بعد أن فشل المشروع القومي في قيادة الأمة العربية إلى استعادة أمجادها وتبوأ المكانة التي تستحقها بين الأمم، كما كان يدعي، وأخفق في تحقيق التطلعات نحو التحرر ونزع أغلال التبعية وبناء أسس متينة للتقدم والازدهار بدأ مشروع الإسلام السياسي في الصعود، وتصدر المشهد مسجلا حضورا لافتا على الصعيد السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي في حالات كثيرة.
وفي عملية الصعود هذه استغل المشروع السياسي الإسلامي مجموعة عوامل أهمها موقع الدين وقداسته في الحياة العامة واليومية للمواطنين، ودوره الاجتماعي في ترسيخ قيم التآزر والتكافل، ناهيك عن دوره السياسي على مر التاريخ، وخاصة إبان معارك التحرير ضد الاحتلال، إذ كان عاملا رئيسيا في تعبئة المواطنين كمؤمنين ضد الغازي كمستعمر، وككافر أيضا.
إن ثنائية الإيمان والكفر هي التي سيتم استغلالها لحشد مريدي الإسلام السياسي وأنصاره في معارك عدة أنظمة عربية وإسلامية داخليا وخارجيا كذلك. فقد جرى توظيفهم في الداخل لمهاجمة التيارات اليسارية على اختلاف توجهاتها، والعمل على تقزيمها وتسفيه خطابها، وتصفية بعض رموزها عند الضرورة. أما خارجيا فقد أثبت دور الجماعات الإسلامية المتشددة في إنهاك القوات السوفياتية خلال غزوها لأفغانستان أهمية العامل الديني في التعبئة والاستقطاب باسم الجهاد في سبيل الله والذود عن ديار الإسلام.
وقد تجلت خطورة الظاهرة أكثر بعد هزيمة السوفيات في أفغانستان، وعودة من سموا بالجهاديين إلى بلدانهم الأصلية وشروع الكثيرين منهم بمحاربة سلطات تلك البلدان بشكل هدد جديا مفهوم الدولة الوطنية في مجموعة من الأقطار العربية والإسلامية، وامتد ليصبح خطرا فعليا على الأمن في دول غير إسلامية تحتضن جاليات مسلمة كبيرة، سندهم في ذلك زعمهم بأن جميع هذه الدول منبثقة عن مجتمعات جاهلية، كافرة أو مرتدة من الواجب محاربة حاكميتها لأن الحاكمية عندهم لله وحده، وليس لأي بشر من خلقه.
في هذا السياق تعالت أصوات كثيرة من سياسيين ومفكرين تدعو للوقوف في وجه هذا المشروع القائم على استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية وتوظيف الشريعة لأغراض مصالح دنيوية ليس فقط بواسطة المواجهة الأمنية والعسكرية والملاحقة القضائية، وإنما بالعمل على اجتثاثه من جذوره بالتربة الاجتماعية التي ترعرع فيها، وتجفيف مصادر تمويله، والأهم تنظيف منابعه الفكرية والفقهية؛ وذلك من خلال القيام بإصلاح جوهري للحقل الديني في معظم البلدان الإسلامية باعتبارها الأكثر معاناة من تنامي الظاهرة واستفحالها.
إن فكرة إصلاح الحقل الديني ليست جديدة في التاريخ الإسلامي، الذي برز فيه على مر العصور العديد من المفكرين الداعين إلى الإصلاح، والكثير من الحركات المنادية بتنقية الممارسة الدينية من شوائب متعددة طالتها كالغلو والتطرف وفوضى الإفتاء، إضافة لشيوع الخرافة والبدع وغيرها من المظاهر السلبية التي سادت طويلا في معظم المجتمعات الإسلامية.
ولكن اتضح مع مرور الزمن أن أغلبية الدعوات الإصلاحية لم تكن محايدة، وإنما كانت تقف وراءها جهات سعت إلى استغلال الأزمات التي نشبت بين السلطات الحاكمة وبعض شرائح مجتمعاتها، وخاصة المعوزة منها للاستيلاء على السلطة أو الوصول إليها، متعمدة التعسف في تحميل تعاليم آيات القرآن الكريم تأويلات لم تكن من أسباب نزولها أصلا.
ومن الطبيعي أن يكون الفشل مصير معظم محاولات الإصلاح التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية طيلة القرنين الماضيين، لأن هدفها الحقيقي كان توظيف الدين لأهداف سياسية وحزبية ضيقة لفائدة فئة صغيرة من المسلمين تدعي زورا تمثيل كافة المسلمين. ولذلك لم تدخر جهدا لاحتكار الحديث باسم الدين، بغية ضبط المجتمعات والتحكم فيها عبر ترويج قراءة مغلوطة لتعاليم الإسلام تخدم مصلحتها في فرض الولاء والطاعة على الأغلبية.
لهذا كانت دعوات إصلاح الحقل الديني الحديثة والمبادرات الجاري تطبيقها الآن حريصة على إحداث قطيعة كاملة مع المحاولات السابقة، ومواجهة الإكراهات الواجب تجاوزها للحاق بركب الحضارة الإنسانية بمقاربة شمولية للإصلاح أساسها التركيز على بلورة فهم سليم لمبادئ الإسلام ومقاصده. فهم يواكب منطق العصر الراهن ويساعد على تطوير تلك المبادئ والمقاصد لكي تقوم بدور فعال وبناء في تحديث المجتمعات وتطويرها.
وتنطلق هذه المقاربة الشمولية لمبادرات الإصلاح المطبقة في عدد من البلدان الإسلامية من مسلّمة مفادها أن الإسلام لا يتناقض أبدا مع متطلبات الحياة الإنسانية، وكافة مظاهر الحضارة البشرية كما يدعي أولئك الذين يريدون مصادرته لتوظيفه لفائدتهم، وأن الإصلاح المطلوب هو مقدمة لا بد منها لإصلاح أي شيء آخر فيما بعد. وتنحو شمولية هذه المقاربة بشكل متكامل في اتجاهين، يتمثل أولهما في إعادة النظر بعمق في جوهر المفاهيم الدينية المتوارثة بغية تحديثها وتطويرها استنادا إلى أدوات معرفية عصرية وراهنة، فيما يهم الثاني إصلاح المؤسسات المؤطرة للممارسة الدينية والساهرة على تطبيق مبادئ الشريعة ومنع تعدد جهات تفسيرها.
فهذه المؤسسات هي عماد أي إصلاح يستهدف تلبية الحاجيات الإيمانية للإنسان التي تجعله على استعداد لأن يوثر الآخر على نفسه ولو كانت به خصاصة، مع تحصينه في ذات الوقت من مفاهيم الغلو والتطرف. ولذلك هي مدعوة إلى تجديد مناهج التعليم الدينية التي ما تزال أسيرة طرق عتيقة تعتمد على التلقين والحفظ، وذلك باعتماد أساليب عصرية تحث على إعمال العقل وتنمية ملكات النقد، وقادرة على الانفتاح والتفاعل مع بقية العلوم، وخاصة التربوية والنفسية بغية إعداد أجيال لا تخجل من التصريح بأن رأيها صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرها خطأ قد يكون صائبا.
المهمة ليست يسيرة في ضوء وجود معارضة قوية من أسرى الجمود والتقليد، ومن دعاة التطرف؛ ولكنها ليست مستحيلة.