القاهرة: في هذا اليابس القاري الذي اختبأت بعض دوله الكبرى ذات يوم وراء شعار (عبء الرجل الأبيض) يقف العالم مشدوها يشاهد نار الحرب تطرق أبوابها ودخان الأصوليات يخنقها، وكأنها تبحث عمن يحمل (عبء إنقاذها).
وفي مهد التنوير الذي كانت وعوده تخطف الأبصار وتستلب العقول بمقولات عن التحديث والحرية والعدالة والعقلانية والسلام و.... تتعثر أوروبا (العجوز) في طريق مستقبل كان بريقه يخبو– في اللحظة نفسها التي بدا فيها أنه يزدهر– فمع انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، وبعد نشوة لم تدم طويلاً، طفت على السطح تصدعات في البناء الأوروبي ظلت أخاديده تتعمق حتى انطلقت الرصاصة الأولى في الحرب الروسية على أوكرانيا.
العرقية السلافية وحروب الخرائط
كانت أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين تحاول استعادة زخم صورتها كصانعة للعصر الحديث و(محتكرة) لرسالة تنوير العالم– أو هكذا كان يدعي خطابها– فإذا بها تستدرج العالم كله تقريبا إلى هاوية حربين عالميتين كانت الأفكار وقودا لهما– بالضبط بقدر ما كانت المصالح– وقبل أن ينتهي القرن العشرون الطويل الدامي، كان سلامها القصير يواجه حربا أهلية وحشية في البلقان أسهمت العودة الكئيبة لـ(القومية السلافية) بقوة. صحيح أن حدود تماس المصالح والتنازع الآيديولوجي كان من مفاتيح فهم الأزمة التي نجمت عن تمزق يوغوسلافيا، لكن ما حاول الأوروبيون بكل ما امتلكوا من قوة طي صفحته، فرض نفسه عليهم بالنار والدم. كانت أوروبا التي عرفت في تاريخها عدة إمبراطوريات كبيرة تدرك أن سياسات يحركها الحنين إلى الخريطة الأكثر اتساعا لأي إمبراطورية يعني عودة شبح الحرب.
وإذا كانت (خريطة صربيا الكبرى) أول الخرائط المنبعثة من الرماد لتقض مضجع الشعوب التي كادت تنسى صفحة حروب الخرائط، فإن خريطة (روسيا الكبرى) لم تلبث أم انبعثت هي الأخرى في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولم تلبث الدبابات الروسية أن بعثت الخطر باحتلال القرم عام 2014. واليوم يؤجج خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النار نفسها متحدثا عن (أوكرانيا الروسية)، وتلخص عبارته التي قالها قبل الغزو بأيام: (أوكرانيا جزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا)، عمق مأساة (حرب الخرائط). وما تزال النخبة المثقفة ونخبة صناعة القرار في أوروبا تشعر بخوف استثنائي مع كل بادرة لعودة معجم: الإلزاس واللورين وغيرهما من نقاط التلاقي بين القوميات الأوروبية الكبرى وكيف أسهمت في تدمير أوروبا مرتين خلال أقل من نصف قرن. واليوم تداعب هذه المفردات المفخخة خيال غير القليل من القوميين المتطرفين الذين يرفضون قراءة تاريخ أوروبا وتخيل مستقبلها إلا من ثقب الخرائط.
وإذا أخذنا الحالة الأوكرانية مثالاً، وجدنا أنه مع التقارب الكبير بين أوكرانيا والولايات المتحدة الأميركية خلال العقد الماضي ظهر سيل من الأدبيات الأوكرانية تستهدف تبني صورة مبالغ فيها للقومية الأوكرانية، بأمل تأكيد الاختلاف بينها وبين روسيا بعد قرون من الهيمنة الروسية التي طالما عززتها (سردية روسيا الكبرى). إحدى هذه الدراسات (أوروبا الشابة) للباحثة آنا بروسك تؤكد تعمد السوفيات– وبعدهم الروس– حجب حقيقة للبولنديين والأوكرانيين طريقهم المنفصل عن روسيا، وهو ما تم تجاهله من قبل القوميين والمدارس التاريخية السوفياتية. واليوم يستعيد قوميون أوكران مقولات جوزيبي ماتزيني (أحد أهم مؤسسي إيطاليا الحديثة) عن أن (استعادة التقاليد والقيم الوطنية الأصيلة أمر ضروري للتجديد الأخلاقي... ومن دون هذا التجديد الروحي، لا يمكن تحقيق تقدم ملموس في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية). وتبني الباحثة جسراً بين مقولات ماتزيني واللحظة الأوكرانية الراهنة (مبشرة) بإن أوكرانيا قد تكون أحد أكثر المؤهلين لتحقيق الـمُـثُل الأساسية للاتحاد الأوروبي. وبتأثير أسباب عديدة منها تجارب الصراعات القومية الضارية التي شهدتها أوروبا والتي يخشى الجميع من عودتها كان الاندفاع الروسي وكان التصلب الأوروبي في رفض عودة منطق (حروب الخرائط).
حكماء تشاتام هاوس
يعد مؤرخ الحضارة ذائع الصيت أرنولد توينبي ضمن مؤسسي أقدم مراكز الفكر للشؤون الخارجية في العالم تشاتام هاوس، وكان يعرف في البداية بمعهد الشؤون الدولية. توينبي اقترح إنشاء لجنة تنظيم صغيرة، مع تمثيل أميركي وبريطاني متساوٍ. وكان الهدف أن يأخذ رجال المعرفة زمام المبادرة في دراسة الشؤون الخارجية علميا لتزويد القادة السياسيين بالحقائق. تم افتتاح تشاتام هاوس في 5 يوليو (تموز) 1920 كمعهد بريطاني للشؤون الدولية. كان عليه أن يكون مؤسسة فاعلة علمية غير سياسية، تقوم بدراسة (غير آيديولوجية للشؤون الخارجية)؛ وتثقف الجمهور، وتزود صانعي السياسات بالحقائق الأساسية لسياسة سليمة ورأي عام سليم. وقد احتفظ أرنولد توينبي بمكتب في تشاتام هاوس حتى موته. وقد لعب دورا مهما في نهج بريطانيا تجاه القضايا الدولية.
هذا المعهد العريق الكامن في الظل دون ضجيج ما يزال أحد اللاعبين الكبار في صناعة السياسة الأوروبية، وفيما يتصل بالمأزق الأوروبي الراهن بالتحديد أصدر في العام 2014 دراسة تبلغ الغاية في الأهمية عن النفوذ الروسي في الخارج تضمنت حقائق واستشرفت مآلات محتملة أكدتها الوقائع الراهنة. الدراسة: (النفوذ الروسي في الخارج: الفاعلون غير الرسميين والدعاية)، وشارك فيها باحثان من برنامج روسيا وأوراسيا في تشاتام هاوس، وباحث من المعهد البولندي للشؤون الدولية وباحث من معهد العلوم الإنسانية بالنمسا.
ولخصت الدراسة أهداف السياسة الخارجية الرئيسية لروسيا في جوارها بأنها تريد أن تصبح مركز ثقل للحفاظ على هذه البلدان في دائرة نفوذها مع توسيع نطاق ونفوذ (العالم الروسي)؛ وضمن الأهداف احتواء الديمقراطية وترسيخ أسلوب الحكم الروسي. وفي الدراسة حقائق تتصل ببنية القيادة الروسية تفسر– وتساعد على التنبؤ بمستقبل التأثيرات الروسية في المستقبل الأوروبي وبخاصة فيما يتصل بصعود بعض الأصوليات غير الدينية دور روسيا– المباشر وغير المباشر في صعودها– وبعض المحيطين بفلاديمير بوتين يعتبرون روسيا: (أوروبا الحقيقية) والاستمرار لتقاليد أوروبا في القرن التاسع وبصفة خاصة النزوع الاجتماعي المحافظ، أما الاتحاد الأوروبي فقد خان هذا المفهوم، وبالتالي فهو يشكل: (أوروبا المتدهورة). وبناء على هذا التصور (التلفيقي) تدعي النخبة الروسية أنها تدافع عن حقوق ومصالح 30 مليون (إثني) روسي، بل تضم إلى ذلك من يشعرون (أنهم قريبون ثقافيا من روسيا)، وفي العدوان على أوكرانيا تم استخدام المفهوم بنفعية تامة لتمزيق الخريطة الأوكرانية.
والقارة التي كانت في تاريخها القديم (في الأصل اليوناني للفكر الأوروبي) مهد الديمقراطية، وفي العصر الحديث مهد الليبرالية تزحف على حدودها من الشرق آلة عسكرية تحركها نخبة تؤمن بأفكار في مقدمتها:
- القيم الليبرالية والغربية غريبة على الحضارة المسيحية الشرقية.
- هناك قيم أسمى من الحرية والديمقراطية ولا يجب أن تسود على مصالح الدولة.
- مهمة روسيا الدفاع عن القيم المحافظة التقليدية، وضمن ذلك الأسرة والأرثوذكسية.
- الولايات المتحدة عدو مشترك، وصولا إلى الطموح لإنشاء إمبراطورية أوروبية- روسية ضد الولايات المتحدة.
عودة معارك الكنائس
تشكل الطائفية إحدى النقاط السوداء في تاريخ أوروبا لقرون عدة، وكل خطاب سياسي (وكل فعل سياسي) يعيد بعث الطائفية في أوروبا يشكل خطرا كبيرا على مستقبل سلام القارة. وفي روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان من المتوقع أن تشهد البلاد عودة لدور الدين عموما في الحياة العامة، لكن فلاديمير بوتين بدأ منذ سنوات يستخدم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كورقة سياسية بشكل متصاعد. وفي العام 2015 باركت الكنيسة ما أطلق عليه (الحرب المقدسة) ضد داعش. ولاحقا أصبح مألوفا في الإعلام الروسي نشر صور لرجال دين يباركون ضباطا أو يحملون المباخر داخل وحدات عسكرية، وفي المقابل كان أحد أسلحة المواجهة الأوكرانية الروسية صراع كنسي أرثوذكسي- أرثوذكسي ترسم فيه الحدود السياسية بين الدولتين خط مواجهة ملتهبا. وكان وصف مطرت الكنيسة الأوكرانية لبوتين بأن روح الدجال تعمل فيه، نموذجا للتصدع الذي تسبب فيه الحرب. ومن موسكو خرجت عبارات مشابهة خلال جولات الصراع السياسي بين كييف وموسكو. واليوم هناك انفصال فعلي بين كنيستين كانتا حتى وقت قريب متحدتين.
وبعد.
فإن الليبرالية التي بشر التنوير الأوروبي بأن تكون سمة مميزة لثقافة القارة وخياراتها السياسية تواجه العرقية الصاعدة من ركام انهيار الاتحاد السوفياتي، والفاشية التي تغذيها أزمة ديموغرافية دفعت أوروبا لاحتضان جاليات كبيرة من (الغرباء) أطلق وجودهم وتمايزهم في شارات الهوية صراعا على المستقبل تمدد في أخاديده الفاشيون في عدة دول– في مقدمتها فرنسا مهد التنوير– وفي المشهد الراهن انطلق نزاع مسلح لم تشهد أوروبا مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية، وهو نزاع ينذر بأصولية طائفية جديدة تشمل روسيا وشرق أوروبا والبلقان، مع تصاعد موجة الاستخدام السياسي للدين والطائفة في الصراع.
* باحثة علوم سياسية – مصر.