القاهرة: التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال الجلسة الثالثة الطارئة لمجلس النواب الإثيوبي بخصوص سد النهضة، والبحر الأحمر والتي قال فيها «نريد التعاون مع مصر والسودان، وكما وعدنا نقوم بتوليد الطاقة وإطلاق المياه النقية، والمياه الصادرة من الروافد العليا للنيل الأزرق في إثيوبيا متاحة لجميع البلدان الثلاثة، ونحن جاهزون طالما يوجد حل يفيدنا جميعا، هذه التصريحات تفتح باب التساؤلات حول جدية إثيوبيا في حل أزمة سد النهضة التي تجاوزت عقدا من الزمن، دون أي مرونة من الجانب الإثيوبي، للوصول إلى اتفاق قانوني عادل وملزم تتفق عليه جميع الأطراف (مصر وإثيوبيا، والسودان)، وهل تأتي تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي من قبيل المناورة، وتعطيل الإجراءات المصرية السودانية التي قد تتم في مواجهة الملء الثالث للسد، والمتوقع إتمامه بداية من يونيو (حزيران) وحتى أغسطس (آب) القادمين، حيث أعلنت كل من مصر والسودان اعتراضهما على الإجراءات الأحادية الجانب التي تتخذها إثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة، والتي كان آخرها إعلان الجانب الإثيوبي وفي احتفالية كبيرة بدء تشغيل توربينات السد وتوليد الكهرباء، وهو ما يعد مخالفة صريحة لبنود اتفاق إعلان مبادئ سد النهضة الموقع بين الدول الثلاث في العام 2015، والذي ينص في بنده الخامس على التعاون في إجراء الملء والتشغيل، وهو ما دفع مصر لتقديم خطاب للأمم المتحدة لإبلاغه بالخروقات الإثيوبية لهذا الاتفاق.
وما يزيد الأمور تعقيدا اقتراب موعد الملء الثالث والذي تعتبره جميع أطراف الأزمة نقطة فارقة في ملف سد النهضة، حيث تعتبره إثيوبيا نهاية حربها الدبلوماسية حول السد والذي عبرت عنه التصريحات السياسية والإعلامية الصادرة عن أديس أبابا أنه مع إتمام الملء الثالث فإن السد أصبح يحمي نفسه، وعلى كلا من مصر والسودان حماية السد خشية انهياره وهو ما سوف يدمر البلدين بنحو 74 مليار متر من المياه، والتي تعتبر قنبلة مائية تتفوق على القنبلة النووية، وهو ما تخشاه كل من مصر والسودان اللذين أعلنا أكثر من مرة وجود عيوب فنية في إنشاءات السد تعرضه لخطر الانهيار، كما أن الملء الثالث يحرم دولتي المصب من إتمام ضربة عسكرية لجسم السد وتعطيلة عن العمل أو إخراجه من الخدمة لأنه وطبقا للتصريحات الإثيوبية سيكون السد «حاميا لنفسه». فهل تناور إثيوبيا لإتمام ملء السد؟ وما هي الإجراءات المصرية السودانية لمواجهة الكارثة؟ وهل فقدت كل من مصر والسودان أوراقهما الضاغطة التي يمكنها أن تجبر إثيوبيا على تغيير مواقفها، وتوقيع اتفاق قانوني عادل وملزم يحمي الحقوق المائية لدولتي المصب؟ أم إن الأمر قد فات أوانه وفقدت مصر والسودان جميع الأوراق؟ لذا بدا رئيس الوزراء الإثيوبي مناورا من خلال تصريحاته عن التعاون الثلاثي فيما يخص سد النهضة؟
فشل مصري سوداني ونجاح إثيوبي لسياسة كسب الوقت
اتبعت إثيوبيا سياسة كسب الوقت جنبا إلى جنب مع سياسة فرض الأجندة في طاولة التفاوض مما مكنها من الاستمرار في بناء السد والانخراط في عمليات التفاوض بكل ثقة، وذلك حسب الباحث والمحلل السوداني عباس محمد صالح عباس، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، مؤكدا أنه من الناحية النظرية فقد ظلت تصدر عن المسؤولين الإثيوبيين وباستمرار، تصريحات إيجابية وتطمينية لدولتي المصب، والدعوة للتفاوض وصولا لحلول عادلة للجميع لكن من دون تقديم تنازلات حقيقية. بكل وضوح تغلبت إثيوبيا على دولتي المصب في فرض تفسيرها لبنود إعلان المبادئ وبالتالي شرعنت تصرفاتها الأحادية من أجل ضمان استمرار مراحل الإنشاءات الأولية للسد من دون انتظار نتائج جولات التفاوض أو التوافق حول القضايا ذات الصلة وأيضا في كافة مراحل التعبئة ووصولا إلى المرحلة الأولى من إنتاج الكهرباء.
وأضاف صالح أن خسارة مصر والسودان لجولات التفاوض حول سد النهضة الإثيوبي ليس فقط فشلا في انتزاع تنازلات من إثيوبيا، وبالتالي المحافظة على مصالحهما في مياه النيل، وإنما كان أيضا فشلا عظيما في إيجاد سياسات وطنية وإقليمية حول الموارد المائية من منظور مستقبلي يراعي الأهمية الاستراتيجية لهذه الموارد واحتياجات شعبيهما والشعب الإثيوبي من خلال العمل على امتلاك زمام المبادرة عبر تطوير سياسات مائية مستدامة تشاركية مع إثيوبيا التي تعتبر منبع النيل الأزرق باعتباره رافدا حيويا لنهر النيل. لذا كان هذا الفشل للخرطوم والقاهرة هو الورقة الأقوى التي ساعدت على تعزيز عناصر قوة الموقف التفاوضي لإثيوبيا طوال جولات التفاوض في مسار سد النهضة، وأيضا في أي مشروعات مائية كبرى مستقبلا قد تقدم على القيام بها.
ومن المؤكد أيضا أن انشغال العالم بالصراع في أوكرانيا سيعمل على تهميش هذا الملف أكثر فأكثر، وهو ما يصب في صالح الاستراتيجية التفاوضية لإثيوبيا؛ لا سيما في ظل تعثر المفاوضات وعجز دولتي المصب، والوساطة الأفريقية عن إحداث اختراق جدي في القضايا العالقة بين الأطراف.
ويمكن القول إنه قد فات الأوان على دولتي المصب لوقف التصرفات الأحادية لإثيوبيا أو تحديها بقوة بحيث تعيد النظر في مواقفها أو تقديم تنازلات لصالحها، ذلك سواء من خلال الضغط عليها عبر طرف دولي، أو حتى من خلال الاتحاد الأفريقي، وهما الورقة الوحيدة التي كانت بيد مصر والسودان.
سياسة ضبط النفس.. وإجراءات غير معلنة
تصريحات آبي أحمد حول إمكانية التعاون مع دولتي المصب فيما يخص سد النهضة، إضافة إلى بيانه حول فائدة السد للدول الثلاث، هي تصريحات لتحسين صورة إثيوبيا أمام الرأي العام العالمي، والذي رد عليه رئيس الوزراء المصري مؤكدا من خلال بيان له أن مصر لديها استعداد للتفاوض بهدف الوصول لاتفاق قانوني عادل وملزم، وأعتقد أنه إذا اتخذت إثيوبيا أي إجراءات تمكنها من الملء الثالث للسد، فهذا يعني إصرارها على مواصلة أسلوبها في اتخاذ خطوات أحادية، ومصر والسودان قد أعلنتا رفضهما لخطوة إثيوبيا تشغيل توربينات توليد الكهرباء بشكل أحادي، والذي يضر بالمفاوضات في ظل عدم وجود اتفاق على مثل هذه الخطوة، فمن حيث المبدأ هناك رفض مصري سوداني لهذه الخطوة.
وهناك حالة من ضبط النفس لدى الجانب المصري، واستخدام الأسلوب الدبلوماسي في هذا الملف وهناك ربما أعمال وإجراءات غير معلنة للإعلام، إضافة إلى تحركات الخارجية المصرية في هذا الصدد، وربما يتم تحريك الاتحاد الأفريقي برئاسة السنغال، ولكن نحن نحتاج إلى وتيرة متسارعة من قبل الاتحاد الأفريقي للسير في إيجاد حلول لهذا الملف.
وبالنسبة لحقائق التشغيل والملء فإن هناك جوانب فنية، وهناك جانب سياسي، وبما أنه هناك تشغيلا تم الإعلان عنه في شهر فبراير (شباط) الماضي، وإعلان مصر والسودان رفضهما لهذه الخطوة، إضافة إلى وجود تحركات دبلوماسية غير معلنة لاستئناف المفاوضات، في وجود مراقبين دوليين يكون لهم دور فعال. ومن حيث الجانب الفني، أولا بالنسبة للتشغيل فقد كان المستهدف هو تشغيل عدد توربينين اثنين خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكان من المفترض تشغيل هذين التوربينين خلال العام 2014. وهما المرحلة الأولى من السد حيث إن المرحلة الأولى هي تشغيل توربينين، وتم الافتتاح في 20 فبراير، ومنذ الافتتاح وحتى الآن التشغيل ضعيف للغاية حيث لم يظهر وجود تشغيل من خلال صور الأقمار الصناعية لأن جميع الصور التي تم التقاطها سواء بالأقمار الصناعية أو من موقع السد تدل على أن التشغيل لم يتم، وربما يكون هناك تشغيل تجريبي فقط، لكن التشغيل الحقيقي غير موجود بدليل أن المياه لا تزال تتدفق من أعلى الممر الأوسط، ولو كان هناك تشغيل حقيقي فإن فتحة التوربين قادرة على تمرير 30 مليون متر مكعب يوميا، ولكن التوربين حاليا لا يعمل إلا بنسبة ضعيفة ما يعني أنه لا يزال في مرحلة التجريب، ولذلك لا تزال كمية المياه التي تأتي لسد النهضة تعبر جميعها من أعلى الممر الأوسط، والتشغيل بهذه الطريقة لا يمكنه تجفيف الممر الأوسط، ولو أرادت إثيوبيا تجفيف الممر الأوسط لبدء التخزين الثالث فعليها فتح بوابات التصريف التي تم فتحها العام الماضي.
وقال الخبير المائي دكتور عباس الشراقي: لن يتم تجفيف الممر الأوسط إلا بفتح بوابات التصريف. وتشغيل التوربينات هو أحد طرق التجفيف، ولكن التشغيل بهذه الطريقة لن يجفف الممر الأوسط، ولا يمكن البدء بوضع الخرسانة إلا بعد التجفيف، كما أن وضع الخرسانة مرتبط بتعلية أجناب السد، ولا بد أن يكون الممر الأوسط منخفضا عن الأجناب بنحو 15 مترا، كما هو الوضع الحالي، وهو الانخفاض اللازم لتمرير الفيضان خلال موسم الأمطار، وإلا سيمثل ذلك خطورة كبيرة لإمكانية مرور الفيضان من أعلى الأجناب، لذا لا بد من تعلية الأجناب، وهذه العملية مكلفة وتستغرق وقتا أطول من تعلية الممر الأوسط، كما أن المنسوب الحالي والمتوقفة عنده أعمال السد هو منسوب التوربينات، والأعمال الخرسانية مرتبطة بأعمال فنية دقيقة للغاية.
وأضاف الشراقي، هناك شكوك في قدرة إثيوبيا على إتمام التخزين الثالث بهذا الشكل، وإذا تم فمن الممكن رفع الممر الأوسط عدة أمتار وذلك ستنجم عنه مخاطرة كبيرة، حال قدوم فيضان عالٍ، والذي سيتدفق في هذه الحالة من فوق الأجناب، ولكن في حال تعليته عدة أمتار، فمن الممكن حجز ملياري متر من الماء كتخزين ثالث، حيث إن تعلية المتر الواحد تمثل تخزين نحو نصف مليار متر مكعب، وإذا تم التخزين بهذا الشكل فليس هناك مشكلة كبيرة ولا نستطيع القول في هذه الحالة إن السد قد حمى نفسه. وفي هذه الحالة سيكون التخزين ضعيفا للغاية ولن يغير الموقف. ومصر لا تزال تعلن التزامها بالمفاوضات، لأن الحل الآخر هو حل عسكري، ومصر ملتزمة بالحل السياسي، وهناك ضبط نفس على درجة عالية جدا، ولن تلجأ مصر إلى الحل العسكري إلا في حال وقوع ضرر كبير عليها بحيث لا يكون أمامها خيار سوى العمل العسكري، والوضع الحالي ليست فيه خطورة، والأوضاع الهندسية حتى الآن تقول إن الموقف لم يتغير كثيرا، وبالتالي لا وجود للحل العسكري إلا بوجود خطوات قوية ومؤثرة، كما أن مصر لا تزال تعلن رفضها الخطوات الأحادية الإثيوبية، إضافة إلى وجود تحركات على مجال أوسع لتجنب التخزين الثالث حتى لو كان بقدرة مليار متر مكعب واحد فقط، لأن تأثيره من الناحية السياسية سيكون مثله مثل تشغيل التوربينات، بغض النظر عن معيار الكفاءة العالية أو المتدنية لأنه بأي حال تعتبره مصر تشغيلا أحاديا، بتأثيراته السلبية، لذا قامت مصر بإخطار مجلس الأمن بهذا الخرق الإثيوبي، وجميع التحركات الدبلوماسية المصرية تسعى لمنع التخزين الثالث حتى لو كان تخزين مليار متر مكعب واحد.
اتهامات بتفريط سوداني في حقوقه المائية
من جهته، قال عضو السودان السابق في مفاوضات حوض النيل، الدكتور أحمد المفتي لـ«المجلة»: هناك إصرار على ضياع حقوق السودان المائية، والذي بدأته حكومة الرئيس عمر البشير، حيث التقى وزير الخارجية المكلف السفير علي الصادق مع وزير الري المكلف المهندس ضو البيت عبد الرحمن، منذ عدة أيام، وأكدا على موقف السودان الثابت، بضرورة التوصل إلى حل قانوني وملزم تحت رعاية الاتحاد الأفريقي يحفظ مصالح السودان وحقوقه المائية، وجدد وزير الخارجية دعمه لفريق التفاوض. وأكد اللقاء موقف السودان، وهو ليس في حاجة إلى تأكيد، لأن حكومة السودان ظلت تؤكده منذ العام 2011. وظلت إثيوبيا ترفضه، وتستمر في التشييد والملء أحاديا، حتى يومنا هذا، وتلك هي المشكلة التي كان ينبغي للوزيرين مخاطبتها، ولكنهما لم يفعلا، وبذلك انضما بامتياز، إلى المجموعة التي فرطت في حقوق السودان المائية. ويعضد من انضمام الوزيرين إلى تلك المجموعة، تصريح وزير الخارجية المكلف، بأنه يدعم فريق التفاوض السوداني، علما بأن ذلك الفريق، هو المسؤول الأول عن ضياع حقوق السودان المائية.
وقال المفتي: إعلان مبادئ سد النهضة لسنة 2015، لا يلزم إثيوبيا ببيع الكهرباء المولدة منه للسودان، وبالمناسبة فقد قامت إثيوبيا بتجربة تشغيل توربينين، وأقوى حجج المؤيدين لسد النهضة، من السودانيين، هي أنه سوف يوفر للسودان كهرباء بأسعار تفضيلية ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن إعلان مبادئ سد النهضة وهو على ضعفه الوثيقة القانونية الوحيدة التي تحكم علاقات الدول الثلاث فيما يتعلق بسد النهضة، وهو لا يلزم إثيوبيا بتوفير كهرباء للسودان، لا بأسعار تفضيلية، ولا بأسعار تجارية، بل إنه يعامل السودان، مثل معاملته لمصر، على الرغم من أن مصر دولة مصدرة للكهرباء. ومرجعيتنا في ذلك، هي المبدأ رقم (6) من إعلان مبادئ سد النهضة، والذي ينص على: إعطاء دول المصب الأولوية في شراء الطاقة المولدة من سد النهضة.
فيما خالفة الرأي الدكتور عباس شراقي وقال لـ«المجلة»: بالنسبة للموقف السوداني فقد أثيرت اتهامات بتراخي المفاوض السوداني وتفريطه في مياه النيل والمصالح السودانية، كما أن هناك مطالبات بالانسحاب من المفاوضات. ولكن إذا ما تمت الاستجابة لهذه المطالب فما هي الحلول الأخرى؟ لا حلول أخرى سوى العمل العسكري. ولكن هل الجانب السوداني لديه إمكانية التعاون مع مصر للدخول في هذا الجانب أم لا؟ المسؤولون في مصر والسودان لا يزال لديهم التزام بالحل السلمي، ومن يطالب بانسحاب دولتي المصب من المفاوضات لا يملك رؤية واضحة، لأن ما يبعث على الهدوء في الموقف الآن هو عدم إتمام التخزين الثاني أصلا، ولو تم التخزين الثاني بسعة 13 مليار متر مكعب لكان الموقف قد التهب. ومصر حريصة على عدم إتمام التخزين الثالث بهذا الشكل لأن تأثيره السياسي والمعنوي أشد، حتى لو تم بسعة مليار متر مكعب واحد. والمطالبون بالانسحاب من المفاوضات، وإلغاء إعلان مبادئ سد النهضة لا يدركون أن هذا الإجراء غير عملي، فإلغاء إعلان المبادئ، أو الإبقاء عليه لا يقيدنا في شيء، كما أن خطاب مصر الموجه إلى مجلس الأمن كان متضمنا خرق إثيوبيا لإعلان مبادئ سد النهضة، والذي ينص على التعاون في الملء والتشغيل، كما أن إعلان المبادئ لا يلزم مصر، أو إثيوبيا بشيء، ولا يمنع توجيه ضربه عسكرية للسد.