تتوفر فرنسا على تمثيل دبلوماسي كبير يغطي كافة أرجاء المعمورة بأزيد من 150 سفارة ومندوبية دائمة، يؤمن عدد منها تواجدا دبلوماسيا فرنسيا في كل الدول العربية مدعوما بتمثيل قنصلي وازن في عدد من المدن العربية الكبرى غير العواصم.
وتعزى بعض أسباب كثافة التمثيل الدبلوماسي الفرنسي في العالم العربي إلى الروابط التاريخية التي لدى باريس مع دوله عبر البحر الأبيض المتوسط منذ حملة نابليون على مصر، مرورا بالحقبة الاستعمارية التي خضعت خلالها ثماني دول عربية للاحتلال الفرنسي، وصولا إلى فترة ميلاد الجمهورية الخامسة سنة 1958، التي بدأت فرنسا معها الترويج لصورتها الجديدة بعد التخلص من التركة الاستعمارية، واتخاذ نهج مستقل نسبيا عن سياسة الاستقطاب التي ميزت العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
فهذا النهج الذي أمسك بالعصا من الوسط بين واشنطن وموسكو، مكن باريس من أن تحظى بالتقدير والاحترام في معظم بلدان العالم العربي، وسهل لها إقامة علاقات تجارية واستثمارية ضخمة في المنطقة، وتطوير أسس تعاون أمني وعسكري متينة، وتأمين إشعاع ثقافي متميز حتى في الدول المحسوبة على المعسكر الأنغلوفوني. ولم يقتصر تقدير فرنسا على الأوساط الرسمية والنخب العربية، وإنما امتد أيضا إلى الرأي العام العربي نظرا لعدة مواقف جريئة وغير منحازة اتخذتها باريس في مجموعة قضايا عربية وإسلامية.
فلا أحد ينسى أن فرنسا من أوائل الدول الأوروبية التي تواصلت مع منظمة التحرير الفلسطينية عندما كانت هذه الأخيرة تصنف منظمة إرهابية، كما لا يمكن تجاهل الدور الفرنسي في إصدار بيان البندقية سنة 1980، الذي اعترفت بموجبه دول السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي) لأول مرة بأن القضية الفلسطينية ليست مشكلة لاجئين، ومن الضروري تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره في إطار سلام شامل يضمن الأمن لكل دول المنطقة، والعدل لكل شعوبها.
ولا شك أن كثيرين ما زالوا يتذكرون موقف الرئيس الراحل جاك شيراك من الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، والمرافعات القانونية لوزير خارجيته دومينيك دوفيلبان في الأمم المتحدة المفندة لأسباب الغزو، وخاصة تصريح وزيره الأول جان بيير رافاران الذي رد على مقولة الرئيس الأميركي حينها جورج بوش الابن بأن «اللعبة انتهت» مؤكدا أن ما حصل ليس لعبة، ولم تنتهIt’s not a game, and it’s not over.
وبانقضاء فترة رئاسة جاك شيراك التي انتهت معها حقبة الشخصيات السياسية الفرنسية الكاريزمية، وفي غمرة احتدام التنافس الدولي تجاريا وتكنولوجيا واستثماريا مع دخول الصين للحلبة بقوة، ستكتشف فرنسا أن نفوذها الاقتصادي يتآكل في عدة دول عربية، كما أن إشعاعها الثقافي في تراجع بعد أن بلغ أوجه باقتحام قلاع إنجليزية اللغة الثانية مثل افتتاح فرع لجامعة السوربون في أبوظبي، وجامعة سنغور الفرنكفونية بالإسكندرية المصرية.
وطبيعي في وضع كهذا أن تضطر باريس إلى إجراء تعديلات جوهرية في نشاطها الدبلوماسي بالعمل في مختلف الساحات على تغليب المصالح بشكل سافر دون تغليفها بادعاء الدفاع عن المبادئ، غير آبهة بالانتقادات التي طالتها نتيجة اصطفافها في حالات كثيرة خلف السياسة الخارجية الأميركية.
وقد كان لذلك انعكاسات على تحركاتها بالعالم العربي، التي ظلت مكثفة، ولكنها دخلت مرحلة جديدة تميزت بالتخبط وأحيانا بالتناقض في اتخاذ القرارات والعجز عن الاستقلال في طرح المبادرات؛ الأمر الذي حد كثيرا من تأثير باريس ومن فعالية نشاطها الدبلوماسي، الذي غدا باهتا في معظم القضايا بما فيها تلك التي تمس مباشرة مصالحها الحيوية.
لقد طهر التناقض الفرنسي جليا في التعامل مع ثورتي الشعبين التونسي والليبي، إذ إنه رغم أن الرئيس زين العابدين بن علي لا يقل استبدادا عن العقيد القذافي، فإن فرنسا استماتت إلى آخر لحظة في دعمه عقب ثورة الياسمين؛ فيما تزعمت دبلوماسيا وعسكريا عملية إسقاط الزعيم الليبي، الذي خصصت له من قبل استقبال الفاتحين، وسبق لعدد من ساستها الاستفادة من كرمه الحاتمي.
ورغم أن فرنسا من أكثر الدول معاناة من الإرهاب المتدثر بالدين الذي آلمها كثيرا في عقر دارها، والتي أبدت تصميما كبيرا على محاربته إلا أنها اضطرت في هذا الإطار إلى الاصطفاف خلف واشنطن رغم تقلبات مواقف هذه الأخيرة وترددها غير المفهوم أحيانا سواء أكان ذلك ضد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بزعامة أبو مصعب الزرقاوي قبل تصفيته، أو في سوريا والعراق في مواجهة داعش وما تبقى من فلولها.
واللافت في هذا الصد أن فرنسا عندما أخذت زمام المبادرة بمنأى عن الموقف الأميركي في منطقة الساحل الأفريقي وخاصة شمال مالي لم تحقق النجاح المطلوب، بل اضطرت بعد ثماني سنوات من المواجهة إلى الانسحاب وإنهاء عملية برخان دون التمكن من اجتثاث الفرع المحلي لتنظيم القاعدة، الذي كانت تعرف جيدا تواصله وتفاهمه مع السلطات الجزائرية التي لم تكن تخفي رغبتها في إحباط الجهود الفرنسية لإدراكها أن باريس عاجزة عن القيام بأي رد فعل قوي ضدها.
وفيما بدا كتحرك لاستعادة بعض من كبرياء فرنسا في المشرق وصل الرئيس الفرنسي إلى لبنان غداة انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 واعدا بالدعم للإصلاحات المطلوبة، ومتوعدا بالعقوبات والمحاسبة لكل من يعرقلها. ولكن بعد أكثر من رحلة إلى بيروت، وترؤس أكثر من اجتماع لفائدة لبنان دون نتيجة سيتأكد الرئيس ماكرون أن هيبة فرنسا في بلاد الأرز تآكلت، وتأثيرها قد بهت. لقد ذهب هنالك في ثوب المسيح المخلص، ولكنه تعثر في مطبات عمامة المنتظر.
فهل ستقتنع باريس بأن نصائحها لم تعد مجدية، ولا أنوارها مغرية؟