بيروت: من عتمة أحياء بيروت المهمشة، والأزقّة الملطخة بالدماء والطائفية والمذهبية، استطاعت جمعية «مارش March» أن تجمع 20 شاباً وشابة، وقفوا على خشبة المسرح للمرة الأولى، ولعبوا أدواراً حقيقية جسدّت معاناتهم وحكت عن رواسب المذهبية والطائفية التي ورثوها عن أهاليهم وأجدادهم.
من طريق الجديدة ورأس بيروت معقل الطائفة السنّية في العاصمة، والضاحية الجنوبية والخندق الغميق حيث يتمركز أبناء الطائفة الشيعية في بيروت، ومن صبرا والمدينة الرياضية الأحياء التي يقطنها اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون، اختارت «مارش» التي تعمل تحت شعار «ما تخاف من الحريّة خاف عليها»، أن تنتقي أبطال عملها المسرحي الجديد الذي حمل عنوان «هنا بيروت» من تأليف وإخراج يحيى جابر، ويأتي هذا العمل المسرحي ضمن مشروع جمعية مارش لحل النزاعات ونشر ثقافة الحب والسلام خلال الأعمال الثقافية والفنية، وتهدف إلى إعطاء فرص للشباب للتعبير عن آرائهم وأنفسهم.
شباب لبنانيون شيعة وسنة، سوريون وفلسطينيون، وقفوا على خشبة مسرح واحد في زمن ارتفاع منسوب المذهبية والعنصرية في وطننا العربي إلى درجة الاقتتال، سخروا من واقعهم المرير، ملأوا المسرح بالغناء والرقص والشعر والراب وعزف الموسيقى والتقليد، اجتمعوا من الأحياء التي استطاعت الأحزاب اللبنانية والحرب الأهلية تقسيمها وتفرقت أبناؤها، قالوا على الملأ كيف يسخر هذا المذهب من ذاك، وكيف يسخر اللبناني من السوري والفلسطيني، وماذا يقول السوري والفلسطيني عن اللبناني. على خشبة المسرح سمعنا كل ما يدور في أزقة هذه الأحياء من عدائية وكراهية ومذهبية، ولكن النهاية كانت مع أغنية «على حبك يا بيروت اجتمعوا اللبنانيي، بيروتنا للكل شرقية وغربية»، فكيف استطاعت جمعية «مارش» والكاتب والمخرج يحيى جابر أن يجمع شبابا من أفكار متناقضة ورواسب مذهبية؟
رئيسة جمعية «مارش» ليا بارودي قالت في حديث «للمجلة» إنّ «الجمعية تحرص في كل خطوة تقوم بها على إعطاء جرعة أمل لأشخاص أهملت الدولة أوضاعهم، وحقوقهم ونسيت قضاياهم، لذلك وقع الاختيار على شباب من أحياء مهمّشة في بيروت تجمعهم معاناة واحدة، ليرووا حكاية آلاف من اللبنانيين عانوا الكثير من الحرمان ودُمّرت أحلامهم بسبب الطائفية».
«هنا بيروت» التي تدور أحداثها حول شباب وشابات أتوا من أحياء مختلفة من بيروت ليقوموا بتجارب للمواهب أمام مخرج في قهوة «هنا بيروت»، وبعد ورود خبر عاجل عن انتحاري فار بين منطقتي بشارة الخوري ورياض الصلح حيث موقع القهوة، تسود حالة من الذعر وتتوقف تجارب الأداء القائمة لمعرفة من هو الانتحاري وما هي مواصفاته، أتت بعد عمل مسرحي جمع شباب باب التبانة وجبل محسن في طرابلس شمال لبنان، الذين عاشوا سنوات طويلة من الاقتتال والحرب.
فبعد نجاح مسرحية «حبّ وحرب على السطح» كانت مطالبات بتكرار هذه التجربة في مناطق أخرى بحسب بارودي، التي أضافت: «اخترنا بيروت كونها العاصمة ومليئة المشاكل والتهميش، لتكون رسالة إلى كل لبنانيين».
وعن صعوبة دمج الشباب من بيئات مختلفة قالت بارودي: «لم يكن صعباً دمج الشباب مع بعضهم البعض، حتى لو كانوا يحملون أفكاراً مسبقة عن بعضهم، المشكلة أنهم لا يعرفون بعضهم، ولكن عندما جمعناهم وقمنا قبل البدء بالتدريبات المسرحية والتمثيلية بجلسات كسر الجليد والتعارف لمدة ثلاثة أيام، أصبحوا أصدقاء واكتشفوا أنهم يشبهون بعضهم كثيرا. فعندما يعمل الشباب مع بعضهم لهدف إيجابي، تكسر جميع الحواجز وتنسى الاختلافات والخلافات».
وتابعت: «هدفنا من المسرحية أن نقول كفى طائفية ومذهبية وعنصرية، لهذا السبب أردنا أن يكون في العمل شباب من الجنسية السورية والفلسطينية فهم أيضاً سكان بيروت مثلهم مثل غيرهم، كفى أن يكون لدينا أفكار مسبقة عن بعضنا البعض، فهناك شباب فقط لأنهم سكان مناطق معينة يتم تصنيفهم على أساس مكان سكنهم، ولا تعطى لهم الفرص، على الرغم من امتلاكهم طاقات وموارد كبيرة، وهذا الشيء أثبتناه في أعمالنا، في ظرف ثلاثة أشهر شباب وشابات لم يعتلوا خشبة المسرح بحياتهم أبدعوا بتمثيلهم وأبهروا الحاضرين، فقط لأننا أعطيناهم فرصة ليظهروا مواهبهم».
أمّا كاتب ومخرج «هنا بيروت» يحيى جابر فقد رأى في حديث «للمجلة» أن هذا العمل «نجحنا في دمج شباب كانوا في بداية تجارب الأداء لا يتواصلون مع بعضهم البعض، إلاّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحوا أصدقاء اليوم».
وأضاف: «كان لدي إصرار أن يحضر هذا العمل مسؤولين في الدولة اللبنانية لترى مواطنيها الشباب كيف يعيشون ضمن بيئة تطغى عليها التعصب والفكر الإلغائي والكراهية، لكي يعرفوا أن هؤلاء بشر، لا يجوز أن تصبغ مناطقهم بصفة معينة. ونثبت لهم أننا استطعنا عبر الفن أن نوحد اللبنانيين ونكسر الحواجز الطائفية والمذهبية بينهم».
محمد علي أبو صالح، ابن الطريق الجديدة، الذي شارك في التمثيل في «هنا بيروت»، أكّد في حديث مع «المجلة»: «منذ بداية التدريبات استطعنا كسر الجليد، واتفقنا على أننا جميعنا أشخاص موهوبون، واتفقنا على أنّ الطائفية والتعصّب لا يمثلانا».
وتابع أبو صالح: «أنا لم أكن إنسانا طائفيا ولدي مشكلة مع الآخر ، ولكن هذه المسرحية عمقت معرفتي بالآخر المختلف، وأصبحت على يقين بأننا علينا ألا نتأثر بالطائفية».
في 13 أبريل (نيسان) الذي صادف ذكرى الحرب الأهلية اختارت «مارش» افتتاح المسرحية، كرسالة للبنانيين لكي يتنبهوا ماذا يورثون لأولادهم من طائفية ومذهبية، خوفاً من تكرار الحرب الأهلية.