وجد عدد كبير من قيادات وأعضاء جماعات الإسلام السياسي، وخاصة الإخوان المسلمين ملاذا آمنا في معظم دول الخليج العربية بعد المضايقات والمتابعات الأمنية والقضائية التي عاشوها في بلدانهم الأصلية. فقد آوت العواصم الخليجية في ستينات وسبعينات القرن الماضي كل من لجأ إليها من تيارات الإسلام السياسي موفرة لهم سبل العيش الكريم من خلال توظيفهم وإدماجهم في أسلاك إداراتها المختلفة، وبالخصوص في التعليم والعدل والأوقاف والشؤون الإسلامية.
وقد امتد حسن الترحيب الخليجي بهؤلاء المنتمين للتيارات الإسلامية الإخوانية والسلفية أيضا إلى السماح لهم بالنشاط الدعوي عبر مختلف المنابر الدينية ووسائل الإعلام، ومن خلال جمعيات محلية استخدمت أسماء ذات حمولات إيمانية مثل «الإرشاد»، و«الإصلاح» وغيرهما. وقد ترأس هذه الجمعيات مواطنون من الدول الخليجية نفسها، بعضهم كان من الأسر الحاكمة، ومعظمهم تتلمذ على يد مناصري هذه التيارات وكان سببا في تقرب عدد منهم من السلطات العليا في بلدان المأوى؛ الأمر الذي وفر لهؤلاء أجواء مريحة لممارسة أنشطتهم المهنية والدعوية وحتى السياسية بكل أريحية وبعيدا عن أي إزعاج، بل إن بعضهم حصل على جنسية البلد الذي آواه.
لقد مكن هذا الاقتراب من أصحاب القرار، وكذا أجواء الانفتاح الاقتصادي المعروف عن اقتصاديات الدول الخليجية إضافة إلى حسن استغلال تشبث المجتمعات الخليجية بالكثير من القيم المحافظة، عددا من منتسبي التيارات الإسلامية من ولوج أسواق المال والأعمال وتكوين ثروات ضخمة سيتضح لاحقا أنها كانت مصدرا هاما من مصادر تمويل جماعات الإسلام السياسي عبر العالم، وليس فقط في دول أصحاب هذه الثروات.
مقابل هذا الاحتضان والكرم في المعاملة كان ينتظر من الإسلاميين أن يبادروا عند أي امتحان صعب تتعرض له دول الخليج إلى رد، ولو نزر يسير من الجميل الذي استفادوا منه؛ وذلك باتخاذ مواقف مؤيدة أو داعمة لهذه الدول لن تكلفهم في الواقع أي شيء، وإنما يمكنها أن توسع دائرة حظوتهم هناك؛ ولكن ذلك لم يحصل في أول محنة تضرب منطقة الخليج إثر الغزو العراقي للكويت.
فأمام هول الغزو وما خلفه من كوارث وضحايا فوجئت الأنظمة والشعوب الخليجية معا، وكذا جل المتابعين للظاهرة الإسلامية بمواقف مستغربة ومستهجنة من مختلف التيارات السياسية الإسلامية، التي تجاهلت إدانة غزو الكويت، وركزت على دغدغة مشاعر الجماهير المسلمة من خلال انتقاد الوجود الأجنبي القادم لتحرير الكويت، معتبرة إياه غزوا إمبرياليا بربريا يمثل دليلا آخر على ما سموه «استسلام القادة العرب والمسلمين للغرب». لقد كان موقف إسلاميي الأردن أنصع موقف في هذا السياق، إذ تميز بدعوة المسلمين إلى عدم الانحناء للرئيس الأميركي آنذاك بوش الأب أو لأي شخص آخر ممن نعتوهم بأعداء الإسلام.
كانت مواقف التيارات الإسلامية هذه، التي اعتبرها الخليجيون جحودا بينا، بمثابة جرس إنذار لأنظمة المنطقة لكي تكتشف أن أنصار الظاهرة السياسية المتشحة بالدين المقيمين بين ظهرانيها أتقنوا ممارسة مفهوم التقية، لأنهم لم يروا فيما وجدوه من ترحيب في الخليج كرما أو عطفا، وإنما ثمنا لما توهموه من رغبة لدى الدول الخليجية في استغلالهم كأداة تشويش على الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية واليسارية آنذاك، والتي لم تكن تخفي نزعات الهيمنة الساعية إلى فرضها على بقية الدول العربية التي كانت تصنفها رجعية.
وطبيعي أن يدفع هذا الجحود السافر معظم دول الخليج إلى تغيير مواقفها من الظاهرة الإسلامية، واستشعار خطورتها وضرورة التحرك سريعا من أجل العمل على تصفيتها كحركة سياسية أو احتوائها إذا تعذرت التصفية؛ ولكن خططها من أجل ذلك اختلفت من عاصمة لأخرى بحسب مدى تغلغل التيارات الإسلامية في حياتها السياسية والاجتماعية، وحسب الظروف الخاصة بكل دولة.
في هذا السياق يمكن التمييز بين شكلين رئيسيين من أشكال التعامل الخليجي مع جماعات الإسلام السياسي وتجلياتها المختلفة هي:
* احتواء هذه الجماعات من خلال فتح المجال لها للمشاركة في عمليات الاقتراع في البلدان التي تعرف ممارسة انتخابية؛ ثم تولية عدد من أعضائها بعض المسؤوليات الحكومية في إدارات خدمية. لقد ساعدت هذه المشاركة الانتخابية في كشف مدى شعبية هذه التيارات التي ثبت أنها أقل من الحجم الذي كانت تروجه عن نفسها؛ فيما أظهر تولي مسؤوليات تنفيذية عدم قدرة عناصر هذه الجماعات على القيام بمهامهم كما ينبغي، وكما كانوا يدعون.
* حل هذه الجماعات ونزع أي صفة قانونية عنها. وقد تم تنفيذ ذلك بأسلوبين مختلفين. الأول كان طوعيا من الجماعات نفسها، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي ارتضى أحد فروعها في المنطقة حل نفسه دون إبداء أسباب ذلك، باستثناء حديثه عن عدم جدوى النضال في بيئة اجتماعية محافظة أصلا، وتنعم برغد العيش. أما الأسلوب الثاني فاستخدم الأدوات القانونية لحل مختلف فروع الجماعات الإسلامية، وتقليص تأثير أعضائها من خلال عدم تجديد عقود عمل الوافدين منهم، وإحالة المواطنين منهم على التقاعد.
رغم اختلاف أسلوبي التعامل الثاني، فإن التجربة أثبتت النجاعة التي تميز بها بنوعيه، إذ ساعد في استئصال النفوذ الإسلامي المسيس من الدول التي طبقته بشكل سمح لها بتنفيذ سياسات تنموية حداثية دون أي اعتراض يختبئ وراء أسمال دينية لاستثارة الرأي العام.
والواضح أنه بعد كل الذي حصل إبان ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، فإن التعامل الثاني أصبح نموذجا تحاول كافة دول المنطقة تبنيه بحثا عن الاستقرار الضروري لخططها التنموية المرتكزة على رؤى اقتصادية تروم تنويع مصادر الدخل بعيدا عن الاعتماد على صادرات البترول والغاز.