القامشلي: استقبلت سوريا الذكرى الحادية عشرة لاندلاع احتجاجاتها الشعبية التي شهدتها البلاد منتصف مارس (آذار) من العام 2011، بإحصائياتٍ مخيفة، فالأرقام تشير إلى وجود نحو سبعة ملايين نازح انتقلوا داخل الأراضي السورية موزعين بين مختلف مدنها وأريافها، بالإضافة إلى وجود ما يقارب العدد نفسه من اللاجئين في بلاد الجوار السوري وغيرها من الدول حول العالم، ما يعني أن أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم أكثر من 21 مليوناً في العام 2011، تأثروا بالحرب التي تلت الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بإسقاط النظام السوري ورحيل رئيسه بشار الأسد.
وأدت المصالحات والتسويات التي تمت في عددٍ من المناطق السورية برعايةٍ روسية وتركية وإيرانية طيلة سنوات الحرب السورية إلى إحداث تغيير ديموغرافي كبير، منع الكثير من النازحين الذين نزحوا داخل البلاد من العودة إلى منازلهم، إضافة إلى العمليات العسكرية التي أدت بدورها إلى فرار أعدادٍ كبيرة من السكان من مدنهم وبلداتهم وقراهم كما حصل عند شن تركيا لعملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية بين عامي 2016 و2019.
وعلى الرغم من مرور 11 عاماً على الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها سوريا والحرب التي تلتها وشاركت فيها أطراف إقليمية ودولية، إلا أن المشهد السوري برمته لم يتبدل ولا يزال حتى الآن «قاتماً للغاية»، و«بالغ الصعوبة»، كما يصفه سياسيٌ سوري يقود حزب سوريا أولاً.
وقال سلمان شبيب، رئيس حزب سوريا أولاً في مقابلةٍ مطولة أجرتها «المجلة» هاتفياً إن «هناك استعصاء سياسيا مُحكما، والمسارات السياسية كلها معطلة ومتوقفة ولم يحدث فيها أي اختراق جدي إلى الآن، ولذلك تتراجع يومياً قدرة السوريين على التأثير في تقرير مصيرهم ومستقبلهم لصالح قوى إقليمية ودولية مختلفة، فتدويل الأزمة الحالية أخذ أبعاداً خطيرة تتعمق كل يوم وتجعل أي حلٍ لهذه الأزمة مرتبطاً بوجود توافقاتٍ دولية وإقليمية، من الصعب إن لم يكن من المستحيل توفرها ضمن المناخ الدولي الحالي».
تقسيم بحكم الأمر الواقع وتطبيع عربي خجول
وأضاف: «هناك أيضاً تقسيم فعلي في البلاد مفروض بحكم الأمر الواقع ويحميه تواجدٌ عسكري لجيوش دولٍ عظمى وإقليمية وعشرات التنظيمات والميليشيات التي صُنف بعضها كمنظماتٍ إرهابية من قبل المجتمع الدولي مثل جبهة النصرة (ذراع تنظيم القاعدة في سوريا) وتنظيم داعش الذي تحاول بعض الأطراف إعادة إحيائه من جديد، علاوة على أن المسار السياسي للحل السلمي وهو مسار جنيف والقرار 2254 متوقف كلياً، حتى إن المسارات الجانبية التي افتتحت مثل آستانة قد استنفذت قوتها وأغراضها».
وتابع: «كما أن محاولات التطبيع العربي مع سوريا لا تزال مترددة وخجولة ومرتبطة بحسابات دولية وإقليمية معقدة ومتشابكة، وقد تزامن ذلك مع الحرب الروسيةـ الأوكرانية والاشتباك الدولي العنيف والخطير الذي حدث هناك وأضاف تعقيداً جديداً للأزمة السورية وجعل إمكانية حلها تتطلب حتماً توافقاتٍ دولية خاصة روسيةـ أميركية التي تراجعت بدورها أيضاً إلى حد كبير، ولذلك هناك تهديد جدي بأن تتحول الأراضي السورية إلى ساحة مواجهةٍ جديدة بين هذه الأطراف بعد 11 عاماً من الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها».
ومع وجود هذه التعقيدات السياسية والعسكرية التي تؤثر على الأزمة السورية، تواصل اللجنة الدستورية السورية التي تضم ممثلين عن الحكومة السورية والمعارضة والمجتمع المدني، والتي بدأت عملها رسمياً في جنيف في 30 أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2019، صياغة دستور جديد لدفع عملية السلام في البلاد والتي لم تحرز أي تقدم في عملها رغم ست جولات، وستستمر في عقد جلساتها في مدينة جنيف السويسرية مرةً أخرى في شهر مارس (آذار) الجاري، حيث أعلنت جينيفر فنتون، المتحدثة باسم مكتب المبعوث الأممي الخاص لسوريا في مؤتمر صحافي قبل أسابيع عن «تأكيد الترتيبات اللوجستية» المتعلقة بالجلسة السابعة التي من المقرر عقدها في 20 مارس الحالي، مضيفة أنه «من المفترض عقد الجولتين الثامنة والتاسعة للجنة في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من هذا العام».
وفي هذا الصدد، أكد شبيب أن «نتيجة كل التحركات السياسية المرتبطة بالأزمة السورية وجهود كل المبعوثين الدوليين وعمل اللجنة الدستورية التي مضى على تشكيلها عدة سنوات عقدت خلالها ست جولات فقط، هي صفر أو ما دون ذلك. النتيجة الوحيدة التي لم تعلن حتى الآن هي موت العملية السياسية في سوريا، ودور اللجنة الدستورية يتوقف فقط على التأكيد بوجود مسار سياسي قائم».
المشكلة ليست أزمة دستور والأطراف الدولية غير جادة في حلها
وأضاف: «لا يمكن توقع حصول اختراق جدي وتحقيق نتائج فعلية فيما يتعلق بعمل هذه اللجنة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار آلية تشكيلها وأسلوب عملها، فهي كانت تبحث قضايا في جلساتها السابقة ليست على صلة بمهامها، وهو ما دفع المبعوث الدولي إلى العمل وفق مسار جانبي تمثل بخطته التي أعلنها وسماها طريقة (الخطوة مقابل خطوة)، ولهذا تبدو حظوظها بالنجاح ضئيلة سيما وأن الأزمة في سوريا بالأساس ليست أزمة دستور ولا أعتقد أن إيجاد دستور جديد أو تعديل الدستور القائم يمكنه أن يكون مدخلاً لحل صحيح».
كما رأى أن «عدم جدية كل الأطراف بما في ذلك الداخلية والخارجية للوصول إلى حل أو حتى وضع أساس حقيقي للحل تقف عائقاً أمام أي حلول سلمية، فكل الأطراف والدول الفاعلة في الأزمة السورية تقول وتكرر دوماً أنه لا حل في سوريا إلا الحل السياسي، لكنها جميعاً لا تعمل بشكل جدي للوصول إلى هذا الحل، فهي تعلن عن تمسكها بمرجعية القرار الأممي 2254، لكنها تحاول في ذات الوقت اختراع مسارات أخرى للالتفاف على هذا القرار».
وتابع: «كل الأطراف تؤكد الالتزام بوحدة الأرض السورية وسيادتها وتوقع البيانات التي تنص على ذلك، لكن ممارسات الكثير منها وسلوكها على الأرض تتعارض مع ذلك تماماً. وبالنتيجة إذا كانت الجولات الست السابقة التي عقدت بظروف دولية أفضل دون أن تحقق أي نتائج، فبالتأكيد الجولة الجديدة لن تكون أفضل والسوريون بالأصل فقدوا الاهتمام بهذه اللجنة وفقدوا الأمل من نتائج عملها».
لا بديل عن الحلول بين دمشق و«الإدارة الذاتية»
وبالتزامن مع عقد «اللجنة الدستورية» لجلساتها المتقطعة، فشلت الحكومة في دمشق من الوصول إلى حلول بينها وبين «الإدارة الذاتية» لشمال سوريا وشرقها والتي تشمل مناطقها أجزاء من محافظتي حلب وديرالزور، بالإضافة لكامل محافظتي الرقة والحسكة، باستثناء منطقتين يسيطر عليهما الجيش التركي في مطلع أكتوبر من العام 2019.
وشدد رئيس حزب سورياً أولاً على أنه «لا خيار أمام الحكومة السورية والإدارة الذاتية إلا الوصول إلى اتفاقٍ بينهما مهما تأخر ومهما حاول الجانبان ضمن حساباتهما الخاصة التهرب من هذا الاستحقاق، وباعتقادي يمكن الوصول إلى حلول لكل الإشكالات القائمة بينهما عندما تتوفر الإرادة والرغبة الجادة في ذلك، وعندما ينطلق الطرفان من حساباتٍ وطنية سورية ويبتعدان عن الاستقواء بالأجنبي أو تهديد الآخر به. فالسوريون بمختلف مكوناتهم في قاربٍ واحد تتقاذفه الأمواج، وبالتالي ليس أمامهم سوى مشروع الإنقاذ الجماعي أو الهلاك معاً».
وأردف بالقول: «يمكن للطرفين عقد اتفاقٍ وطني بعيدا عن الآخرين ويمكنه أن يحل كل الإشكالات القائمة مثل مسألة التقسيمات الإدارية ومسألة ضم قوات سوريا الديمقراطية التي تعد بمثابة جيش الإدارة الذاتية إلى الجيش الوطني من خلال ترتيبات ملائمة، وهناك تجارب دولية يمكن الاستفادة منها بهذا الخصوص، فسوريا تحتاج لحل نهائي يحقق مصلحة جميع مكوناتها من خلال شراكة وطنية ضمن وحدة أراضيها».
ومع فشل المباحثات التي أجريت عدة مرات بين دمشق و«الإدارة الذاتية»، كانت تحاول الحكومة فرض سيطرتها عسكرياً في معظم أرجاء البلاد بما في ذلك محافظة إدلب الخارجة عن سيطرتها منذ سنوات، وذلك بدعمٍ روسي، فهل ستؤثر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على تقدم القوات الحكومية داخل الأراضي السورية؟
مسألة إدلب سياسية أكثر منها عسكرية
رداً على هذه التساؤلات، قال شبيب إن «مسألة إدلب والمناطق المحتلة الأخرى التي تسيطر عليها مجموعات إرهابية كجبهة النصرة والقاعدة وتلك المدعومة من قبل الجيش التركي، يمكن أن تحل عسكرياً، إذ يمكن للجيش السوري بمساندة الحليف الروسي أن يحسم هذا الأمر خلال فترةٍ قصيرة وكانت هناك حشود عسكرية ضخمة وتجهيزات متكاملة لتحقيق ذلك، لكن التواجد العسكري التركي الفعلي على الأرض وتفاهمات موسكو وأنقرة وشبكة المصالح المتداخلة بينهما أعاقت ذلك».
وأشار إلى أن «تقاطع المصالح الروسيةـ التركية والترتيبات بين الجانبين، تجعل مسألة إعادة فرض الحكومة لسيطرتها على إدلب وغيرها من المناطق، سياسية أكثر منها عسكرية، وبالتالي ترتبط إلى حد كبير بالحل السياسي الشامل للأزمة السورية بأبعادها الإقليمية والدولية المتشعبة، ولذلك ستؤثر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بشكلٍ مباشر ومبكر على الوضع في إدلب والأزمة السورية ككل».
وأدت الحرب السورية إلى تدهور اقتصادي كبير في البلاد، حيث يعيش أكثر من 90 في المائة من السكان تحت خط الفقر بحسب منظماتٍ دولية أكدت حاجة هؤلاء الماسة للمساعدات. ووصف رئيس حزب سوريا أولاً هذا الوضع بـ«المأساوي وبالغ القساوة».
وقال أيضاً إن «الواقع على الأرض أكثر سوداوية من التقارير الدولية، فالوضع الاقتصادي والإنساني بالغ القساوة ويزداد صعوبةً باستمرار، وقد لا يصدق البعض أن هناك عائلاتٍ تتخلى عن أطفالها لعجزهم عن إطعامهم. ومع استمرار هذه الأزمة، هناك تحلل وتفكك كبير في منظومة القيم المجتمعية وقد بدأت تظهر نتائجه في جرائم مروعة غريبة وغير معهودة في تاريخ المجتمع السوري نتيجة لحالة الفقر والجوع التي تعاني منها أعداد متزايدة من السكان لا سيما مع غياب فرص معقولة للعمل على خلفية التدمير الذي طال كل البنية الإنتاجية في البلاد».
تراجعت خدمات الدولة وارتفعت معدلات الفقر
وكشف أيضاً أن «التراجع الهائل في مستوى دخل الأسرة السورية والذي يترافق مع ارتفاع متواصل في متطلبات تأمين الحد الأدنى للحياة، كأسعار المواد الأساسية وخاصة الغذائية إثر التراجع الدائم في قيمة العملة الوطنية، بالإضافة للعجز عن توفير الكهرباء ومواد المحروقات وعدم وجود فرص عمل، ساهم في ارتفاع معدلات الفقر لدى السكان ووضعتهم في مواجهة ظروفٍ إنسانية كارثية».
وبين أن «هناك تراجعاً واضحاً في مستوى وعمل القطاعات الصحية من مشافٍ ومستوصفات، نتيجة تراجع إمكانيات الدولة على خلفية الحرب الراهنة، علاوة على الحصار الدولي المفروض على البلاد والعقوبات الغربية، خاصة قانون قيصر الأميركي الذي ساهم بشكلٍ كبير في زيادة الصعوبات التي يعاني منها السوريون، وأوجد القانون بيئة مناسبة لتغول قوى النهب والفساد وفتكت بالطبقات الأكثر فقراً منهم وجعلت الحياة بسوريا شبه مستحيلة وجعلت ملايين الشباب أمام خيارات شبه انتحارية كالهجرة بأي طريقةٍ ومهما كانت درجة المخاطر فيها عالية. كما أدى كل هذا للأسف إلى غرق السوريين في قوارب الهجرة غير الشرعية، ناهيك عن أن عدداً كبيراً منهم مع الأسف تحول إلى مرتزقة تشارك في حروب الآخرين وعلى جبهاتٍ متعددة مثل ليبيا وأرمينيا وأخيراً في أوكرانيا».