القاهرة: وضعت حرب أوكرانيا كثيرًا من المفاهيم موضع اختبار حقيقي، من حيث الصلابة والاتساق والقابلية للتغير، وفي قلب هذه المفاهيم (الأوروبية)، كهوية أو كفضاء جيوستراتيجي، وشهدت مستويات (التعميم) و(التخصيص) حالة من الفوضى في الخطابين السياسي والإعلامي. وهذه الفوضى تتجاوز في تأثيراتها نطاقها المباشر: السياسي والإعلامي، إلى أن تصبح شكلًا من أشكال الفوضى المعرفية/ الثقافية، التي تترك البعض عاجزًا عن فهم (الآني) والبعض الآخر عاجزًا عن (الاستشراف)، ولا مبالغة في القول بأن العجز عن الاستشراف قد أصبح موضع إشارات متكررة منسوبًا إلى مؤسسات اعتمدت على تعميمات تتصل بالدلالات الأكثر رجحانًا في الخطاب السياسي، أو السلوك السياسي للأطراف الرئيسة في الأزمة الحالية: أوكرانيا، روسيا، أميركا، وأوروبا.
من أسئلة المتاهة
خلال الأسابيع التي تلت تحرك القوات الروسية تحركت ماكينات إنتاج خطاب إعلامي، وخطاب سياسي، يطلق أحكامًا بالنفي والإثبات لا تقتصر أسباب تباينها على جهات الاصطفاف التي يمثلها منتجوها، حتى إن الأزمة أصبحت أكثر استعصاءً على الفهم والتنبؤ، استنادًا إلى هذه الخطابات. وقد أصبحت حدود ما هو ثنائي (روسي/ أوكراني)، وحدود ما هو أوروبي، وحدود ما هو عالمي، تنطوي على كثير من الافتقار إلى الاتساق. وخطاب (الاستدراج) أحد وجوه التناقض، وربما كان وجهه الآخر خطاب (الامتداد). وبمعنى آخر كاد الصراع يفقد جانبًا كبيرًا من معناه بتغييب إرادة روسيا (التي استدرجتها أميركا) وإرادة أوكرانيا (التي خدعتها أوروبا)... وهكذا.
ومن أسباب هذه المتاهة اختلاط مفهوم أوروبا بين (جغرافي) و(جيوستراتيجي)، فأوكرانيا جزء من أوروبا تاريخيًا وثقافيًا وأمنيًا حتى لو لم تنضم للاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي فإن الحريق (أوروبي بامتياز) رغم أن الطرفين المباشرين في معاركه ليسا كذلك بالمعيار الجيوستراتيجي الذي ما يزال نطاق مدلوله يتغير، فمع كل توسع للناتو شرقًا يتغير النطاق الجغرافي للمفهوم، ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تغير نطاقه مرة أخرى. وأوروبا، بحسب المفهومين: الجغرافي والجيوستراتيجي تتعايش منذ عقود مع تباينات ليست بالقليلة، بينها: المسار الصراعي الفرعي بين اليونان وتركيا، والمسار المتوسطي الذي- كان حتى حرب أوكرانيا- يولي اهتمامًا أكبر لشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، فضلًا عن مسار تمثله دول شمال أوروبا المتاخمة لروسيا وجميعها تشارك أوكرنيا نظرتها السلبية لروسيا، ومسار بريطاني يعد الأكثر تشددًا في معادة روسيا من الجميع، بالإضافة إلى علاقتها المتميزة مع الولايات المتحدة الأميركية التي حلت محلها في قيادة التشكيل الأنغلوسكسوني. وأوروبا بهذا التفصيل ظاهرة سياسية/ ثقافية تنطوي على تنوع كبير، وتسعى في الوقت نفسه لتعزيز المشترك بين مكوناتها، ويسير تعزيز المشترك على ساقين: الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
كلمة المحور الفرنسي الألماني
في لفتة نادرة أصدرت ألمانيا وفرنسا، الدولتان اللتان توصفان بـ(قاطرة الاتحاد الأوروبي)، مقالًا مشركًا حول الحرب في أوكرانيا (19/ 3/ 2022). المقال صدر في العاصمة الأردنية عمان بتوقيع السفيرة الفرنسية فيرونيك فولاند، والسفير الألماني بيرنهارد كامبمان، ونشرته وسائل إعلام أردنية. ورغم أن المقال ليس بيانًا رسميًا- بالمعنى الكلاسيكي- لكنه إعلان موقف رسمي يستمد أهميته من الوزن النسبي الكبير للمحور الفرنسي الألماني الذي كان لسنوات المحرك الرئيسي للمسيرة الأوروبية، وهو ما تعزز بشكل كبير بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست/ 2016).
المقال وصف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بالغزو الوحشي، وتمت الإشارة فيه- رغم أنه قصير نسبيًا- إلى دور بيلاروسيا ونظام لوكاشينكو. وغلب على لغة المقال سمة محددة هي التركيز على ما يمثله الغزو من انتهاك للقانون الدولي، وبدلًا من التركيز على (البُعد الأوروبي) فيه، وبحسب المقال فإن «هذا الهجوم غير المبرر على دولة ذات سيادة هو ببساطة أمر لا يُحتمل، ويشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي. فهو ينتهك ما لا يقل عن اثنتي عشرة معاهدة دولية وثنائية، بدءًا بميثاق الأمم المتحدة». وفي إطار إصرار تمت صياغته بعناية شديدة، على تحاشي لغة الاستقطاب الأوروبي/ الروسي ورد فيه أن (الغزو الروسي ليس مشكلة أوكرانيا أو أوروبا فحسب: فعندما يتعرض النظام الدولي القائم على قواعد للتهديد، فإن الأمر يعنينا جميعا. وفي كثير من الحالات، التي يسود فيها العنف والقهر والظلم، يظل التمسك بالقانون الدولي أفضل ما لدينا من أدوات، وأحيانا أداتنا الوحيدة، وإضعافه يعرض قدرتنا المشتركة على حل النزاعات في جميع أنحاء العالم للخطر)، ولكون المقال قد صدر في عاصمة عربية، فإنه لم يغفل الإشارة إلى أن النزاعات المقصودة تشمل ما يشهده الشرق الأوسط.
وفي رغبة واضحة في رسم خط فاصل واضح بين الخطابين الأميركي والأوروبي (متمثلًا في المحور الفرنسي الألماني) كتب السفيران بوضوح أنه «في العديد من القضايا الدولية الهامة، بدءاً بالأراضي الفلسطينية المحتلة وانتهاء بسوريا، دعت فرنسا وألمانيا مرارا وتكرارا إلى احترام المعاهدات، وقرارات الأمم المتحدة، وغيرها من الصكوك القانونية الدولية وما زالت فرنسا وألمانيا تدعوان لذلك. إن من شأن العدوان الروسي أن يشكل سابقة فظيعة لمن يريدون فرض قانون الأقوى من أجل حرمان دولة من استقلالها السياسي وتغيير الحدود المعترف بها دوليا بالقوة: لا يمكننا أن نسمح بحدوث ذلك». وقد جاء في موضعٍ تالٍ من المقال أن «ما يحدث في أوكرانيا ليس صدامًا بين العالم الغربي وروسيا، وإنّما محاولة وحشية لإسكات شعب يتوق إلى الحفاظ على استقلاله وحريته، وعمل مثير للسخرية يهدف لتقويض وتحطيم المبادئ الدولية، التي سيعيش كل بلد في العالم بدونها في خوف».
وأول ملامح التمايز عن الخطاب الرسمي الأميركي هنا أن قواعد العلاقات الدولية، وليس الديمقراطية، هي ما تستهدف الدولتان حمايته، فالخطاب الرسمي الأميركي عن الصراع على أوكرانيا كجزء من جبهة صراع أوسع بين النظم الشمولية والنظم الديمقراطية، يستحضر الاستقطاب التاريخي الذي تحكم في العلاقات الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، وهكذا فإن الدولتين ترسمان لدبلوماسيتهما مسارًا متمايزًا لا ينفي استمرارية التحايل التاريخي بين شرق الأطلطني وغربه، لكن باستخدام مفردات قاموس «الهروب إلى الأمام» عبر توسيع دائرة النزاع ليشمل الدفاع عن «سلام العالم» بدلًا من الدفاع عن ديمقراطية أوروبا أو رفاهيتها أو أمنها.
اشتباك حول الخطاب الروسي
ومن القضايا المهمة في المقال المشترك للسفيرين، حرصهما على تفكيك جانب من البنية المعرفية/ الأخلاقية للخطاب الروسي، وهو يكشف عن الأهمية المتصاعدة للأفكار في الصراعات السياسية الكبرى، فبعد ما يقرب من نصف قرن من الإلحاح «غير الرشيد» على أن العالم لم يعد يعبأ إلا بالمصالح، وبنظرة أكثر ابتسارًا بـ«الموارد» تؤكد حرب أوكرانيا أن القناعات والقيم والتصورات ذات الأساس النظري ما تزال تلعب دورًا، إما في اتخاذ القرار وإما في تسويقه وتبريره. ومما ورد في المقال في هذا السياق أن هذه الحرب «كانت مبيتة ومتعمدة»، وكييف «ليست المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لاتفاقات مينسك، وهي أيضاً لا تمتلك أسلحة دمار شامل». وأما الحضور الأكثر وضوحًا في المقال للتباين الثقافي بين روسيا وأوروبا، فتعبر بوضوح بعبارة نصها: «... وعقد المقارنات بالحرب العالمية الثانية وبالنازية إضافة إلى الاتهامات بارتكاب إبادة جماعية هي اتهامات غير مسؤولة ومعيبة ولا أساس لها من الصحة».
ومن الرد القاسي على الاستدعاءات الروسية للتاريخ إلى التفنيد الأكثر قسوة للادعاءات السياسية الروسية وهي «مبررات رئيسية» تسوق بها روسيا قرارها بشن الحرب، فقد جاء في المقال أن «التمرد الانفصالي المدعوم من روسيا في عام 2014 هو الذي أدّى إلى مقتل حوالي 14000 أوكراني وإصابة الكثيرين». واللغة كما هو واضح تستهدف بشكل متعمد تأكيد الاختلاف بين الخطابين الأميركي والأوروبي، لكنها ليست لغة تصالحية بالمرة، بل تضع روسيا أمام جبهة صراع مختلفة عن تلك التي تخوض أميركا صراعها فيها، وتظل الدائرتان: الأميركية والأوروبية متداخلتان، وإن لم تكونا متطابقتين.
الإغواء بما يشبه التهديد
من الأفكار التي تتسم صياغتها بقدر واضح من الدهاء ما كتبه السفيران عن مسألة تمدد الناتو، وجاء في المقال ما نصه: «كما أن الحرب في أوكرانيا لا تتعلّق بتهديد أمني مفترض لروسيا من قبل الناتو. ولم يقدّم أعضاء الناتو أبدًا أي تعهد سياسي أو قانوني ملزم يقضي بعدم قبول دول تقع ما بعد ألمانيا الموحدة وتعبر بإرادة حرة عن رغبتها في الانضمام إلى الحلف. والقرارات المتعلقة بعضوية الناتو تخضع للسلطة التقديرية لكل متقدم بشكل فردي وكذلك للسلطة التقديرية لحلفاء الناتو الثلاثين الحاليين. وليس من حق دولة ثالثة أن تتدخل في قرارات دول ذات سيادة في هذا الصدد». وهو «إغواء» ذكي بإمكانية أن تكون هناك حل لمشكلة تمدد الناتو، رغم أن أحدًا لم يقدم تعهدًا بشأن ذلك.
وقضية تمدد الناتو شرقًا إحدى القضايا الخلافية الحساسة التي تتجاوز العدوان على أوكرانيا، وبحسب الرواية الرسمية الروسية فإن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أعطى تعهدًا شفويًا بأن لا يتمدد حلف الناتو شرقًا، وهو ما تنكره الولايات المتحدة الأميركية. والصياغة الواردة في المقال تتحاشى ذكر هذه التعهدات تمامًا، ولا تكتفي بذلك، بل تنفي نفيًا قاطعًا أن يكون أعضاء الناتو قد منحوا تعهدًا بهذا الشأن، وهي صياغة تتسم بالكثير من الدهاء السياسي (!!!)
في المقابل يوجه السفيران في مقالهما انتقادًا خطيرًا بشأن خرق روسيا «اتفاقًا مكتوبًا» لا مجرد «تعهد شفوي» ينكره من يفترض أنه أصدره، جاء في المقال: «في عام 1994 تعهدت موسكو باحترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها وأمنها مقابل نزع سلاحها النووي. مرة أخرى، أخلّت روسيا بالتزاماتها». وفي ردٍ غير مباشر على ما يمتلئ به فضاء الإعلام الافتراضي من استدعاء للمواقف الغربية من القضية الفلسطينية جاء في المقال أن «إدانة العدوان الروسي لا تعني إعطاء الأولوية لصراع على آخر، بل هي دعم للمبادئ العالمية ذاتها ولحق الجميع في العيش في سلام وحرية وكرامة»، ولا يستطيع منصف أن ينكر أن المقارنة بين القضيتين يضع أوروبا في موقع لا تحسد عليه.
وخلال الأسابيع التي تلت قرار الحرب كان لحسابات المصالح الأوروبية دور مؤثر بشكل ملموس في نطاق العقوبات التي يمكن فرضها على روسيا، حيث الارتهان الأوروبي لواردات النفط والغاز من روسيا تتجاوز حسابات الكلفة بمعناها المباشر البسيط. ورغم أن الحرب غيرت أولويات المحور الفرنسي الألماني ولغة خطابه فإنها لم تؤد- حتى الآن على الأقل- إلى (أمركة) الخطاب الأوروبي، بل بقي (الصوت الأوروبي) يقترب من الموقف الأميركي بحذر ويسعى إلى النأي بالقارة العجوز عن أي احتمال لأن تصبح ساحة صراع عالمي لا تمسك عواصمها (مقود) قرارها. ومن مفارقات هذه الحرب أن فلاديمير بوتين نفسه، دون أن يقصد، تسبب في دفع أوروبا خطوات كبيرة باتجاه الولايات المتحدة الأميركية بينما كان البدهي- وربما قصد ذلك وفشل- أن يكرس بسلوكه مسار «أوروبا الأوروبية» (!!!)
* باحثة العلوم السياسية- مصر.