باكو: أفريقيا ساحة بعيدة جغرافيا عن ساحة المعركة الدائرة في شرق أوروبا على الأراضي الأوكرانية منذ نهاية فبراير (شباط) الماضي (2022)، إلا أنها قريبة استراتيجيا في ضوء حجم التشابك الروسي الأفريقي من ناحية، والأفريقي الأوكراني المدعوم غربيا من ناحية أخرى، وهو ما يثير لدى دول القارة الأفريقية عديد المخاوف من تأثيرات تلك الأزمة وتداعياتها على أوضاعها الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية، حيث فرضت عليها تحديات عدة؛ بعضها يرتبط بصراعات الداخل والمعارك الدائرة في كثير من دول القارة من ناحية، وبعضها يرتبط بتشابكات علاقات الدول الأفريقية مع كل من طرفي الأزمة من ناحية أخرى، وبعضها يرتبط بتأثيرات تلك الأزمة على الأوضاع المعيشية للمواطن الأفريقي وخاصة فيما يتعلق باحتياجاته الغذائية الرئيسية التي تعتمد على الحبوب المستوردة من منطقة الحرب من ناحية ثالثة. إلا أن الأزمة في الوقت ذاته أوجدت فرصا عديدة يمكن اغتنامها إذا ما أحسنت دول القارة إدارة موقفها بحكمة وعقلانية تأخذ في حسبانها مختلف أبعاد الأزمة وجوانبها.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن أفريقيا على موعد جديد مع أزمة عالمية تحمل رياحا عاتية تهب على مقدراتها واقتصاداتها دون أن تكون طرفا في مجرياتها، وهو ما يدخلها في أتون حلقة جديدة من حلقات الأزمات العالمية ذات التأثير على أوضاعها وظروف معيشة أبنائها، بما يستوجب تسليط الضوء على أبعاد تلك الأزمة التي تحمل في طياتها منحا عدة، كما تجعلها في مواجهة محن عديدة، وهو ما يستعرضه التقرير من خلال محورين:
الأول: أفريقيا والانقسام السياسي حيال الأزمة الأوكرانية
مع بدء العملية العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا والتي دخلت أسبوعها الثالث في ظل تفاقم الأزمة وتعقيداتها رغم الدعوات المتكررة من أطراف عدة دولية وإقليمية لتقديم مبادرات للوساطة بين أطراف الأزمة بهدف البحث عن مقاربات لوقف المعارك والبدء في عملية سياسية تُفضي لحلول ترضي أطرافها كافة، واجهت الدول الأفريقية مأزقا سياسيا في تحديد موقفها حيال ما يجري، إذ إنه على الرغم من وضوح موقف المؤسسات الأفريقية حيال الأزمة كما عبرت عن ذلك القيادة الأفريقية التي تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي ممثلة في رئيسها ماكي سال (رئيس السنغال) ومفوض الاتحاد موسى فكي عن قلقهما البالغ إزاء الأوضاع الخطيرة في أوكرانيا، مع دعوتهما إلى احترام القانون الدولي والسلامة الإقليمية والوطنية واحترام سيادة أوكرانيا، وحث الطرفين على الوقف الفوري لإطلاق النار وفتح قنوات المفاوضات السياسية دون تأخير تحت رعاية الأمم المتحدة. وفي السياق ذاته، جاء موقف الإيكواس (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) الذي أدان حرب روسيا على أوكرانيا، داعيا الأطراف المتقاتلة إلى حل الخلافات بالحوار، ومطالبة بضمان سلامة كل مواطني «الإيكواس» الذين يعيشون في أوكرانيا. إلا أننا نجد التباين والانقسام في المواقف الفردية للدول الأفريقية، فإذا كان هناك اصطفاف أفريقي مع روسيا، فهناك أيضا مساندة أفريقية لأوكرانيا، مع تباين مستوى كل موقف في ضوء حجم التشابكات التي تجمع هذه الدول مع كل من طرفي الأزمة. ففي الوقت الذي تتشابك وتتداخل فيه المصالح الاقتصادية والأمنية بين موسكو وبعض الدول الأفريقية بفضل التحركات الروسية خلال السنوات الأخيرة تجاه دول القارة، إذ نجحت موسكو في تأسيس شبكة من العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية من خلال التعاون الاقتصادي وتصدير الأسلحة والطاقة والغاز والمشاركة في عمليات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب والتدريب العسكري والوقوف إلى جانب الدول الأفريقية في الأمم المتحدة بمواجهة القرارات الغربية باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، وقد تجلى هذا التقارب والتشابك سواء على مستوى التصريحات على النحو الذي عبر عنه الجنرال الأوغندي موهوزي كانيروغابا، وهو ابن الرئيس الأوغندي، حيث صرح بأن «أغلبية البشرية (غير البيض) تدعم موقف روسيا في أوكرانيا... وأن بوتين محق تماما» أو على مستوى التصويت الذي جرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت قرارها بإدانة روسيا، إذ امتنعت 16 دولة أفريقية عن التصويت لصالح القرار الأممي، إضافة إلى سبع دول لم تصوت على الإطلاق، وصوتت دولة واحدة (إريتريا) ضد هذا القرار إلى جانب روسيا وبيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية.
ولكن على الجانب الآخر من القارة نجد إدانة بعض الدول الأفريقية العدوان الروسي ووصفته بأنه اعتداء على النظام الدولي، مثل كينيا وغانا، حيث صوتت 25 دولة أفريقية لصالح قرار الأمم المتحدة.
وغني عن القول إن هذا الانقسام العميق بين دول القارة الأفريقية إنما يعكس مأزقا سياسيا تعيشه القارة في كيفية التفاعل مع أزمة عالمية تحمل بدايات رسم ملامح البنية الجديدة للنظام العالمي، وهو ما ينذر بتحديات سوف تواجه وحدة الموقف الأفريقي في قادم الأيام، إذ تجد الدول الأفريقية نفسها بين مكاسب تسعى لتحقيقها من تقاربها مع روسيا، ذلك التقارب الذي ازداد ترابطا على مدار السنوات السابقة محققا مردودات إيجابية للطرفين (الأفريقي والروسي)، وبين تفاهمات تزيد من مساحة التعاون بين دول القارة وأوكرانيا منذ استقلال الأخيرة في أوائل تسعينات القرن المنصرم عقب تفكك المنظومة السوفياتية، حيث شهدت الفترة الأخيرة حضورا أوكرانيا في القارة من خلال تصدير القمح وبعض المنتجات التي لها صلة بالزراعة، إضافة إلى استضافة عشرات الآلاف من الطلاب الأفارقة في التعليم العالي بأوكرانيا. ويعزز من هذا التقارب، الضغط الغربي لدعم أوكرانيا وهو ما تخشاه دول القارة بسبب النفوذ الغربي المتزايد في الداخل الأفريقي.
الثاني: أفريقيا والأزمة... تداعيات عدة ومقاربات واجبة
ليست مبالغة القول إنه رغم التباين في الموقف الأفريقي حيال العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، إلا أن الأطراف الأفريقية سعت جلها إلى محاولة تفادي تداعيات الأزمة وانعكاساتها على أوضاعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، والبحث عن فرص جديدة يمكن أن تغتنمها، فكانت هناك طموحات أفريقية للخروج من الأزمة وتداعياتها بأقل الخسائر وفي الوقت ذاته تعظيم المكاسب التي يمكن أن تجنيها دول القارة.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن التحديات التي أفرزتها الأزمة على دول القارة بعيدا عن المأزق السياسي التي استوجب منها اتخاذ قرار حيال الأزمة والذي فرض على الجميع أن يحدد الخانة التي يقف فيها كما سبقت الإشارة بالنسبة للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن الحقيقة أن عملية التصويت عكست بعدا مهما في الموقف الأفريقي تمثل في أن هناك ما يقرب من نصف الدول الأفريقية لا ترغب في تحمل تبعات الاصطفاف مع طرف ضد الطرف الآخر، أملا في أن تحصد مكاسب من الجانبين دون دفع الأثمان المطلوبة، وهي معادلة رغم وجاهتها إلا أن تطبيقها على أرض الواقع يحمل مخاطر عدة وأخطارا عديدة إذا ما أخفقت هذه الدول في اللعب على التوازنات بين الأطراف.
وإلى جانب تلك الصعوبة، ثمة صعوبة أخرى تتعلق بتداعيات الأزمة على الأوضاع الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تتحملها كافة دول القارة، خاصة تلك التي تشهد تواجدا روسيا مباشرا أو غير مباشر على غرار ما هو موجود في الجزائر وأفريقيا الوسطى وبعض دول الساحل، وكذلك السودان وإثيوبيا وإريتريا وغيرها، إذ يمكن أن نرصد هذه التداعيات من خلال ثلاثة جوانب:
الأول: التداعيات الاقتصادية المتعلقة بارتفاع مستويات الأسعار وخاصة الغذائية (القمح والذرة) التي تمثل كل من روسيا وأوكرانيا مصدرين مهمين لتلبية احتياجات هذه الدول، فضلا عن ارتفاع تكاليف النقل ورسومه، وما يرتبط بذلك من ارتفاع نسب التضخم العالمية التي ستنعكس على الأوضاع الاقتصادية في دول القارة، الأمر الذي يضيف أعباء على كاهل المواطن الأفريقي الذي يعاني من تدهور مستويات معيشته.
الثاني: التداعيات الأمنية والعسكرية، وترتبط هذه التداعيات سواء بالاتفاقات العسكرية المتعلقة بصفقات التسليح والتدريبات وما سيترتب على هذه الأوضاع من ارتفاع قيمة هذه الصفقات من ناحية. وتوقف بعضها نظرا لحاجة السوق الروسية لهذا السلاح في معركتها من ناحية أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الأعباء على الموازنات العامة لدول القارة، فضلا عن التأثير السلبي على قدرة الحكومات في مواجهة التنظيمات الإرهابية والصراعات الداخلية، خاصة أن بعض الدول الأفريقية كانت تعتمد على الدعم الروسي سواء المباشر أو عبر شركة فاغنر في محاربة الإرهاب.
الثالث: التداعيات السياسية والاجتماعية، وترتبط هذه التداعيات بحجم الأعباء التي ستتحملها الدول الأفريقية لتوفير الموارد المالية لسد الارتفاعات في مستويات الأسعار عالميا سواء تعلقت باحتياجاتها الغذائية أو العسكرية، الأمر الذي يضع الحكومات الأفريقية في مواجهة مع المواطنين، بما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في كثير من دول القارة التي ربما تشهد إما صراعات جديدة في المناطق المهمشة داخل حدودها أو زيادة حدة الصراعات المتفاقمة كذلك.
في ضوء ذلك، يصبح على الدول الأفريقية ضرورة البحث عن مقاربات جديدة تمكنها من إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، من خلال اغتنام بعض الفرص التي أتاحتها الأزمة، سواء تعلق الأمر بتوجهها أوروبيا من خلال الاستفادة من الحاجة الأوروبية لدول القارة لإيجاد بدائل لموارد الطاقة بعيدا عن الاعتماد بنسبة كبيرة على روسيا، إذ بدأ البحث الأوروبي في كيفية الاستفادة من المخزون النفطي والغاز الموجود في الأراضي الأفريقية، وهو ما يفتح الباب أمام توجيه المزيد من الاستثمارات الأوروبية في هذين المجالين، فضلا عن التوجه كذلك إلى مجال المعادن النادرة. كما يمكن لهذه الدول التوجه كذلك للاستفادة من الحاجة الروسية لفتح آفاق جديدة للتعاون مع دول القارة على المستويات كافة وذلك بهدف مواجهة العقوبات الأوروبية والأميركية، وتقليل الآثار السلبية على الاقتصاد الروسي والهروب من العزلة الدولية.
نهاية القول إن الأزمات رغم ما تحمله من تهديدات وما تفرزه من تحديات، تحمل في طياتها أيضا فرصا وإمكانات، تحتاج إلى رؤى ومقاربات قادرة على العمل لمواجهة تلك التهديدات والحد من هذه التحديات وتعظيم الفرص والإمكانات، وهذا ما ينطبق على القارة الأفريقية في تفاعلاتها مع الأزمة الروسية الأوكرانية والتي تمثل الأزمة الأولى من نوعها والتي يواجهها العالم بشكل اصطفافي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فهل تستطيع قيادات دول القارة تنسيق مواقفها وتحديد أولوياتها ورسم مسارات عملها في كيفية تعاملها مع تلك الأزمة؟