية، على سبيل المثال تفجير المركز اليهودي في بينوس أيريس عام 1994.
تتنوع حزم المساعدات التي تقدمها إيران لحماس والجهاد الإسلامي، ما بين منحهما 100 مليون دولار سنويا وتقديم التدريب لمقاتليهم على يد الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس عالي التدريب. ولكن فيما بين عامي 2012 و2017، قطعت إيران التمويل عن حماس بعد رفضها دعم بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية.
وفي عام 2017، أعلن يحيى سنوار، القيادي العسكري في حماس أن: «العلاقات مع إيران ممتازة وإيران هي أكبر داعم لكتائب عز الدين القسَّام بالمال والسلاح».
بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، استطاعت إيران زرع مجموعات من العملاء المحليين في العراق: كتائب حزب الله، عصائب أهل الحق وغيرهما الكثير. أحياناً ما تنفذ هذه الخلايا عمليات تستهدف قوات التحالف الأميركي وأهدافا أميركية غير مؤمَّنة في العراق.
ومع حلول الربيع العربي وانزلاق سوريا إلى حرب أهلية دموية، أسس ودرب الحرس الثوري الإيراني لواء زينبيون، وأعاد نشاط لواء فاطميون وهو عبارة عن ميليشيا أفغانية تأسست في الثمانينات من القرن الماضي ولكنه اندثر تقريباً وأعاد الحرس الثوري إحياءه في 2012.
وفي اليمن، منذ 2012، أنفقت إيران مئات الملايين من الدولارات لمساعدة أنصار الله الحوثيين. وتوسعت إيران وحزب الله اللبناني في تقديم التدريب وشحنات الأسلحة بعد تدخل التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في حرب اليمن عام 2015.
هل تخرج حرب الظل بين إسرائيل وإيران إلى العلن؟
ليس من المرجح أن تتحول حرب الظل إلى حرب مفتوحة، حيث إن الدولتين قررتا أن الحرب المباشرة ليست في صالحهما. وعلى مدار أعوام، شن كل من الندين هجمات منتظمة ضد الآخر في مناطق متفرقة، على طريقة العين بالعين. وفيما بين عامي 2008 و2010، استطاع الإسرائيليون التسلل إلى منشأة نطنز النووية في إيران وتدمير أجهزة الطرد المركزي باستخدام الدودة الحاسوبية «ستوكس نت». وعلى مدار أعوام، وقعت عمليات استهداف بالقتل ضد علماء نوويين إيرانيين، رفض مسؤولون إسرائيليون التعليق عليها ولكن كل أصابع الاتهام تشير إلى إسرائيل.
وفي الفترة الماضية اتخذت إيران خطوة خطيرة بشن هجمات صاروخية من الأراضي الإيرانية صوب الإقليم الكردي في العراق، لتصيب أهدافاً في أربيل. ادعت إيران أن الهدف كان مرتبطاً بالحكومة الإسرائيلية، وهو ما نفاه محافظ أربيل تماماً. وجاء الهجوم على أربيل بعد أيام من تصريح إيران بأن إسرائيل قتلت اثنين من أعضاء الحرس الثوري في غارة في سوريا. وفي التوقيت ذاته تقريبا، تعرضت مواقع إلكترونية تابعة للحكومة الإسرائيلية لهجوم سيبراني واسع، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها، ولكن تشير أصابع الاتهام إلى إيران.
سوف تستمر الحرب الباردة أو حرب الظل بين إسرائيل وإيران عن طريق الهجمات الصاروخية المتفرقة، والتجسس المزعوم والهجمات الإلكترونية وعن طريق العملاء. وسيظل الدخول في حرب مفتوحة رهن قرار أحدهما. تعارض إسرائيل بقوة الاتفاق النووي الإيراني، وفي فبراير صرح رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت بأن إسرائيل «تنظم وتستعد لليوم التالي (لتوقيع الاتفاق النووي) على كل الأصعدة، حتى نستطيع أن نحفظ أمن مواطني إسرائيل بمفردنا».
إذا تم التوقيع على اتفاق نووي، من المتوقع وقوع عمليات هجوم إسرائيلية ضد إيران، ولكن لا يمكن استبعاد وقوع حرب شاملة. ربما تستهدف إسرائيل منشآت إيران النووية، بالإضافة إلى منشآت تصميم وإنتاج الصواريخ الباليستية، ويمكنها أيضاً مهاجمة عملاء إيران.
أوردت بعض المنصات الإعلامية في الشهر الماضي أن الجيش الإسرائيلي حدد موقعا سريا لمنشأة تخزين طائرات درون إيرانية وهاجمها، مدمراً مئات من طائرات الدرون. ونفى حزب الله هذه الأنباء قطعياً وقال إنها «غير صحيحة على الإطلاق».
من الصعب التوقع كيف يمكن أن تنتقم إيران إذا شنت إسرائيل هجوماً مباشراً على أراضيها. ولا شك في أن الجيش الإسرائيلي لديه إمكانيات عسكرية للدفاع عن إسرائيل، وهو بالتأكيد يتفوق على إيران بمميزات جوهرية في كل نوع من الأسلحة التقليدية.
ومع ذلك لا يجب الاستهانة بإيران. ربما تختار إيران عدم الرد المباشر وترك جيشها من العملاء في سوريا ولبنان وغزة والعراق يؤدون المهمة. وبالفعل نشرت إيران أصولا عسكرية كبيرة لها في سوريا والعراق. كما عزز حزب الله من مهارات مقاتليه بعد اشتراكهم في القتال في سوريا، وضاعف حجم مخزونه من الصواريخ والقذائف. وتمتلك حماس في غزة كماً جيداً من الصواريخ. ويستطيع هؤلاء العملاء إصابة أهداف في أنحاء إسرائيل، وربما يأملون في التغلب على أنظمة القبة الحديدية الدفاعية.
تدرك إسرائيل أنها ليس لها تأثير كبير على نتائج المفاوضات النووية مع إيران. ولكن اتخذت الحكومة الإسرائيلية إجراءات أخرى لمواجهة الخلل الذي سينجم عن الاتفاق. ويبدو أنها تضغط على حليفتها الولايات المتحدة لإبرام اتفاق ثنائي يعالج المخاوف الإسرائيلية. كما مرر الكنيست موازنة خصصت زيادة قدرها 1.6 مليار دولار للدفاع من أجل الاستعداد للتهديد الذي تشكله إيران. وفي أثناء قمة النقب التي عقدت في مارس الماضي، عملت إسرائيل على تعزيز علاقاتها الأمنية مع حلفائها الجدد في الاتفاق الإبراهيمي في الخليج، ووقعت مؤخراً معاهدة أمنية مع البحرين.
لا يزال في إمكان إسرائيل إلحاق خسائر فادحة بإيران وعملائها حتى وإن تم توقيع الاتفاق النووي. ما لا يجب على إسرائيل فعله هو ترك حرب الظل. كما قال داني سيترينوفيتش، الذي كان يدير وحدة جمع المعلومات عن إيران في الجيش الإسرائيلي: «يجب أن نحافظ على قواعد اللعبة. إذا أقدمنا على عملية كبيرة في إيران، مثل ضرب منشآت نووية، سوف نتسبب في تصعيد كبير على جبهات عديدة».