أميركا ليست بلدا ضعيفا إطلاقا، بل ما زالت القوة الأولى عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا رغم مواجهتها منافسة شديدة في كافة المجالات من قبل العملاق الصيني الذي يتوقع بعض الخبراء بأنه سيتفوق على العم سام بعد عقد أو أكثر.
وأميركا أيضا ليست قوة هابطة أو في فترة غروبٍ، فلديها من المواد الأولية ما يجعلها اليوم المصدّر الأول عالميا للغاز السائل والنفط، وهي رائدة في مجال التكنولوجيا فشركات الغامام (ميتا، غوغل، مايكروسقت، آبل، أمازون) ليس لها منافس في العالم وتبلغ ثرواتها وميزانياتها أرقاما خيالية تتعدى ميزانيات دول عدّة مجتمعة.
تعاملات البورصة الأميركية تعادل مرتين ونصف تقريبا تعاملات بورصات العالم مجتمعة في يوم واحد. وهذه الأرقام إن دلت على شيء فهي الثقة التي تتحلى بها الولايات المتحدة كبلد ومجتمع يتمتع بقوانين وعدالة تناسب رأس المال.
ومع هذا هناك شعور أن الولايات المتحدة الأميركية في تراجع. هذا الشعور بالتراجع يتجلى في أكثر من مجال. مثلا النقاش الداخلي الجاري حاليا في أميركا والذي يعكس نوعا من نقمة كبيرة لدى جمهور عريض لم يعد يثق بالطبقة السياسية وهو مقتنع بأنها قامت بمحاربة شخص أتى من خارج هذا النادي التقليدي في واشنطن وأقصته بالغش عن فوز مستحق لولاية ثانية.
الكلام هنا يدور عن تدخلات من أجهزة أمنية فاضحة حادت عن دورها في المحافظة على أمن الأميركيين من دون تفرقة على أساس انتمائهم السياسي واتخذت موقفا سلبيا من شخص الرئيس ترامب وقامت بالتجسس عليه وعملت على تركيب ملف يقوم على خيانته لبلاده لصالح روسيا بوتين بالشراكة مع منافسته وقتها هيلاري كلينتون. الكلام أيضا عن فساد الطبقة السياسية وعن صفقات مشبوهة بين بعض أركانها. هذا يعطي انطباعا أن أميركا مفككة ومنقسمة على نفسها بشكل خطير.
هناك أيضا في السياسة الخارجية المتبعة من قبل الإدارات المتعاقبة منذ أيام 11 سبتمبر (أيلول) نوعا من إرباك يصعب على المراقب والمتابع لها فهمه. إعادة ترتيب الأولويات هو شأن تقرره الولايات المتحدة طبعا وفقا لاستراتيجياتها ورؤيتها للعالم ولكنه في بعض الأحيان يبدو متناقضا. فمثلا كيف التوفيق بين إدانة الولايات المتحدة الأميركية لغزو روسيا لأوكرانيا وفرض عقوبات قاسية عليها والاستمرار في التعاون معها على موضوع الملف النووي الإيراني والعمل على إعادة إنتاج اتفاق ستكون له تداعيات كبيرة على منطقة الشرق الأوسط.
هناك أيضا الانسحاب من أفغانستان وقبلا تراجع الرئيس أوباما عن معاقبة الأسد عند تخطيه الحدود الحمراء التي رسمتها الإدارة الأميركية. وتجاهل قضم بوتين للقرم وردات الفعل الخجولة لحربه على جورجيا. ثم هناك مواقف وخطوات كثيرة أخذتها الإدارة الديمقراطية مع أوباما وبايدن لا تصب مؤكدا في مصلحة الحلفاء أكانت المملكة العربية السعودية أو إسرائيل. كاتفاق إيران النووي الذي خرج منه ترامب وسيعود إليه بايدن، أو مثلا التوافق مع بوتين وسليماني في سوريا ضد مصلحة إسرائيل، وفي اليمن ضد مصلحة المملكة العربية السعودية.
السؤال الأساسي يتعلق اليوم بتلك الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة والتي بدأ تنفيذها إبان إدارة الرئيس أوباما، والتي تجلت بالابتعاد عن الحلفاء والتقرب من «الخصوم والأعداء». هل هذه استراتيجية مربكة أم إن هناك أبعد من ذلك؟
هذا التغيير لا يمكن أن يُفهم من دون الرجوع إلى 11 سبتمبر والنقاشات التي طبعت تلك المرحلة بين المثقفين الأميركيين والتي يمكن تلخيصها بالسؤال الذي شغل أوساطهم بعد الذهول الذي أصابهم من جراء هذا الهجوم: لماذا يكرهوننا؟ الجواب عند البعض كان رافضا لاعتبار أن كره بعض الشعوب لأميركا هو مشكلة أميركية إنما مشكلة مجتمعات رجعية وديكتاتورية تقمع ناسها ومجتمعاتها فتولد التطرف، وعبر عنها وقتها المفكر الأميركي من أصول لبنانية فؤاد عجمي ومجموعة ما كان يعرف بالمحافظين الجدد أصحاب «أجندة الحرية» للعالم، أما الجواب الآخر والذي تبناه الرئيس أوباما فكان يقول: إن هذا الكره هو نتيجة تدفع ثمن أخطاء سياسات خارجية انحازت بالكامل للحلفاء من دون أن تأخذ بعين الاعتبار رأي الفريق الآخر، وعلى أميركا أن تغير من نهجها، من هنا كانت نظرية أوباما (القيادة من الخلف وجماعيا).
هذا التغيير في السياسة العامة والتقرب من «الآخر» يعود إلى هذه النظرية بالذات، ومن هنا نفهم بشكل مبسط طبعا اللهفة لتوقيع اتفاق مع إيران مما يعفيها من أي تراجع والتزام بالحد من سياساتها التوسعية في المنطقة لا بل يشجعها وغيرها من البلدان في المضي قدما في هذا الاتجاه.
أميركا اليوم غير متصالحة مع تاريخها ولهذا للأسف تداعيات على العالم كله.