لماذا ينبغي أن تشعر بروكسل بالامتنان لوقوع الأزمة الاقتصادية؟

لماذا ينبغي أن تشعر بروكسل بالامتنان لوقوع الأزمة الاقتصادية؟

[escenic_image id="557897"]

ثمَّة ما يذكِّرنا من حين لآخر، ولا سيما عند حلول أسوأ الكوارث، بأن التاريخ هو من الأهمية بحيث لا يمكن تركه للمؤرخين. وفي الثاني من أكتوبر، سوف تشهد أيرلندا استفتاء على معاهدة لشبونة المؤسِّسِة للاتحاد الأوروبي للسنة الثانية في غضون ما يقل قليلا عن عام واحد. ويعتبر قبول المعاهدة والتصديق عليها أمرين حاسمين من أجل تحديد أفضل للدور الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي على الصعيد الدولي، ولوضع حد للاعتراضات الوطنية داخل الدول على عدد من المسائل المحورية المتعلقة بالسياسات، والإسراع من عملية صنع القرار داخل الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من انتصار المؤيدين للمعاهدة، إلا أنه يبدو من خلال القضايا التي سيطرت على ساحة النقاش في أيرلندا، في هذه اللحظات الحاسمة بالنسبة للمشروع الأوروبي، أن ما قد فعله الاتحاد الأوروبي لأوروبا والأوروبيين قد طواه النسيان.

وقد تم اسـتعراض عدة مخاوف من جانب الأيرلنديين كانت حاسـمة في اتخاذ قـرار التصويت بـ"لا" في استفتاء عام 2008. وبالرغم من التنازلات التي قدمها الاتحاد الأوروبي، فإن هذه المخاوف ظلت قائمة حتى موعد الاستفتاء الأخير. وتعد النصوص المتعلقة بالاستقلال الضريبي، وحق أيرلندا في الاحتفاظ بمفوض الاتحاد الأوروبي الخاص بها، والمحافظة على قوانينها المعرضة للإجهاض، من بين الأسباب الرئيسية لعزوف الأيرلنديين عن إقرار المعاهدة. ويقوم حزب "ليبراتس"، والذي يعد أول حزب على مستوى الاتحاد الأوروبي يشارك في حملة "لا" في العام الماضي، بتحفيز نفسه من خلال شعارات مثل "تقوم النخب غير المنتخبة وغير المسئولة في بروكسل بوضع القوانين التي تغير حياتنا وتهدد وظائفنا من وراء الأبواب المغلقة،  وكل هذا يجب أن يتوقف".

فمن اللافت للنظر في مجتمع الدول الديمقراطية، أن تكون  الدولة الوحيدة العضو في الاتحاد الأوروبي التي تم عقد استفتاءات بها حول معاهدة لشبونة ، من بين السبع و عشرين دولة الأعضاء في الاتحاد، ، هي التي ترفض المعاهدة. وقد تطلب الأمر القيام باستفتاء ثان، وممارسة الكثير من الضغوط من مصادر مختلفة، لإقناع ايرلندا بالموافقة على المعاهدة. ومن المفارقات أيضا، أن يشكل أقل من واحد في المائة من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي تهديدا محتملا لتطور مشروع الاتحاد الأوروبي كله. ويعود السبب وراء هذا المأزق إلى انعزال بل واغتراب مواطني الاتحاد الأوروبي عن  مشروع الاتحاد الأوروبي، وعما يدور في بروكسل. وقد جرت العادة على أن  يخفق  صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي في التصدي لهذه القضية.

والحقيقة أن الاتحاد الأوروبي يعاني من مشكلات رئيسية، على رأسـها البيروقراطية المفرطة، وتعقُّد الاتحـاد الأوربي، وصعوبة تواصله مع مواطنيه. وهذه السمات التي يتسم بها الاتحاد الأوروبي لا تسهم سوى في دعْم صورة الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي تقوم فيه نخبة محدودة باتخاذ القرارات المصيرية، التي يكون لها تأثير كبير على حياة المواطنين. ولا يساعد وضع البرلمان الأوروبي إلا في زيادة تفاقم هذه المشكلة. إنه هيئة غير صالحة بكل المقاييس، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن السبب الرئيسي من وراء إنشاء هذا البرلمان هو تمثيل مصالح مواطني الاتحاد الأوروبي.

ويعد إنقاذ أوروبا من ماضيها المظلم المليء بالحروب هو الهدف الأول والأهم لمشروع الاتحاد الأوروبي. ولكن يبدو للأسف أنه أيضا أكثر الأهداف التي سرعان ما يتم نسيانها. وقد نجح الاتحاد الأوروبي في جعْل الصراع المسلح داخل حدوده يكاد أن يكون مستحيلا. وبالرغم من أنه لا تزال هناك بعض الصراعات، فإن مسئولية الاتحاد الأوروبي لا تكمن في منع الصراع داخل حدوده، ولكن في قدرته على التوصل إلى حل سلمي لهذه الصراعات. ويعد هذا الإنجاز، إلى جانب تأسيس منطقة من الرخاء، والتي أصبحت فيما بعد أكبر تكتل اقتصادي في العالم، وسمحت لأوروبا بالدخول في منافسة مع آسيا الآخذة في النمو والازدهار، من أهم إنجازات الاتحاد الأوروبي.

ومن أجل دفْع هذه المشروعات السياسية الطموح للأمام، قامت مجموعة من الشخصيات السياسية المعروفة من أمثال، جان مونيه وروبرت شومان، بالبحث عن أفضل وسيلة لإنقاذ أوروبا وإخراجها من ماضيها المظلم المليء بالنزعات القومية العمياء والحروب والدمار. ومن أجل رسم مستقبل لأوروبا يختلف كل الاختلاف عن ماضيها المظلم، فقد أنشأوا الجمعية الأوروبية للفحم والصلب كخطوة أولى في مسيرة تحقيق التكامل الأوروبي. فقد كان الفحم و الصلب، في ذلك الوقت، أهم مورديْن من موارد الحرب. وبالتالي فإن توحيد إنتاج الصلب والفحم في كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، بالتأكيد ضمان حاسم ضد العودة إلى الماضي القريب المظلم.

ويجب أن نتذكر بشكل أكثر  إسهام الاتحاد الأوروبي في نجاح الدول الأعضاء مثل أيرلندا. فحتى حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وقبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، كانت أيرلندا واحدة من أفقر البلدان في أوروبا. ومن الشائع سماع قصص من أجيال الشعب الأيرلندي الأكبر سنا تدور حول؛ كيف أنهم أمضوا سنوات يقتاتون بالحليب والبطاطس فقط. وكانت "المعجزة الأيرلندية" واحدة من أعظم قصص النجاح في أوروبا، وهى أبرز مثال  على الفوائد الاقتصادية والاجتماعية لعضوية الاتحاد الأوروبي. وقد لعب هذا العامل، والذي كان غائبا تماما عن الاستفتاء الأول، دورا حاسما في نتائج الاستفتاء الثاني الذي عقد في الثاني من أكتوبر.

وفى ظل الآثار الرهيبة للأزمة الاقتصادية، تم الاعتراف أخيرا بفوائد الاستقرار الاقتصادي التي تقدمها عضوية الاتحاد الأوروبي، والانتماء إلى نادي عملة اليورو،  إلى حد ما على الأقل. و لكن للأسف فإن هذا الاعتراف لم يحدث إلا لأسوء الأسباب. و في هذا الصدد، ينبغي أن تشعر بروكسل بالامتنان لآثار الأزمة الاقتصادية.

ولا نجادل في أنه إذا فازت جبهة "الرفض" في أيرلندا، فإن الاتحاد الأوروبي سوف يختفي أو ينهار. غير أن فشل قيادات الاتحاد الأوروبي في التواصل مع مواطنيهم، ولا سيما في ظل الاستفتاء، والفشل في الترويج لأبرز إنجازات الاتحاد الأوروبي لأوروبا عموما، والشعب الأيرلندي على وجه الخصوص، يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة. وإذا حققت جبهة "الرفض" نصرا آخر فمن المحتمل أن يخلق هذا أكبر أزمة سياسية في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن إلقاء اللوم على الشعب الأيرلندي، لو حدث هذا. بل ينبغي توجيه أصابع الاتهام إلى بروكسل، وإلى الحالة التي وصل إليها البرلمان الأوروبي.

مانويل ألميدا

font change