القاهرة: في خضم الأحداث المتلاحقة، وما تعانيه القارة العجوز من مشكلات سياسية كبيرة، ومشكلات أخرى تتعلق بأزمة الطاقة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت بالآلاف، بل الملايين من الأوكرانيين للنزوح هرباً من جحيم القصف الروسي، شيعت مصر منذ أيام جثامين 5 من الشباب الذين غرقوا في إحدى رحلات الهجرة غير الشرعية، فيما غرق 12 شخصاً قبالة السواحل الليبية و9 آخرون قبالة السواحل التونسية خلال أسبوع واحد فقط.
هذه الأحداث فتحت الباب للتساؤلات حول الأسباب التي تدفع هؤلاء الشباب للبحث عن مستقبل زائف، وحلم متواصل بالوصول إلى الشاطئ الشمالي من البحر المتوسط الذي يعني لهم تحقيق حلم الثراء. كما تزيد التساؤلات حول الوجهة، والمقصد (أوروبا)، وعوامل الجذب التي تغري هؤلاء الشباب للمخاطرة بالموت غرقاً على عتباتها، رغم ما تشهده القارة حاليا من معاناة سببتها الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تخيل الكثيرون، أنها سوف تحتم على الراغبين في خوض تجربة الهجرة غير النظامية إعادة حساباتهم.
ويبدو أن الحرب لم تغير شيئا من ذلك، ولا تزال أوروبا هي أرض الأحلام، وهذا يلقي الضوء على سماسرة الموت في هذه الرحلات، الذين قد يلعبون دورا جديدا خلال الفترة القادمة، إذا ما طال أمد الحرب سعيا وراء تجنيد هؤلاء الشباب الحالمين للانخراط في آتون الحرب مقابل حفنة من الدولارات، ومن لم يمت غرقا مات في الميدان.
مغامرة قد تنتهي بالثراء.. أو «الغرق» الحتمي
قام المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر بعمل بحوث عديدة عن الهجرة غير الشرعية، وتنظيم دورات توعية بالتعاون مع وزارة الهجرة لزيادة الوعي بمخاطر الهجرة غير الشرعية، وأسبابها.
وحول تلك الأسباب، قالت أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الدكتورة منال عمران، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»: إن المهاجر غير الشرعي عندما يتمكن من الوصول إلى الأراضي الأوروبية ويجد فرصة عمل تمكنه من تحقيق مكاسب مادية كبيرة، يعود بعد أعوام من الهجرة إلى بلده، ويبني منزلا كبيرا من عدة طوابق، ويتزوج، ويشتري قطعة أرض، ولكن أغلب المهاجرين غير الشرعيين الآن يتم ترحيلهم إلى بلدانهم، لأن معظم الدول الأوروبية لم تعد تستوعبهم كما في السابق، حيث كانت السلطات الأوروبية عندما تجد مهاجرين غير شرعيين في حالة غرق، تقوم بإنقاذهم، وإيجاد مأوى لهم واستيعابهم، أما الأن فأصبحت تتركهم لمصيرهم الحتمي وهو الغرق، وتنتشلهم جثثاً فقط.
وأضافت أن من أسباب الهجرة غير الشرعية عدم الوعي لدى هؤلاء الشباب، وكيف لهم أن يحققوا طموحاتهم في وطنهم، برغم ما تقوم به الدولة من جهود لتوعيتهم خاصة جهاز تنمية المشاريع الذي يقوم بعمل مشاريع للشباب حتى يثنيهم عن فكرة السفر، والخطوة الإيجابية التي تقوم بها الدولة هي إقامة مشاريع لهم واستيعابهم وتنمية الوعي لديهم لمخاطر الهجرة غير الشرعية، وهي خطوة إيجابية جدا من الدولة، بحيث توجد لهم فرص بديلة عن التفكير في السفر.
أوروبا الحلم.. وتصدير الوهم
هناك وهم متعلق بمسألة الهجرة غير الشرعية تحديدا إلى أوروبا، فإذا تمكن شخص من العبور بسلام إلى أوروبا ووجد عملا، وحقق بعض المكاسب المادية نجده يعود ليصدر الوهم لبقية أقرانه، مؤكدا لهم أن المسألة فيها امتيازات عديدة جدا، وهو ما أكدته خبيرة العلاقات الأسرية والزوجية عصمت عبد الحميد، وقالت في تصريحات خاصة لـ«المجلة»: لو وجد الشباب نفسه في وطنه، ووجد عملا لما أقدم على هذه الخطوة، فمن هؤلاء الشباب من يبيع ممتلكات أسرته من أجل السفر، ولو قام أي شاب بعمل مشروع صغير بهذه المبالغ لحقق أرباحا ومكاسب، ونحن نحتاج إلى توعية الشباب، فلدينا مراكز شباب في كل مصر، إضافة إلى قصور الثقافة، ولو اتفقنا مع مجموعات من الشباب في القرى ممن لديهم خدمة عامة، وبدأنا في إعدادهم لمخاطبة الشباب للتفكير في مشروعات تناسب إمكاناتهم بدلا من إضاعة كل شيء من أجل السفر، والتفكير في مشروعات تعود عليهم بالربح دون مغامرة.
وأوربا هي «حلم» لدى الشباب، فهم يعتقدون أن كل شيء هناك بلا مقابل (ببلاش) ولا يعلم أنه سيجد صعوبات كبيرة هناك. وعلى الرغم من معاناة أوروبا حاليا ووجود أزمات متعلقة بالطاقة، وأزمات سياسية أخرى جاءت جراء الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى موجات الهجرة القادمة من أوكرانيا، إلا أن أوروبا لا تزال تمثل حلما لدى الشباب، وهذا الحلم مرتبط بشكل كبير بعدم الوعي، فلو جاء أحد أفراد المجموعات التي تشتري المرتزقة لتشغيلهم في الصراعات والحروب خاصة في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا وعرض على هؤلاء الشباب مرتبات تزيد على عشرة آلاف حنية شهريا، فماذا تظن؟ إنهم يستقطبون الشباب بكل الطرق من أجل الحرب، وشبابنا الآن بعيد عن الأهل، وبعيد عن ثقافته وبعيد عن المجتمع، وبعيد عن كل شيء، ففي الماضي كان هناك من يقوم بدور التوعية، ولكن اليوم الشباب ليس لديه شيء، وهذا عيب مجتمعي، نحن تفككنا، وأنا أتذكر في الماضي كان التلفزيون يقوم بدور المربي مع البيت، فكان هناك برامج للتربية، فمثلا كان هناك برنامج يسمى «عادات وتقاليد» تقدمه الفنانة عقيلة راتب، تحكي موقفا من خلاله كل يوم، فيترسخ هذا الموقف في الذهن، وحاليا تم إلغاء كل الأشياء الاجتماعية من الإعلام، وهو ما دمر الإعلام، فنحن نلاحظ أن خريطة البرامج أصبحت تتركز في برامج الطبخ، وبرامج الموضة، وبرامج الإعلانات وما إلى ذلك، وهو ما يتطلب إعادة دور التربية مرة أخرى للراديو والتلفزيون، وكذلك المسرح، وقصور الثقافة التي كانت تلعب دورا غير عادي في هذا المجال، وكذلك المسرح المدرسي.
وهناك «مافيا» تساعد الشياب على الهجرة غير الشرعية ليس في مصر ومنطقتنا فقط، ولكن في العالم، فلديهم نقص في عدد الشباب، ويحاولون شراء عناصر بأية طريقة فصحيح أن الحرب تقع فوق الأرض الأوكرانية، ولكنها حرب بالوكالة بين القوى العظمى. وهذا بالضبط ما حدث خلال حرب إيران والعراق، حيث تم تجنيد العديد من الشباب الذين سافروا إلى هناك، وهذا يدلل على أن هناك من يقوم بالتأثير على أدمغة الشباب، وأفكارهم، ونحن نريد أن نرى من يقوم بالتوعية الصحيحة لهم. ولا بد أن يحس الشباب بقيمته، وما يدفع الشباب للسفر في موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا التي تمثل حلما بالنسبة لهم مسائل تراكمية ساهم فيها المجتمع، والمدرسة، والدولة، وتدني الثقافة العامة، والبعد عن الذات، فالشاب لم يعد يحس بقيمته، ويرى ذاته وقيمته من خلال الهجرة ولا يفهم أن هناك «مقلبا» يدبر.
حلم يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحالة الاقتصادية
أوروبا في النهاية بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين هي وضع اقتصادي أفضل، وهؤلاء الشباب المقدمون على الهجرة غير الشرعية أغلقت أمامهم أبواب الرزق والعمل الكريم، وعادة لا يجدون فرص عمل في بلادهم، حسب الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الدكتور عمرو الشوبكي، في تصريحات خاصة لـ«المجلة» أكد فيها أن مخاطرة من هذا النوع، قد تكلف من يقدم عليها حياته، ليس معناها أنه لا يعمل ولا يجد عملا فقط، ولكن ليس لديه أفق في أن يجد عملا، فهو ليس فقط عاجزا عن العمل، ولكنه وصل إلى درجة من الإحباط أنه يتصور أنه لن يجد أية فرص للعمل في بلده، فيقدم على مخاطرة قد تكلفه حياته. وعلى مستوى أوروبا يظل هناك المستوى الاقتصادي الأفضل، وفكرة أنه يشعر أنه سوف يعامل بطريقة أفضل رغم العنصرية ورغم المشكلات الموجودة في أوروبا إلا أنه لا يزال هناك حلم أوروبي له علاقه بحقوق الإنسان والديمقراطية، وأنه ستكون لديه حيثية هناك، وقطعا هناك مشاكل في الوضع الأوروبي وأنه سيكتشف أن هناك أزمات كثيرة، وعنصرية تجعله يواجه تحديات كثيرة.
وهناك سببان لظاهرة الهجرة غير الشرعية هما، البعد الاقتصادي، والبعد السياسي، حيث يرى الشاب أنه سوف يحقق هذين البعدين هناك، وقد يكون الإقدام على هذه الخطوة نابعا من نزعات شخصية لديه قد تكلفه حياته، فنحن نتكلم عن ظاهرة مركبة ولها تبعاتها، وهناك بلا شك مؤشرات وفق إحصائيات علمية لأزمات أسرية، وبطالة، وغياب الأفق وبالتأكيد الأسرة تتحمل جزءا، والدولة والنظام السياسي يتحملان الجزء الآخر، والفكرة أنه لابد أن نعطي أملا للشباب، وأن يكون هناك إحساس حتى لو لم يكن يعمل، أو ظروفه في العمل صعبة، إنما لابد أن يكون لديه أمل في المستقبل وأن الأوضاع قد تتحسن، لأن المشكلة في غياب الأمل لدى هؤلاء الذين يقدمون على مثل هذه الخطوة، أنها تجعلهم يقدمون على مخاطرة بحياتهم، لأنه ليس لديهم تصور لأي أمل بتحسين أوضاعهم في بلادهم الأصلية نتيجة جملة من الأسباب الأسرية، وأسباب لها علاقة بالواقع المجتمعي ومسؤولية الدولة.
المؤكد أن هناك جزءا يقدم على مثل هذه الخطوة ويتحمل مخاطرها الجسيمة، ويدفع أموالا كثيرة من أجل تنفيذها لأن لديه قناعة أن تنفيذ أي مشروع بهذه الأموال لن يكون له عائد، فهو جيل محبط في حاجة إلى معالجة اجتماعية ونفسية أيضا، وتأهيل مجتمعي، لأن فكرة أن هناك أناسا ظروفهم الاجتماعية سيئة جدا إلا أن لديهم أملا في الغد، وأملا في تحسن الأوضاع، هي العامل الحاسم في الموضوع.
الحرب الروسية الأوكرانية جعلت أوروبا تعاني من الأزمات السياسية، وأزمات الطاقة، والبطالة والعنصرية وهو ما سوف يجعل جزءا من الشباب يعيد حساباته مرة أخرى، ولكن مهمتنا أن نعطي الأمل للشباب الذي يقدم على مثل هذه الخطوة، لأن الأمل هو مستقبله في بلده مهما كانت الظروف صعبه، وتشجيعهم على السفر بعقود موثقة، لأن الهجرة النظامية مشروعة، والتنقل حق مشروع، ولا بد من وجود قناعة بالأمل في المستقبل، وجهود أكبر من الدولة لحل هذه المشاكل.
نقل الصورة الزائفة
بعد تواريخ طويلة جدا تزيد على مائة عام، من يسافر للبلاد الأوروبية عند عودته لا يحكي سوى الجانب الإيجابي لرحلته، فإذا ظل في أوروبا عشر سنوات عاني خلالها معاناة قاسية سوف ينساها ولا يحكي سوى الجانب المشرق في رحلته فقط، فهناك صورة زائفة إلى حد كبير يتم نقلها. وهناك فريق مستفيد من هذه الرحلات الشريرة، حسب أستاذة الاجتماع السياسي الدكتورة هدى زكريا، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، وهم الذين يرتبون الرحلة، وتجار الهجرة غير المشروعة يروجون للرحلة مستفيدين من الحالة النفسية لدى الناس ويتربحون بشكل مرعب، ويعتمدون في جزء كبير من القصة على الرغبة العارمة في الخروج من المكان، والسفر، وهذه الرغبة تأتي من خلال الأقرباء والأصدقاء ممن سافروا وحققوا مكاسب كبيرة.
الدولة ليست مسؤولة عن هذه الظاهرة، والمجتمع نفسه هو المسؤول عن هذه الحالة، إضافة إلى من سبق لهم السفر للبلاد الأوروبية ونقلوا صورة زائفة، فهم قد لعبوا دورا مهما في نمو هذه الظاهرة، برغم أن المهاجرين غير الشرعيين يتعرضون لمعاناة كبيرة. كما أن الإعلام لم يحاول تسجيل حقيقة الأمر، أو الدراما التي تغطي هذه الظاهرة وهذا فقط ما يمكنه من رفع مستوى الوعي لدى الناس الذين يحلمون بالسفر، كما أنه لا يوجد نوع من ضوابط التوعية التي يمكنها أن تساهم في تحقيق معرفة عالية ومعلومات لدى الناس، وإنعاش حالة الانتماء والهوية.
أعتقد أنه بعد الحرب الروسية الأوكرانية ستكون هناك وقفة مع النفس، فالشباب الذين التحقوا بالجامعات الأوكرانية على سبيل المثال عندما عادوا إلى مصر تم تجهيز امتحانات لهم لتقييمهم، لأن حلم الإفلات من القواعد الصارمة في الجامعات قد ولى، كل هذه الأمور إلى حد كبير اكتشفها هؤلاء، وأن الأمان في المحروسة.