باكو: في واحدة من أكثر المقولات تعبيرا عن واقع أليم تواجهه كثير من الدول التي كانت ضمن موجات التحول الديمقراطي التي شهدتها دول ما بعد التفكك السوفياتي في تسعينات القرن المنصرم، عبر المستشار في مكتب رئيس أوكرانيا أليكسي أريستوفيتش، في أواخر أغسطس (آب) الماضي (2021)، تعليقا على الانسحاب الأميركي من أفغانستان بأنه: «بعد ثلاثين عاما، اتضح أن الديمقراطيات الليبرالية تدمر الناس والدول والمؤسسات بنجاح لا يقل عن الأنظمة الشمولية التي كافحت ضدها. وهذا يثبت أن القيم والمثل أعلى من الفكر، وهي قادرة على حجب نظر أكثر الأشخاص والمؤسسات تطورا»، مشيرا إلى أن الأحداث التي شهدتها أفغانستان ما بعد الانسحاب الأميركي وتسليم السلطة إلى جماعة طالبان التي كانت سببا في العدوان الأميركي على أفغانستان عام 2001 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، كشفت هذه الأحداث عن انهيار عقيدة الديمقراطية الليبرالية التي روج لها البعض مع انتهاء الحرب الباردة والادعاء آنذاك بانتصار الليبرالية ونهاية التاريخ على حد قول الكاتب الأميركي الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ.
إذ أثبتت الأحداث المتتالية إفلاس تلك الرؤية الأميركية، صحيح أن المعركة انتهت بانهيار وتفكك المنظومة الاشتراكية السوفياتية إلا أنه من الصحيح أيضا أنها لم تعن نهاية التاريخ وتوقفه، بقدر ما تعني بدء مرحلة جديدة من التنافس والصراع ما لم يؤخذ بعين الاعتبار الواقع القائم، وهذا ما أشار إليه المستشار الأوكراني بقوله صراحة إن «الولايات المتحدة تجني الآن نتائج تصوراتها الخاطئة عن الواقع، والتي كلفت مئات المليارات من الدولارات ومئات الآلاف من الأرواح»، ليتفق في ذلك مع ما ذكره المفكر المصرى عبد المنعم سعيد في إشارته إلى أن التجارب الأخرى التي قامت في أفغانستان والعراق، فشلت فيها عمليات الهندسة السياسية لإنتاج مجتمعات وفقاً للمقاسات الليبرالية الأميركية، التي تتجاهل الواقع وما طرأ ويطرأ عليه من تطورات.
والحقيقة أن هذه الرؤى رغم أنها سبقت العملية العسكرية التي قامت بها روسيا ضد أوكرانيا والتي دخلت أسبوعها السادس ولا تزال الأزمة تزداد اشتعالا من ناحية، وتتعدد تأثيراتها وانعكاساتها على مختلف بلدان العالم من ناحية أخرى، إلا أنها أكدت على صدق التحليلات التي حذرت مرارا من فرض قالب ديمقراطي على الدول دون أن تكون هناك قراءة دقيقة للواقع بإشكالاته وأزماته، وهو ما جسدته الأزمة الأوكرانية اليوم. إذ إنه في الوقت الذي حاولت مختلف نظم الحكم المتعاقبة في أوكرانيا منذ استقلالها في أوائل تسعينات القرن المنصرم، أن تكون قراءتها للمشهد الدولي والإقليمي قراءة دقيقة ومتأنية خشية أن تقع الدولة بين مطرقة الغرب والولايات المتحدة وسندان روسيا، إدراكا لواقع أوكراني يعكس سمتين مهمتين:
الأولى، الموقع الجيوستراتيجي الذي تشغله أوكرانيا في الجوار الروسي، إذ تمثل أوكرانيا إحدى نقاط الضعف في الجسد الروسي الذي تحرص موسكو جيدا على حمايته والذود عن أية تهديدات تأتي من جانبه.
الثانية، طبيعة التركيبة السكانية للدولة الأوكرانية وتوزيعاتها الجغرافية داخل أقاليمها التي يمكن أن تأخذ شكل التباعد بين شرقها (ذي العرق الروسي والثقافة واللغة الروسية) وغربها (ذي العرق الأوكراني وغلبة الثقافة الغربية واللغة الإنجليزية إلى جانب اللغة الأوكرانية).
في ضوء هاتين السمتين، يصبح من الأهمية بمكان التأكيد على جملة من الملاحظات في محاولة لتفسير تفاقم الأزمة وتعقيداتها المتزايدة بما قد يُسهم في طرح رؤى وسيناريوهات بشأن مساراتها المستقبلية، وذلك من خلال محورين:
الأزمة الأوكرانية.. إخفاق الداخل وتدخلات الخارج
في قراءة تحمل بعدا لم يحظ بالاهتمام من جانب كثير من الدراسات والتحليلات بشأن تفسير الأزمة الأوكرانية وتعقيدات مشهدها، يتعلق هذا البعد بالتركيبة السكانية داخل الدولة الأوكرانية وإخفاق النظام السياسى الأوكراني بعد ما عُرف بالثورة البرتقالية، تلك الثورة التي كانت ضمن حزمة من الثورات الملونة التي شهدتها المنطقة، إذ مع إزاحة النخبة الحاكمة المؤيدة للمواقف الروسية، دخلت الدولة الأوكرانية في حلقة مفرغة من التوترات الداخلية والتظاهرات الشعبية التي حاولت أن تفرض رؤاها على العملية السياسية منتهزة الدعم الغربي بصفة عامة والأميركي على وجه الخصوص، ذلك الدعم الذي لم يتجاوز الخطابات المؤيدة والدافعة للمواطنين إلى الخروج للشوارع والمطالبة بإصلاحات سياسية تعزيز المسيرة الديمقراطية التي تفسح المزيد من المشاركة الشعبية في صناعة واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، أملا في تقليد النموذج الديمقراطي الغربي بمفاهيمه وآلياته وتوجهاته، كونه النموذج الأكثر تعبيرا عن الإرادة الشعبية والتطلعات المجتمعية، وذلك من دون أن تأخذ في الحسبان خطورة مثل هذا التوجه القائم على التقليد دون مراعاة الفوارق والتمايز الذي يتطلب البحث عن مقاربات أخرى تضمن تحقيق الهدف المتمثل في تأسيس نظام حكم ديمقراطي غير فاسد دون أن يكون ذلك على حساب أمن الدولة واستقرارها بل وعلى وجودها ذاته، وهذا ما لم يدركه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الذي جاء من بيئة غير سياسية جعلته ينظر إلى الأوضاع ويقيّم الظروف والأحداث من منظور غير واقعي، وهذا ما كان قد علق عليه الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو قبيل انطلاق الحملة الانتخابية للرئيس الأوكراني الحالي زيلينسكي بعدما أعلن عن نيته خوض غمار العملية الانتخابية الرئاسية، إذ ذكر بوروشينكو أن «رئاسة البلاد مسؤولية وطنية ثقيلة وليست مسرحية هزلية يمكننا تجاوزها إذا لم تكن مضحكة، وليست فيلماً استعراضيا ساخراً... أريد أن أذكر الجميع أن الأمر لا يتعلق بمزحة، إنها انتخابات تتعلق بمنصب القائد الأعلى». وبعيدا عن طبيعة الموقف من الرئيس السابق بوروشينكو وما شهدته فترة حكمه للدولة الأوكرانية، يظل هذا التعليق معبرا بشكل جلي عن الواقع الراهن الذي تعيشه أوكرانيا اليوم تحت القصف الروسي المستمر والتخاذل الغربي والأميركي المتوقع، إذ يمكن القول إن التجربة الأوكرانية في ثورتها البرتقالية التي سبقت ما شهدته المنطقة العربية من ثورات وُصفت بالربيع العربي الذي تحول إلى خريف عاصف بدول المنطقة وشعوبها، مثلّت نموذجا للدول والشعوب في مختلف مناطق العالم بأن القالب الديمقراطي الجاهز الذي تحاول بعض هذه الدول استيراده من الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، إنما يحمل في طياته جراثيم فناء الدولة إذا لم يُؤخذ بعين الاعتبار الواقع الراهن وتحدياته وأزماته من ناحية. وأن لا تكون الدولة ساحة مستباحة للتدخلات الخارجية من ناحية أخرى وهذا ما أشار إليه صراحة الكاتب الأميركي جورج فريدمان في تحليل نشره موقع ستراتفورد الأميركي أثناء الثورة الأوكرانية عام 2014، تناول فيه دلالة التدخل الأوروبي وتأثيره على تفاقم الأزمات والتحديات التي واجهت الدولة الأوكرانية منذ ذلك الوقت، مؤكدا على أن ما حدث لن يؤدي إلى الاستقرار السياسي أو الحفاظ على الوحدة الوطنية، بل تنبأ آنذاك بأن الدولة الأوكرانية ستواجه تحديات وأزمات في قادم الأيام، وهى النبوءة التي تحققت أيضا وكأن الوضع في أوكرانيا لم يكن يحتاج إلى كل هذه النبوءات التي تتوقع مستقبلا مظلما للدولة الأوكرانية ما لم يبحث الجميع عن رؤية تضع الشعب الأوكراني في بوتقة وطنية جامعة.
الأزمة الأوكرانية... قراءة صحيحة في واقع معقد
كشفت الأزمة الأوكرانية عن أن الأطراف جميعها (الروسية والغربية والنخبة السياسية الأوكرانية الحاكمة اليوم) لم تكن لديها قراءة دقيقة للواقع الأوكراني الذي مثّل الساحة التي تجري عليها المعركة اليوم، وهو ما يفرض على الجميع أن يعيد النظر في منطلقاته وتوجهاته إذا أردنا أن نصل إلى حلول سريعة وناجزة لتلك الأزمة المعقدة والمتشابكة والمتداخلة، والتي تحمل بلا شك تداعيات عدة على أوضاع العالم بأسره؛ سياسيا واقتصاديا وعسكريا وأمنيا وبيئيا.
وفي ضوء ذلك يصبح من الأهمية بمكان أن يُعاد النظر في كثير من المنطلقات المتعلقة بقراءة الأزمة وتحليل أبعادها، وذلك من جانب الأطراف المتداخلة بشكل مباشر فيها، ويمثلون ثلاثة مستويات، هي:
1- المستوى الغربي/ الأميركي، إذ أضحى من المهم أن يدرك الغرب الأوروبي والولايات المتحدة جيدا أن الأزمة لم تحقق وحدة تشكيلاته (الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) بقدر ما أنها كشفت عن أزمة بنيوية في هذه التشكيلات التي أخفقت حتى الآن في اتخاذ قرارات موحدة أو متوافقة بشأن التعامل مع الأزمة وتداعياتها من ناحية، والموقف من التعامل مع موسكو وتدخلاتها من ناحية أخرى.
2- المستوى الداخلي الأوكراني، إذ يجب عليه أن يدرك جيدا أن الدولة أخفقت في تحقيق المواطنة الكاملة لجميع سكانها في الشرق الأكثر ميلا للروس، وفي الغرب الأكثر تطلعا للاندماج مع الاتحاد الأوروبي، فقد أدى هذا الإخفاق إلى حدوث كثير من الأزمات والتظاهرات التي لعبت دورا مهما في تغيير الأنظمة السياسية، لتعاني الدولة من حالة عدم الاستقرار السياسي والتي صاحبتها إخفاقات عدة أدت إلى خروج المواطنين الأوكرانيين إلى الشارع بين الحين والآخر للمطالبة بحقوقهم المعيشية، بل وصل الأمر إلى المطالبة بالانفصال سواء أدى هذا الانفصال إلى الاندماج مع الدولة الروسية كما هو الحال في جزيرة القرم التي انضمت عام 2014، أم إلى الاستقلال كما هو الحال في إقليمى لوغانسك ودونيتسك، وهما الجمهوريتان اللتان اعترفت موسكو باستقلالهما في 21 فبراير (شباط) الماضي (قبيل بدء العملية العسكرية الروسية بثلاثة أيام). ويذكر أن هذا الاستقلال وما صحبه من اعتراف هو ما يُعطي موسكو السند القانوني بالتدخل بناء على طلب حكومة شرعية في جمهوريتين مستقلتين طالبتا بالوجود الروسي على غرار الحجة التي أعلنتها موسكو حين تدخلها في الأزمة السورية. ما نود أن نخلص إليه أن أحد الأسباب الرئيسية في بدء الأزمة الأوكرانية ليس فقط من اليوم وإنما في السابق، إنما يرجع إلى إخفاق الدولة الأوكرانية في تبني نموذج ديمقراطي يأخذ في اعتباره الواقع الجغرافي للدولة من ناحية، وتركيبتها السكانية من ناحية أخرى، وتشابكات سياستها الخارجية من ناحية ثالثة. فقد أفرزت ديمقراطيتها الشكلية عن وصول رئيس فشل في تفادي اﻷزمات، وتسبب في استحداث المزيد منها، ولم تكن لديه رؤية واضحة حول الهدف الذي يريد تحقيقه، فدخلت البلد في أتون حرب تهدد وجودها.
3- المستوى الروسي، يتفهم الكثيرون المخاوف الروسية من تمدد حلف الناتو شرقا وصولا إلى الحدود الروسية المباشرة، وكذلك التوسع الأوروبي من خلال ضم الدول الحدودية للدولة الروسية في إطار منظومة الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا التفهم لا يعني أن تُقدم موسكو على شن عملية عسكرية على الأراضي الأوكرانية بشكل مباغت أزهقت مئات الأرواح وخلفت آلاف الإصابات من الجانبين، بل وفتحت المجال لاستقدام مرتزقة لخوض الحرب إلى جانب الطرفين وهو ما يدخل المنطقة في أزمة مركبة حتى إذا ما تم التوصل إلى تفاهمات روسية أوكرانية بدعم غربي للطرف الأوكراني. ولكن الأزمة تدور حول كيفية التعامل مع هؤلاء المرتزقة ما بعد نهاية الحرب؟ ومن ثم، كان يجب على موسكو التريث لحين استنفاد كافة الطرق الدبلوماسية التي تحقق الحد الأدنى من مطالبها المتعلقة بحياد الدولة الأوكرانية بعيدا عن الاصطفاف إلى هذا الجانب أو ذاك. صحيح أن موسكو كانت حريصة على ذلك كما هو واضح من خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وممثلي الدولة الروسية، إلا أن الغرب وبصفة خاصة الولايات المتحدة رأت في إشعال الموقف لحظة مواتية لتحقيق مصالحها على حساب حياة الشعوب ومستقبل أبنائهم.
جوهر القول إن الإخفاق الأوكراني في إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية في ظل غياب الرؤية الوطنية الجامعة لمختلف التكوينات المجتمعية والعرقية واللغوية، أفسح المجال أمام إثارة الانتماءات الأولية لدى الفئات الأكثر تعرضا للتهميش، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أفسح المجال أمام التدخلات الخارجية لتقديم الدعم لكل طرف من الأطراف المؤيدة لمواقفه، فكان الانقسام هو سيد الموقف في الداخل الأوكراني بدءا من أزمة جزيرة القرم وصولا إلى الأزمة الراهنة التي تتداخل فيها الأبعاد وتتشابك فيها الأطراف وتغيب عنها الرؤية ويغلب علي مسيرتها الضباب الكثيف الذي يحتاج إلى طيار ماهر قادر على قيادة سفينة الوطن للوصول بها إلى بر الأمان، فهل الشعب الأوكراني قادر في تلك الظروف أن يُفرز هذا الطيار الماهر الذي يُنقذ وطنه والعالم بأسره من أزمة بدأت محدودة مكانيا داخل أوكرانيا، إلا أنها تطورت جغرافيا لتمتد تأثيراتها إلى مختلف بقاع المعمورة؟