العبارة ذات الشهرة المدوية التي اختارها الكاتب جون جراي عنوانًا لكتابه المعروف «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»، يمكن استعارتها لوصف الراهن السياسي/ الثقافي الفرنسي، فبينما يمتلئ الفضاء العام بكم مذهل من السجالات الهوياتية، تكشف الأرقام أن فرنسا مشغولة بهموم أخرى أكبر حجمًا وأكثر تأثيرًا بينما شرائح واسعة من نخبتها مشغولة بـ(جدل بيزنطي) تجاوزه الجيل الشاب من الفرنسيين، وفي الفجوة الكبيرة بين الفريقين نمت حالة احتجاجية كبيرة- تفرقت ولم تختف أسبابها- تمثلها إلى حد كبير (عاصفة السترات الصفراء).
البحث عن فرنسا الـمُتخيَّلة
أحد العوامل المؤثرة في اتساع الفجوة بين شباب فرنسا ونخبتها صورة متخيلة لفرنسا لم تكد تتحقق في الواقع المعيش خلال نصف القرن الماضي، فعندما كانت فرنسا تغلي بثقافة ثورية استوعبت نخبتها استيعابًا شبه تام في ستينات القرن الماضي كان المجتمع الفرنسي يتسم بميل محافظٍ تمثل في حضور واضح للدين أكدته الأرقام وتنكرت له الخطابات السياسية والثقافية التي أنتجتها النخبة. في العام 1966 أعلن 89 في المائة من الفرنسيين انتماءهم (دين) مقابل 10 في المائة لا يعتنقون أي دين. وبعد 32 عامًا صارت النسب المئوية على التوالي 55 و45 في المائة. ومنذ هجمات الحادي عشر من ستمبر 2001 مر المجتمع الفرنسي- بتأثير تصاعد غير مسبوق في (الإسلاموفوبيا) في الإعلام والخطاب السياسي- بمرحلة استقطاب بين الإسلام واللائكية جعلت نسبة لا يستهان بها من مسلميها يتخذون موقفًا دفاعيًا أكدته الأرقام، حيث اعتبر 45 في المائة من المسلمين ممن تقل أعمارهم عن 25 عامًا أن الإسلام لا يتوافق مع قيم المجتمع الفرنسي. وأشار استطلاع رأي إلى أن التطرف اللائكي الفرنسي زاد قوة مطالبة مسلمي فرنسا بفتح المجال العام مؤكدين أن الثمن لن يكون التخلي عن الأحكام الشرعية التي هي بالنسبة لغالبيتهم- بحسب الاستطلاع- أهم من قيم الجمهورية.
وهكذا أدى الخطاب السياسي لشريحة كبيرة من النخبة إلى اشتعال معركة بين مسلمي فرنسا ونخبتها بسبب إصرارهم على العيش داخل فقاعة (فرنسا المتخيلة): الشقراء، اللائكية، الخالية من المهاجرين... إلى آخر ملامح الصورة النمطية الإقصائية التي تخندق حولها المتطرفون من النخبة في جانب والمسلمون في جانب، بينما الشعب الفرنسي خارج ميدان الصراع مشغول بأحوال اقتصادية متردية، وأزمة ديموغرافية متفاقمة، ومخاطر على المستقبل تأتي من حدود أوروبا مع روسيا وليس من وجود المسلمين ولا هويتهم المغايرة.
صدمة فبراير 2022
تعد صدمة الغزو الروسي لأوكرانيا مفاجأة للمواطن الفرنسي وربما ارتبطت في الذاكرة بتوقيتها (فبراير 2022)، لكن النخبة الفرنسية المستغرقة منذ سنوات في مزاد التصعيد الكلامي ضد المسلمين كانت على موعد مع صدمة أخرى جاءت في نتائج استطلاع واسع للرأي أكد أن النخبة الفرنسية في وادٍ وشباب فرنسا في وادٍ آخر، وكأن خطاب التهديد والوعيد بحق المسلمين قد أصبح مباراة (تنس طاولة) بين مسلمي فرنسا وبين المتطرفين من النخبة السياسية، أما غالبية الشباب الفرنسيين، فهم بحسب الاستطلاع: لا يثقون في الأحزاب ولا يفهمون اللائكية.(!!)
الاستطلاع نشرت نتائجه في 10 فبراير، أن التحول في ترتيب الأولويات والاختيارات بين الجيلين سابق على الغزو الروسي لأوكرانيا، وكان فقط في حاجة إلى من يتوقف عن متابعة (صراع الديكة الهوياتي) وأن يذهب إلى شباب فرنسا ليسألهم عن (فرنسا الحقيقية) المحجوبة وراء دخان معارك الإسلاموفوبيا. النتائج هي لدراسة استقصائية واسعة حديثة أجراها معهد مونتين الفرنسي حول توجهات الشباب الفرنسي بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين. وبحسب موقع (مونت كارلو الدولية) ثمة بروز لنزوع فقدان الانتماء السياسي، وانهيار في الثقافة العلمانية. وبحسب الدراسة، فإن 55 في المائة من الشباب لا يشيرون إلى تفضيل حزبي أو سياسي و61 في المائة منهم يشعرون بضعف تمثيلهم السياسي. وقد كانت أولى الصدمات تناقص الاهتمام بالحكم الديمقراطي بنسبة 20 في المائة عن جيل آبائهم، حيث اعتبر 51 في المائة فقط أنه من المهم جداً وجود حكومة ديمقراطية.
وإلى جانب تضاؤل الاهتمام بالحكم الديمقراطي تكشف النتائج نسبة مخيفة لفقدان الثقة في النخبة السياسية كلها، إذ يظن 69 في المائة من الشباب المستطلعة آراؤهم أن السياسيين فاسدون، وليس فقط نظام الجمهورية الخامسة، بل أيضاً (الطبقة السياسية برمتها)، حرفيًا. ومن المثير للقلق بحسب (تقرير مونت كارلو الدولية) أن 25 في المائة من الشباب يقولون إنه من الممكن استخدام العنف ضد المسؤولين المنتخبين، ويؤيد 37 في المائة منهم حركة «السترات الصفراء». أما (مبادئ اللائكية الفرنسية) التي جعلها متطرفو اليمين الفرنسي وقود معركة ضد مسلمي فرنسا، فكشفت الدراسة أن شباب فرنسا اليوم على العموم لا يفهمونها.
كانت (مونت كارلو الدولية) نفسها قد نشرت قبل عام، أي (3 /3 /2021) نتائج استطلاع مشابه وصفته في عنوان تقريرٍ لها بأنه: «استطلاع الرأي الذي يهز المدارس الفرنسية». الاستطلاع للرأي أجراه معهد أيفوب (Ifop) لحساب «الرابطة العالمية لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية- Licra» وشمل 1006 من طلاب المدارس الثانوية الفرنسية، ونشرته مجلة «Le point». وتكشف نتائجه عن رؤية خاصة للطلاب فيما يتعلق بالعلمانية، وقال التقرير حرفيًا إن (نتائج استطلاع الرأي تشكل صدمة بالنسبة للمدافعين عن العلمانية). ومن نتائجه أن 52 في المائة يعارضون حق انتقاد المعتقدات والرموز والعقائد الدينية، وهذه النسبة تبلغ 78 في المائة بين الطلاب المسلمين، بينما لا تتجاوز 45 في المائة بين الطلاب الكاثوليك و47 في المائة بين الطلاب اللادينيين، كما أن 10 في المائة لا يدينون أو لا يبدون اهتمامًا باعتداءات عام 2015، وكانت هذه النسبة 4 في المائة عام 2016. (!!)
وقد وافق 52 في المائة من المستطلعين على ارتداء أو حمل الرموز الدينية الواضحة (حجاب، صليب، القلنسوة اليهودية) في المدارس العمومية، وتعادل هذه النسبة ضعف مثيلتها في صفوف الفرنسيين عمومًا، التي لا تتجاوز 25 في المائة، كما أن 49 في المائة لا يعترضون على أن يبرز الموظفون العموميون انتماءاتهم الدينية، كما يؤيد 38 في المائة إصدار قانون يسمح للطلاب بارتداء (البوركيني) لباس السباحة الإسلامي، وترتفع النسبة إلى 76 في المائة لدى الطلاب المسلمين.
وكان الرقم الأكثر إثارة للدهشة والصدمة أن 37 في المائة من المستطلعين يرون في القوانين التي تهدف لتطبيق العلمانية تمييزًا ضد المسلمين، وترتفع النسبة إلى 81 في المائة بين الطلاب المسلمين.
ما الذي يهدد الهوية؟
ما تعكسه الأرقام السالفة أن تغييرًا كبيرًا تشهده فرنسا مسرحه تغيير كبير في رؤية الجيل الأصغر سنًا، وبالتالي فإن الأزمة- على الأقل جانب لا يستهان به منها- (جيلي) لا (هوياتي)، وأن العولمة بما أحدثته في أماكن مختلفة من العالم أسهمت في ظهور أجيال أقل اكتراثًا للقضايا (الجماعاتية) وفي مقدمتها الهوية وشاراتها، وأن منطق المتعة والاستهلاك جعل هذه الأجيال وهي تحاول توسيع مساحة الحق الفردي في الاختيار- وهو صراع قديم/ جديد في كل المجتمعات تقريبًا، لا تمانع في أن تشمل مساحة الحريات (المعولمة) حريات دينية دون تمييز، وهذا يعني أن اللائكية تدفع- أولًا- ثمن اجتياح العولمة مجتمعات الغرب كما هو الحال في مجتمعات الجنوب والشرق. وقضايا الجيل الحالي لا تحسم مضامينها ولا تراتب أولوياتها آيديولوجيات تختار للفرد أو تسلبه حق الاختيار.
ولعل تجربة المرشح الفرنسي ذي الأصل التونسي العياشي العجرودي تعد مثالًا للتغيير الذي لا يريد اليمين المتطرف أن يراه- بالضبط كما يصر بعض المسلمين على إنكار وجود الإرهاب أو تبريره- فترشحه حتى لو لم يستكمل مسار التنافس لنهايته، سلط الأضواء على وجود للمهاجرين لا يمكن إلغاؤه بشطحات عنصرية في مزاد انتخابي، والرجل المولود في قابس التونسية تمكن من تحقيق نجاح كبير في مناخ تنافسي وتحت ضغط تمييز غير رسمي ضد المهاجرين، وعندما أصبح لديه مؤهلات نزول معترك العمل العام أصبح يفكر كفرنسي ويتكلم كفرنسي دون أن يتنكر لأصوله- كتونسي- قبل الهجرة، ودون أن ينزلق إلى منزلق (صراع الهويات) الذي لم يستفد منه منتجوه ولا المستهدفون بسهامه الطائشة، وهو بخطابه (المستقبلي) الذي يتجاوز خرائط الاستقطاب المتخيلة، يرى أفقًا لفرنسا يمكن أن يتسع بنزوع واسع نحو السلمية والتوافق.
فهل يشهد المستقبل القريب بناء جسر بين (المريخ) و(الزهرة) ييسر تلاقي فرقاء فرنسا فكريًا وجيليًا؟
* باحثة علوم سياسية- مصر.