تدخل الحكومات في الأزمة لا يعني زوال اقتصاد السوق

تدخل الحكومات في الأزمة لا يعني زوال اقتصاد السوق

[escenic_image id="559415"]

لقد تنبأ بل وتمنى الكثيرون عبر التاريخ زوال الرأسمالية. والأمثلة على ذلك لا حصر لها، بدءًا ممن وضعوا نظريات عن نهايتها وصولاً إلى من حاولوا تطبيق بديل لها. ومع ذلك فإن التاريخ لم يسلِّم بعد بتنبؤات ماركس، كما أنه لم يعط إلى الآن تبريرًا للأسواق التي تسيطر عليها الدولة كما الحال في الاتحاد السوفيتي السابق وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها من الدول. وبين الحين والآخر يثبت خطأ التكهن بزوال الرأسمالية، كما أن نعْي الرأسمالية الذي صاحب الأزمة المالية الحالية ثبُت أنه سابق لأوانه.    

ولتقييم مدى إمكانية استمرار الرأسمالية، يمكن المشاركة في جدل واسع النطاق يتناول قضايا متعددة تبدأ بتقييم الرأسمالية وتنتهي بإعطاء تعريف محدد ودقيق لها. وقد يتجاوز الأمر ذلك ليتضمن فهماً لأحد العوامل التي تجاهلها الكثيرون ممن تبنوها، وهو قدرة الرأسمالية على التطور وتشكيل صورة أفضل لذاتها، على الأقل إلى أن تتطلب الأزمة القادمة تغييرًا لاحقًا لديناميكياتها.

والرأسمالية في حالتها المثالية يتم فيها امتلاك وسائل الإنتاج أو رأس المال ملكية خاصة، كما يتم التعامل في البضائع والعمالة في سوق عالمي حر. وهذه الصورة المثالية لم تر النور بعد. وبدلاً من ذلك، فإن تاريخ الرأسمالية في صوره المتنوعة خاض على الأرجح سلسلة من التطورات التي صحبتها دورات للحمائية والليبرالية. فلماذا إذن الادعاء من جديد بأن الرأسمالية قد انتهت؟

إن الأزمة الاقتصادية العالمية كان لها تأثير كبير على طريقة عمل الاقتصاد الأمريكي الذي ظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالصورة المثالية للرأسمالية. فبالرغم من التجارب السابقة للاقتصاد الأمريكي مع الحمائية، فإن هذا الاقتصاد ظل خلال العقود الماضية بمثابة مدافع قوي عن الرأسمالية في أعتى صورها. وقد تأثرت الولايات المتحدة إضافة إلى المؤسسات المالية القائمة على أرضها مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تأثرًا كبيرًا بالمدرسة الليبرالية الجديدة في الفكر الاقتصادي. ونتيجة لذلك، عندما أرادت هاتان المؤسستان التغلب على الركود الذي أصاب الدول النامية في فترة السبعينيات، فقد وضعتا نصب أعينهما تشجيع تلك الدول على تحرير السوق والاستقرار المالي. وبالرغم من أن فاعلية هذه المعايير أصبحت موضع جدل فيما بعد، فإن الأساس الاقتصادي للولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية ظل قائمًا على الرأسمالية.

وفي نهاية 2007 وبداية 2008، أصبح من الصعب التعرف على السياسات التي تتبناها الولايات المتحدة مقارنة بفلسفتها السابقة. فبعد أن رأت مصرف ليمان برذرز وهو ينهار دون مد يد العون له، لم تكن الحكومة على استعداد لأن ترى مؤسسات مالية أخرى تنهار بنفس الطريقة. ومن خلال مجموعة من الضمانات والتأميم الواقعي للشركات، يقال إن الحكومة تمكنت من استعادة الاستقرار بعد الهبوط الذي كان قد أذهل الكثيرين.

واتخاذ الولايات المتحدة هذه المعايير يعني أن التأثير المحتمل الذي كان من الممكن أن تحدثه الأزمة بما يتجاوز ما أحدثته بالفعل لا بد أنه كان أكبر مما يمكن تصوره. وهذه الممارسات كانت منافية تمامًا لما تعبر عنه القيم الجمهورية للحكومة الأمريكية؛ تلك القيم التي كانت في بداية الركود قوية بصورة نسبية. وتتعارض هذه الممارسات مع الفكرة الماثلة وراء حكومة صغيرة، ومع ذلك فإنه تم اعتبارها بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ الاقتصاد الأمريكي من الانهيار.

إذن هل تشير هذه الممارسات إلى اندثار الرأسمالية؟ وهل هي تتعارض مع أسس الرؤية الأمريكية الجديدة للرأسمالية؟ مطلقًا، بل على النقيض، تجسد هذه الممارسات الطبيعة الثورية للرأسمالية التي يُعزَى إليها جانب كبير مما تتمتع به الرأسمالية من مرونة.

وفي حين أثنى الكثيرون على الإنقاذ المالي وزيادة القواعد المنظمة للنظام المالي الأمريكي واعتبروا ذلك أمرًا مناسبًا تمامًا، نجد آخرين قد أصروا على أن هذا الاتجاه ساعد النظام الاقتصادي السابق على البقاء بشكل كبير. ومقارنةً بالتحولات السابقة في القواعد الاقتصادية، لم تُظهر الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007، أي تغييرات جوهرية في أسس النظام قبل الأزمة. وهذه الممارسات بمثابة دليل دامغ على أن النظام الاقتصادي ظل ثابتًا إلى حد بعيد.

لكن إذا لم تكن الأزمة المالية قد تمكنت من القضاء على الرأسمالية، فأي شيء إذن تمكنت من القضاء عليه؟ فبجانب التقليل كثيرًا من شأن قدر كبير من النمو الذي حدث العام الماضي، تمكنت الأزمة الاقتصادية في الوقت الراهن من القضاء على فكرة "اعتبار الاقتصاد" علمًا من العلوم.

لقد أظهرت الأزمة الاقتصادية العالمية أن علماء الاقتصاد لا يمكنهم التنبؤ بكل الأزمات، بل إنهم حتى لا يتفقون حول الكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع نفس الأزمة. والادعاء بأن الاقتصاد هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يفوز فيه اثنان بجائزة نوبل لإثباتهما فكرتين متناقضتين لم يكن مقنعًا أكثر مما هو عليه الآن.

فكيف إذن يؤثر هذا على فهمنا للوضع الحالي للاقتصاد، خصوصًا عندما نأخذ في الحسبان تنامي شعبية عالم اقتصاد بريطاني شهير أخيرًا وهو جون مينا رد كينيز؟ وأهم ما يعرف به كينيز معارضته للاعتقاد الراسخ بأن السوق لديه قدرة ذاتية على التحكم في مشكلاته على المدى الطويل. فعلى العكس من ذلك، رأى كينيز أن المرء لا يتحمل رفاهية ترك السوق يضبط نفسه ذاتيًّا لأنه ببساطة سوف نكون قد فارقنا الحياة على المدى الطويل".

وبالرغم من أن هذا ـ على ما يبدو ـ كان بمثابة توجه لدى الحكومة الأمريكية كرد فعل للأزمة، أشار عالم الاقتصاد المعروف روبرت لوكاس بجامعة شيكاغو، إلى أن "الجميع يؤيدون كينيز وإن أخفوا ذلك، وإذا استقر الاقتصاد الأمريكي، فسوف يخرج هؤلاء من مخبئهم".

في شهر سبتمبر الماضي، مرَّ عام على انهيار بنك ليمان برذرز، وبالفعل فإن هناك دلائل على التعافي في كل مكان. وإذا كان قد مر أقل من عام بما يكفي لإنهاء الأزمة على حساب تطبيق نهج أكثر فاعلية في التعامل مع الاقتصاد، أليس صحيحًا أن هذه المعايير أنقذت بالفعل الرأسمالية من جديد؟

للرأسمالية صور شتى، وزيادة المشاركة الحكومية في الاقتصاد اليوم بمثابة صورة أخرى لهذا النظام الذي تكون له مزاياه في أوقات الاضطراب الاقتصادي. فهو يسمح للحكومات بتحقيق التوازن مع التقييم الأمين "لليد الخفية" التي رصدت الأصول السامة على مدار عام مضى وكشفت النقاب عن حقيقتها. لكن ماذا تُكلِّفنا ممارسة الحكومة نفوذها في مجال الاقتصاد؟

لقد أشار ميلتون فريدمان، إلى أن الرأسمالية والديمقراطية ترتبطان ارتباطًا طبيعيًّا ببعضهما البعض. وهذا يستتبع فرضية أنه؛ كلما قلت حرية الرأسمالية، تراجعت ديمقراطية المؤسسات. وأوضح إيان بريمر، الكاتب في مجلة فورين أفيرز، أن "التدخل الحكومي بشكل أعمق في الاقتصاد يعني أن احتمالات إعاقة البيروقراطية وعدم الكفاءة والفساد لعملية النمو، سوف تكون أكبر". بعبارة أخرى، بالرغم من أن الرأسمالية تتيح فرصًا لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فإنه كلما قلت ديمقراطية وشفافية الدولة، زادت احتمالات انتقال عدم الفعالية إلى الاقتصاد الذي تؤثر عليه.

وبالرغم من أن الرأسمالية لم تندثر، فإن الرأسمالية القائمة حاليا والتي تكاد تقترب من رأسمالية الدولة قد تكون مصدرًا للمشكلات بالنسبة للدول بنفس القدر الذي تطرح به حلولا، إن لم يتم ضبطها. وإذا كان ثمة شيء نتعلمه من الأزمة الاقتصادية السابقة، فهو أن الرقابة أمر مهم كي تسود مزايا الرأسمالية. ونفس الأمر ينطبق على رأسمالية الدولة. فالحكومات يتعين عليها عدم مخالفة القواعد الرقابية التي تقوم بوضعها حتى لا تعرقل نشاط السوق.

font change