القامشلي: بالتزامن مع يوم المرأة العالمي، جددت مؤسسات ومنظمات مدنية تدافع عن حقوق النساء في تركيا، دعواتها للحكومة بالعودة إلى بنود «اتفاقية إسطنبول» الدولية وتنفيذها بالكامل بهدف حماية التركيات من العنف، وذلك بعد انسحاب أنقرة من الاتفاقية رسمياً في يوليو (تمّوز) من عام 2021، وهو ما ترفضه تلك المؤسسات التركية التي تندد باستمرار بقتل النساء على أيدي الرجال وتساهل السلطات القضائية مع القتلة، بحسب الاتهامات التي يوجهونها للقضاء المحلي.
وارتفع عدد النساء اللواتي قتلن في تركيا بشكلٍ ملحّوظ في آخر عامين، ففي عام 2020 قُتلت نحو 300 امرأة وسُجِّلت 171 حالة قتل مشبوهة لنساءٍ فارقنّ الحياة في ظروفٍ غامضة، بينما في عام 2021 قُتِلت 280 امرأة وسُجِّلت 217 حالة وفاةٍ مشبّوهة، وفق الأرقام التي قدّمتها منصّة «أوقفوا قتل النساء» لـ«المجلة».
وتظهر الأرقام التي تنشرها «المنصّة» بشكلٍ دوري أن 123 امرأة من أصل 280 امرأة قُتِلن في العام الماضي، على أيدي رجالٍ كانوا على صلاتٍ بضحاياهنّ كالزوج أو الطليق أو الأخ أو الولد أو الأب ورجال آخرين بينهم أصدقاء لأولئك النسوة اللواتي قُتِلن بدمٍ بارد مع غياب القوانين الرادعة لهذه الجرائم التي تتكرر بشكل يومي في مختلف الأراضي التركية.
النضال في وجه العنف
وفي هذا السياق، تحدثت غولستان ياركين، مرشدة اجتماعية وعضو جمعية حقوق الإنسان التركية، عن هذه الظاهرة الخطيرة، مؤكدة أن «المنظمات النسائية في بلادنا تناضل ضد النظام الأبوي وعنف الذكور وعنف الدولة منذ سنوات طويلة، بما في ذلك المنظمات النسائية الكردية، وتحاول استخدام العديد من الأدوات لتمكين المرأة، كتنظيم مظاهرات واسعة النطاق والبدء بحملات مناصرة وإعداد وإصدار بياناتٍ صحافية، وحث القضاء التركي على معاقبة مرتكبي جرائم القتل والعنف الجنسي وتقديم المساعدة القانونية المجانية والمأوى للنساء».
وأضافت لـ«المجلة» أن «هذه المؤسسات تعمل أيضاً على مساعدة ضحايا العنف المنزلي (الذكوري) وتوثيق حالات التعذيب الجنسي والاغتصاب وإحالة النساء إلى الأخصائيين للحصول على المساعدة النفسية والطبية، وكذلك تعقد اجتماعاتٍ مع المحافظين ومسؤولي الدولة إذا كانوا قادرين على ذلك لحث النوّاب على إعداد أسئلة برلمانية حول العنف ضدّ المرأة».
وتابعت أن «الجمعيات النسائية تعقد أيضاً اجتماعاتٍ مع المنظمات الدولية وتنشئ منصاتٍ مشتركة مع المنظمات النسائية الأخرى لرفع الوعي ضدّ مسألة خروج تركيا من (اتفاقية إسطنبول)، وكذلك تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على قضايا المرأة، ولذلك أستطيع القول إن هذه المؤسسات تعمل بجد على وقف قتل النساء واستخدام العنف ضدّهن».
كما كشفت ياركين عن أسباب انتشار ظاهرة قتل النساء في تركيا. وقالت في هذا الصدد إن «الثقافة السائدة في مجتمعنا تتوقع قبول المرأة بكونها تابعة للرجل وعليها طاعته، أي طاعة زوجها وشركائها وآبائها وإخوتها الأكبر سنّاً وقوات الدولة، وبالتالي إذا تعرضت المرأة للعنف المنزلي أو الإذلال، فإن الثقافة التي يهيمن عليها الذكور تتوقع من المرأة قبولها دون مقاومة».
وأردفت: «عندما ننظر إلى العدد المتزايد من حالات قتل النساء والعنف ضد المرأة في السنوات الأخيرة، نرى أن معظم تلك الجرائم يرتكبها الأزواج والعشّاق، حين تطلب المرأة الطلاق أو الانفصال عن شريكها أو عندما ترفض مطالبهن، كما أن بائعات الهوى كن هدفاً أيضاً لعمليات القتل هذه. ومع ذلك فإن الرجال القتلة لا يعترفون بالمرأة ولا يسمحون لها بالتحرر. إنها مسألة مرتبطة بشدة برغبتهم في السيطرة على النساء».
وأوضحت: «بين تسعينيات القرن الماضي وعام 2010، أصبحت المرأة في منطقتنا أقوى، مقارنة بالفترات السابقة، فهي باتت تتمتع بقدر أكبر من السيطرة على جسدها، وتنتقد عنف الذكور بشكلٍ أكبر من قبل، وقد اكتسبت أفكارا نسوية ليس فقط في المجال العام، وإنما في الحياة اليومية أيضاً، ولذلك بدأت النساء في التعبير عن رغبتهن في الطلاق أو الانفصال علناً. وقد أدى ذلك، في بعض الحالات، إلى مزيد من معاقبة النساء من قبل الرجال والمنظمات التي يهيمنون عليها».
القضاء يحمي الجناة
وانتقدت الناشطة النسوية القضاء التركي لتساهله مع المجرمين، موضحة أن «القضاء التركي يحكمه الرجال بعقلية ذكورية، ولهذا لا يصدر أحكاماً طويلة بالسجن بحق قتلة النساء، فهو يميل إلى اتخاذ قراراتٍ تحمي الجناة، مما يؤدي إلى استمرار قتل الإناث، وما يؤكد ذلك أن ردّ فعل السلطات ضد تمكين المرأة والمنظمات النسائية كان عبر انسحاب الحكومة من اتفاقية إسطنبول، رغم أن المطلب الأبرز لكل المنظمات النسائية في بلادنا كان يتمثّل في تنفيذ كل بنود تلك الاتفاقية التي خرجت أنقرة منها في الصيف الماضي».
كذلك أشارت إلى أنه «بعد معظم جرائم قتل النساء، يحصل الرجال على تقليص غير عادل من مدّة عقوبتهم، وعلى سبيل المثال يحصلون على تخفيف لمدّة العقوبة بالسجن بذريعة (حسن السلوك) وهو ما يؤدي إلى الحكم عليهم بالسجن لمدّة قصيرة، فهم يستخدمون عباراتٍ عدّة للدفاع عن أنفسهم من قبيل أنه قتلها لشدّة حبّه لها أو أنه كان يغار عليها أو أنها خدعته، وما إلى ذلك، ولذلك نعتبر أن ممارسات القضاء استفزازية وتساهم في استمرار قتل النساء».
ورأت أن «الآليات التي تحمي المرأة في تركيا باتت أقوى مقارنة مع ما كان يحصل قبل 20 عاماً، لكن إثر انسحاب البلاد من اتفاقية إسطنبول وتعزيز الخطاب الرجعي للحكومة أثّرت سلباً على تمكين المرأة، ومع ذلك يمكن للنساء الذهاب إلى دور إيواء النساء التي تديرها الدولة والمنظمات الأخرى».
وشددت على أن «الثقافة الذكورية تهيمن اليوم على مؤسسات الدولة والمسؤولين، فيمكن للرئيس أو البرلمانيين أو الوزراء الإدلاء بتصريحات تهين المرأة، وقد كان إنهاء اتفاقية إسطنبول هو أيضاً نتيجة للنهج الذكوري المناهض للمرأة وللمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية، ومن هنا اكتسب الخطاب القاسي للغاية ضد (منظمات مجتمع الميم) شرعية في الدوائر الحكومية، كما أن تعزيز فهم معاداة المثليين يؤثر بشكل غير مباشر على مكاسب النساء».
وأشارت إلى أن «القوات الأمنية تستخدم العنف الجنسي ضد النساء المحتجزات في السجون، فيمارس الحرّاس وضباط الشرطة عمليات التعذيب من خلال تفتيش النساء بتجريدهنّ من ملابسهن وإرغامهن على الجلوس والوقوف بينما تكون النساء عاريات، كما أن ضباط الشرطة يهينون النساء بشتائم متحيزة جنسياً أثناء مداهمة المنازل أو خلال احتجازهن، وهناك أيضاً من يعتدي على السجينات جسدياً».
وروت لـ«المجلة» بعض الأمثلة قائلة: «على سبيل المثال، انتحرت السجينة الكردية غاريب جيزر في جناحها في ديسمبر (كانون الأول) 2021، بعد التعذيب الجنسي الذي تعرضت له في سجن كانديرا. وأيضاً تعرضت الفنانة والمغنية هوزان جاني للعنف أثناء احتجازها. كما تعرضت رئيسة بلدية سابقة تدعى روجبين جيتين، للتعذيب الشديد في عام 2020 أثناء مداهمة منزلها من قبل الشرطة، حيث هاجمتها كلاب الشرطة وعضت ساقيها في منزلها، وتمّ ضربها بعنف من قبل رجال الشرطة، واستمر تعذيبها لنحو 3 ساعات ونصف الساعة. ببساطة عندما يتعلق الأمر بالنساء الكرديات، فإن قوات الدولة تنفذ أعمال تعذيب أشد قسوة. وكل هذا يرتبط بشكل مباشر بمسألة العنصرية ضد الأكراد».
محاربة المساواة بين الجنسين
ومن جهتها، قالت المحامية البارزة والشهيزة بدفاعها عن حقوق المرأة جانان آرين إن «المنظمات النسائية تستخدم كل الوسائل المتاحة للمطالبة بحقوق المرأة، فهي تكتب عن واقعها ويشارك ممثلوها ببرامج تلفزيونية ويقمن بإلقاء الضوء على واقع المرأة عبر الاحتجاجات في الشوارع. إنهن يتحدّثن في كل مناسبة عن حقوق النساء».
وأضافت لـ«المجلة» أن «مطلب المرأة هو تدريب جدّي على المساواة بين الجنسين في كل مستوى من مستويات التعليم؛ فالسبب الحقيقي للعنف ضد المرأة هو عدم المساواة بين الجنسين ويمكن توفير هذا من خلال التعليم العلماني. ولكن لا تتم الاستجابة لهذا الطلب لأن الحزب السياسي الحاكم حالياً يحوّل جميع المدارس العلمانية إلى مدارس دينية حتى يتعلم التلميذ عدم طرح الأسئلة وقبول ما قيل له دون التفكير المسبق فيه. ويسعى الحزب السياسي الحاكم إلى منع المساواة بين الجنسين، ويحاول قمع النساء بكل الوسائل بما في ذلك التسامح مع قتل الإناث».
وتابعت أن «حقوق المرأة في تركيا تتراجع يوماً بعد يوم، في حين تحاول النساء العمل على حماية حقوقهن الحالية المتمثلة بالمطلب الرئيسي للمرأة عبر تعزيز وتطبيق اتفاقية إسطنبول بشكل كامل، والتي تدعو إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في كل مجال من مجالات الحياة ووقف العنف ضد المرأة. وباختصار أن يُنظر إليها على أنها إنسان».
وكانت الحكومة التي شكّلها حزب العدالة والتنمية الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالتحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرّف، قد انسحبت رسمياً من معاهدة إسطنبول في مطلع شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، رغم أن هذا الأمر قُوبِل بإدانات دولية ومحلّية.
وتتهم الجمعيات المدافعة عن حقوق النساء في تركيا بما في ذلك اتحاد الجمعيات النسائية، الحزب الحاكم بمحاربة المساواة بين الرجال والنساء، خاصة منذ انسحاب أنقرة من الاتفاقية الدولية التي تحمي التركيات من العنف الأسري وتسهّل لهن إيجاد مأوى بديل عند انفصالهن عن أزواجهن.
وتستمر النساء التركيات، بالنزول إلى الشوارع والساحات العامة للتظاهر بهدف المطالبة بالعودة لمعاهدة إسطنبول رغم استخدام السلطات الأمنية للعنف لتفريق تلك المظاهرات، كما حصل عند تنظيم عدّة احتجاجات نسائية في اليوم العالمي للمرأة قبل أيام.
وسبق للرئيس التركي أن اعتبر اتفاقية إسطنبول تهديدا للمجتمع على اعتبار أنها تعمل على تفكيك الأسرة في بلاده، وهو ما شجّعه على اتخاذ قرار الانسحاب من تلك المعاهدة، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى ارتفاع معدلات قتل النساء في تركيا وأثار حفيظة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وألزمت اتفاقية إسطنبول، التي تم التفاوض عليها في أكبر مدينة في تركيا وجرى التوقيع عليها في عام 2011، الموقعين عليها بمنع العنف الأسري ومحاكمة مرتكبيه وتعزيز المساواة.
وفي منتصف شهر فبراير (شباط) الماضي، طالب اتحاد الجمعيات النسائية، الحكومة التركية، بضرورة اعتبار التحرّش اللفظي بهنّ وملاحقتهنّ جريمة يُعاقب عليها القانون، وهو ما يتطلب تعديل بعض البنود في قانون العقوبات التركي، ولكن الحكومة لم تستجب لهذه المطالب حتى الآن، بحسب ما أفاد لـ«المجلة» مصدر في الاتحاد الذي يعد التكتل النسائي الأضخم في البلاد.