بون: يثير توقيت القصف الإيراني على ما اعتبرته طهران «أهدافاً استراتيجية» إسرائيلية في مدينة أربيل، جملة من التساؤلات بشأن فحوى الرسالة التي أرادت طهران إيصالها، وماهية أبعادها ودلالاتها الداخلية والدولية، خاصة في هذا التوقيت المشحون بنزاع وتوتر دولي لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ما يستوجب قراءة الحدث من زوايا عدة.
هجوم باليستي
في الساعة 01:20 بالتوقيت المحلي من يوم 13 مارس (آذار)، تم إطلاق ما يصل إلى اثني عشر صاروخا باليستياً قصير المدى، الأرجح صواريخ فاتح 110، من منطقة تبريز الإيرانية باتجاه أربيل المكتظة بالسكان. قطعت الصواريخ حوالي 275 كيلومتراً، وكان كل منها يحمل أكثر من 1100 رطل من المتفجرات. أصابت معظم المقذوفات بدقة فيلا فاخرة يملكها باز كريم، رجل الأعمال البارز المرتبط بقادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، عائلة بارزاني. وأصابت واحدة على الأقل محطة تلفزيون «K24» القريبة، المملوكة للبارزاني. لحسن الحظ، لم تكن هناك وفيات- ربما بسبب الساعة المتأخرة أو أن الاستهداف كان دقيقاً. ومع ذلك، كان خطر حدوث أضرار جانبية عالية، وقبلت إيران هذا الخطر من خلال إطلاق صواريخ كبيرة على مدينة بعيدة المدى.
فيما يعد خروجاً على ما درجت عليه طهران من ممارسة الضغط العسكري من خلال فصائل مسلحة تعمل بالنيابة عنها، أعلن الحرس الثوري الإيراني استهداف ما قال إنها «مراكز استراتيجية» إسرائيلية تعمل بشكل سري انطلاقاً من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق شبه المستقل. قال المتحدث باسم خارجية إيران خطيب زادة: «ليس من المقبول إطلاقا أن يتحول أحد جيراننا الذي تربطنا معه علاقات عميقة في مختلف المستويات إلى بؤرة لتهديد إيران.. سواء من قبل زمر إرهابية مناهضة للثورة أو زمر إرهابية أخرى أو من قبل الكيان الصهيوني انطلاقا من الإقليم». متهما الحكومة العراقية بأنها تجاهلت رسائل طهران في هذا الشأن.
تم تقديم مجموعة من المبررات من قبل الحرس الثوري الإيراني والقنوات الدعائية التابعة له في إيران والعراق. منها أن طهران كانت تنتقم من تعرض قاعدة إيرانية للطائرات المسيرة في محافظة كرمنشاه لهجوم بطائرات إسرائيلية مسيرة في 14 فبراير (شباط) الماضي، تقول مصادر إيرانية إنها انطلقت من قاعدة لإسرائيل في أربيل، وهو الحادث الذي ألقى النظام الإيراني باللوم فيه على إسرائيل. وقد جاء الهجوم الصاروخي أيضًا بعد أيام فقط من غارة جوية إسرائيلية في 7 مارس في سوريا أسفرت عن مقتل العقيدين في الحرس الثوري الإيراني إحسان كربلائي بور، ومرتضى سعيد نجاد، مما دفع الحرس الثوري الإيراني للتهديد بالانتقام في اليوم التالي. كما أن مصادرة الولايات المتحدة لناقلة نفط إيرانية في جزر الباهاما ورفضها الإفراج عنها رغم المطالب الإيرانية زاد من غضب قادة الحرس الثوري تجاه مسؤولي المخابرات الإيرانية، وهو ما كان الدافع الرئيسي للتصعيد حسب ما أفاد به أحد المسؤولين.
تعد حادثة أربيل الأخيرة هي الأولى من نوعها التي تتبنى إيران تنفيذها بشكل علني وصريح، منذ الهجوم على قاعدة عين الأسد الأميركية الذي كان من الواضح أنه هجوم صوري لحفظ ماء الوجه بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني. لكن ما الذي دفع إيران إلى تغيير أسلوب هجماتها في العراق، بعد أن كانت تعتمد بشكل شبه كلي على وكلائها لتنفيذ مهماتها، والمقصود بهم «الفصائل الشيعية المسلحة» التي انضوت جميعها في هيئة الحشد الشعبي وشنّت خلال السنوات الأخيرة عشرات الهجمات في بغداد والمحافظات العراقية، طالت قواعد عسكرية توجد داخلها القوات الأميركية، ومقارّ البعثات الدبلوماسية الأميركية في بغداد وأربيل، بالإضافة إلى أرتال الدعم اللوجستي التابعة لقوات التحالف الدولي.
أما عن رسائل إيران من الهجوم، فقد يكون الهدف من لجوء طهران إلى تنفيذ هجماتها بنفسها هذه المرة هو إيصال رسالة مباشرة إلى الداخل العراقي والخارج (الدولي) وبشطرين: أحدهما أن إيران لا تخشى توجيه ضربة مباشرة بنفسها داخل العراق وقصف أي هدف تريد والإعلان عن ذلك، وليست بحاجة إلى وكلاء، وهذا بلا شك تغير وتطور لافت في أسلوب الهجمات الإيرانية.
والثاني: أن إيران بضربها لأربيل تؤكد أن مصلحة أمنها القومي فوق كل اعتبارات سياسية عراقية وأن أمنها خط أحمر، ولن تسمح بأي تقارب عراقي مستقبلي مع إسرائيل أو من تراه إيران عدواً لها مثل بعض الدول العربية والغربية، وأن الصواريخ البالستية ستدمر أي موقع ترى فيه طهران تهديداً لأمنها القومي داخل العراق.
أما عن الفرضيات المطروحة لتفسير أسباب استهداف إيران القنصلية الأميركية في إربيل، فيمكن تناولها ضمن بعدين، بعد إقليمي دولي، وبعد عراقي داخلي:
الأبعاد الإقليمية الدولية
اللافت في هجوم أربيل أنّه جاء خلال اجتياز الأمتار الأخيرة التي فصلت الأميركيّين والإيرانيين عن إعادة إحياء الاتفاق النووي بعد مفاوضات شاقة استمرت 11 أسبوعًا في فيينا. لكنّ المحادثات شهدت في الأيام الأخيرة عرقلة روسية، حيث طالبت موسكو الأميركيين بضمان أن لا تؤدي العقوبات المفروضة عليها بسبب غزوها أوكرانيا إلى تقويض علاقاتها التجارية مع إيران.
ويبدو أن الإيرانيين يحاولون تسخين المشهد وممارسة ضغط على واشنطن في لحظة لا تبدو فيها راغبة في الدخول في أي مواجهة عسكرية إطلاقًا، بل تتعجل إبرام تفاهمات مع إيران لإعادتها إلى الاتفاق النووي لأسباب داخلية منها إحراز إنجاز تحتاج إليه إدارة بايدن الآن، وأخرى خارجية منها التفرغ لمواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية، وهنا أيضًا توصل إيران رسائل لواشنطن مفادها أنها لن تتخلى عن أذرعها المسلحة في المنطقة، وهو مطلب أميركي رفضت طهران إدراجه في المفاوضات النووية الجارية في العاصمة النمساوية فيينا؛ إذ تعمد إيران من حين لآخر إلى خلق أوراق مساومة في مفاوضاتها مع القوى الكبرى الدائرة في فيينا لوضع نهاية لبرنامجها النووي، لكن الورقة هذه المرة هي أمن مدينة أربيل التي تضم القنصلية الأميركية وقاعدة عسكرية أميركية أيضا.
إنّ سبب التصعيد الإيراني الكبير من جهة أخرى، يقترن مع تشتيت تركيز الأميركيين عما يجري في أوكرانيا. يساعد ذلك إلى حدّ ما الروس حليفهم الذين يخوضون معركتهم العسكرية في أوكرانيا، وهي معركة لا تجري وفقاً لمخططاتهم بفعل استنزافها لقدراتهم العسكرية والاقتصادية. إيران سعت من خلال هجماتها الباليستية على أربيل باستهداف محيط القنصلية الأميركية، إيصال رسائل عاجلة وسريعة إلى واشنطن بأنها وأذرعها في العراق قادرة على تهديد مصالح واشنطن إذا ما أصرت الأخيرة على مواصلة دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا.
هنالك أيضاً التصدير المحتمل للغاز الطبيعي من إقليم كردستان إلى أوروبا عبر تركيا. قد يعطي هذا الأمر الاتحاد الأوروبي مصدراً بديلاً للغاز لتخفيف الاعتماد على روسيا. بالتالي، إن منطق الهجمات يشمل «تقاطعاً بين المصالح الروسية والإيرانية (أو الحرس الثوري)». خاصة بعد ورود معلومات بأن شركة «كار» الذي استهدف منزل صاحبها، تسيطر على قطاع النفط في إقليم كردستان وهي من تقوم بمد أنبوب غاز كردستان إلى الحدود التركية، وتأمل أن تصدر غاز الإقليم إلى تركيا وهذا يتعارض مع المصالح الإيرانية.
الأبعاد الداخلية- فرض إرادة حلفاء طهران
على الرغم من ادّعاء طهران أن القصف جاء رداً على مقتل قائدين إيرانيين في سوريا، إلا أنه يمكن وصفه بأنه يمثل دخولاً مباشراً على خط أزمة تشكيل الحكومة العراقية. بعد استثناء الفصائل الموالية لإيران من المفاوضات لتشكيل الحكومة الائتلافية المقبلة ما استدعى تدخلا إيرانيا لعرقلة هذا المسار.
وكانت نتائج الانتخابات العراقية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، قد شهدت متغيرات رئيسية، إذ خسرت كتل الميليشيات المُوالية لإيران غالبية مقاعدها البرلمانية، ومنحت تلك الانتخابات انتصارا لرجل الدين مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الذي يعارض النفوذ الإيراني والمنافس الرئيسي لبني مذهبه المتحالفين مع إيران. وهدد الصدر باستبعاد الجماعات المدعومة من إيران من الحكومة، وأقام تحالفا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحكم أربيل، فضلا عن مجموعات عربية سنية أبرزهم رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وإعلان الصدر أنه سيرشح ابن عمه جعفر الصدر السفير العراقي في بيروت. ما دفع الفصائل الموالية لإيران إلى إثارة التصعيد تلو الآخر خلال الأشهر الماضية في محاولة لإعادة التفاهمات السياسية حول الحكومة المقبلة إلى سياق التوافق والمُحاصصة مرة أخرى.
فشلت إيران عبر وكلائها في تفكيك التحالف الثلاثي بين الديمقراطي والتيار الصدري والحلبوسي، أو الحصول على ضمانات من هذا التحالف بشأن التوجهات والاستراتيجيات المستقبلية لأي حكومة عراقية قد تتشكل في المستقبل القريب، فلجأت إلى الهجوم تحذيراً للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يسيطر على أربيل وحكومة إقليم كردستان بزعامة مسعود بارزاني الذي بات يُتهم من جانب أوساط إيرانية بالإسهام في تشتيت «البيت الشيعي» من استبعاد الأحزاب المدعومة من إيران في الحكومة المقبلة.
التقييم
تتزامن الضربة المباشرة غير المعتادة مع نقطة تحول محتملة في ميزان القوى في الشرق الأوسط، في وقت تواجه فيه محادثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني شبح الانهيار وتتزايد فيه كذلك مخاطر نشوب حرب في منطقة الخليج، بينما يحاول القادة العراقيون في بغداد تشكيل حكومة جديدة متحررة من النفوذ الإيراني.
طهران تخشى مخاض نظام سياسي جديد في العراق يحمل رغبة في تفكيك مراكز القوى العراقية الموالية لإيران، خصوصاً المسلحة منها. لذا تسعى لتوجيه رسالة ربما هي أكثر وضوحاً وعنفاً مما سبق، بأن ذلك لن يحصل مطلقاً وتحاول تحطيم هذا الإصرار من قبل التحالف، في المرات السابقة كانت ترسل بعض الطائرات المسيرة من الداخل العراقي وتخفي هوية الفاعل، واليوم تطلق صواريخ باليستية من خارج الحدود.
تؤكد الضربة الصاروخية الإيرانية جملة حقائق كانت موضع تحليل وتعليق، من ضمنها استمرار استخدام إيران العراق كأرض تصفية حسابات، كما تؤشر على سياسة إيران المقبلة في المنطقة، والمتمثلة في استمرار دعم الميليشيات المسلحة التابعة لها في عدة دول، وأن هذا لن تتم المساومة عليه في الاتفاق النووي. كما تشير هذه الضربة إلى أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن شجعت طهران على المضي في هذا السبيل، بعد أن تراخى بايدن في تطبيق العقوبات على إيران، وأفرغ الضغوط القصوى التي مارسها سلفه دونالد ترامب عليها؛ ما قلل من قيمة التفاوض معها حول برنامجها النووي.
يمكن اعتبار أن صواريخ إيران هي رسالة واضحة إلى مقتدى الصدر، الذي ما زال لحد الآن يواجه صعوبات بتشكيل الحكومة، صواريخ إيران هي رسالة تحذيرية إلى إقليم كردستان الداعمة للصدر، ما تريده طهران هو تحييد الكتل السياسية المؤيدة للصدر وبالتالي تحاول إفشاله بتشكيل الحكومة المرتقبة.
هجوم إيران الصاروخي جاء بالتزامن مع إعلان الصدر ترشيح جعفر الصدر سفير العراق لدى لبنان وهذا ربما يبرهن على توقيت الهجوم الإيراني. الهجوم جاء أيضا مع قرب انتهاء المهلة المحددة لتشكيل الحكومة العراقية، والتي من المقرر أن تنتهي في غضون أيام، بعدها لا يوجد خيار للعراق غير تشكيلة حكومة طوارئ يستبعد منها الصدر.