بيروت: عُرف لبنان سابقاً بأنه «مستشفى الشرق الأوسط»، وكان الرعايا العرب يقصدونه للاستشفاء والاصطياف في ربوعه، لكن الأحداث الأمنية والسياسية المتلاحقة في السنوات الأخيرة التي أدت إلى أزمة مالية، عصفت بالبلاد، وجاءت جائحة كورونا لتضرب البنية الأساسية للقطاع الطبي اللبناني وتحوله إلى قطاع مترنح.
ومنذ اندلاع الأزمة مطلع العام 2020، بدأت المستشفيات اللبنانية تعاني من عدم القدرة على تأمين المستلزمات الطبية بسهولة، وصولاً إلى فقدان أدوية الأمراض السرطانية وغيرها، ناهيك عن الفساد المستشري في كل الإدارات والمستشفيات .
ويعد فقدان الأدوية والمستلزمات الطبية من الصيدليات والمستشفيات أحد أبرز وجوه انهيار القطاع الصحي، حيث توقفت المستشفيات أكثر من مرة عن استقبال «العمليات الباردة»، أي العمليات غير الطارئة، بسبب عدم توافر مادة البنج وغيرها من الأدوية الأساسية، ناهيك عن فقدان بعض المستشفيات مادة المازوت لتشغيل مولدات الكهرباء، وبات المواطنون يحاولون تأمين الأدوية التي يحتاجون إليها عبر أصدقاء أو أقارب في دول أخرى.
وتسببت أزمة شح الدواء بالعديد من حالات الوفاة بعدما تعذر على ذوي المرضى الحصول على الدواء لهم، كما تسببت الأزمة في رواج تجارة الأدوية في السوق السوداء بأضعاف ثمنها.
وتسود المستشفيات فوضى لجهة التسعير، إذ رفعت بعض المستشفيات تعرفة الاستشفاء على أساس سعر دولار السوق السوداء، في حين توقف البعض الآخر عن استقبال المرضى المسجلين لدى الجهات الضامنة.
وتفاقمت مشكلة القطاع الصحي بعد هجرة أكثر من 1000 طبيب وأكثر من 1200 ممرض وممرضة خلال عامي 2020 و2021، بحثاً عن فرص عمل تضمن لهم حياة كريمة، بعدما خسرت رواتبهم أكثر من 90 في المائة من قيمتها بسبب انهيار قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، بالإضافة إلى تراجع قدرة المستشفيات على التوظيف، وقيامها بصرف عدد من موظفيها وخفض رواتب البعض الآخر.
صحة الإنسان حق ضائع
في حديث مع «المجلة»، أعرب رئيس الهيئة الوطنية الصحية، واللقاء الأكاديمي الصحي، الدكتور إسماعيل سكرية عن «ألمه الشديد لما آلت إليه صحة المواطن من حق ضائع وكرامة مهدرة وكابوس طبي- استشفائي- دوائي في ظل أزمة اقتصادية ومالية ومعيشية خانقة، الذي أفقد المريض الشعور بقيمته كإنسان.
واعتبر سكرية أن «ملحمة ومسرحية فقدان الأدوية وتحليق أسعارها بمعدل عشرة أضعاف، أفقدت السوق أمنها الدوائي، وأوجدت ظاهرة جديدة مؤسفة، تتمثل في تحايل المريض على برنامج استخدام الدواء المزمن، أو استخدام أدوية مجهولة التركيب ومهربة من الخارج، أو انتظار قدره كما هو حال مرضى السرطان.
واتهم سكرية «الجهات التنفيذية والتشريعية والنقابية بالاستخفاف بصحة الناس وعدم احترامها طوال العقود الماضية، وهو ما تسبب في حرمان المواطن من الحق في رعاية صحية لائقة دون تأخير وبشكل يحفظ كرامته، مبدياً قلقه الشديد من غياب خطة صحية واضحة والاستمرار بملاحقة ما يتكرم به البنك الدولي وغيره من مساعدات أو قروض تتراكم أثقال أثمانها على كاهل الأجيال الحالية واللاحقة».
وأكد أن تفشي جائحة كورونا مؤخراً يعود إلى وصول متحور أوميكرون إلى لبنان، مشيراً إلى أن المتحور سريع العدوى إلا أن أعراضه أخف من أعراض كورونا، وازداد انتشاره نتيجة الازدحام في المطار وقدوم المغتربين، بالإضافة إلى عدم التزام المواطنين بالاحتياطات المطلوبة مثل التباعد وعدم التعرض إلى البرد القارس وتناول الأدوية لمكافحة موجة الإنفلونزا.
الاستشفاء كابوس
وعن واقع الاستشفاء في لبنان، أشار سكرية إلى أن الاستشفاء كان في السابق بالنسبة للمواطن «هماً»، أما اليوم فهو كابوس مرعب. والاستشفاء بات حكرا على الميسورين، إذ إن شركات التأمين أو الجهات الضامنة تقوم بتغطية المريض حسب وضعه الصحي، والمدة التي سيمضيها في المستشفى، وطبيعة مرضه وتكلفة علاجه، وكم ستغطي الشركة من هذه الكلفة، وما هو المطلوب من المريض دفعه، لذلك أعود وأكرر أن الاستشفاء اليوم كابوس للمواطن.
وأشار سكرية إلى «تراجع قدرات القطاع الصحي، بعد أن كان مستشفى الشرق الأوسط، وبإمكاني القول إن القطاع الصحي يتصحر لأن القطاع فقد أطباء أكفاء، كما فقد الممرضون والممرضات وهم الأساس للقطاع، وأنا أعتبرهم البنى التحتية البشرية للقطاع الصحي، إضافة إلى التقنيين والفنيين في الأشعة والمختبرات، وهذا النزوح أثر بشكل كبير على القطاع مثلما تأثرت قدرة المواطن على الاستشفاء».
وعن فقدان الأدوية من الصيدليات وخصوصاً الأدوية الوطنية، أكد سكرية أن «الأدوية المصنعة محلياً تباع وتصدر إلى الخارج طمعاً في الدولار النقدي، مما حرم السوق والمريض اللبناني من هذه الأدوية. والمؤسف أن الأدوية الوطنية لا تجدها في السوق المحلية بل تجدها في العراق وليبيا والدول الأفريقية».
مافيا الدواء متجذرة
وعن اتهامه المستمر بأن «مافيا الدواء» في لبنان متجذرة ومدعومة، قال الدكتور سكرية إن مافيا الدواء متجذرة جداً في لبنان وهو كارتيل ارتقى إلى مستوى مافيا، وعمر هذه المافيا يعود إلى بداية استيراد الدواء قبل 155 سنة، ومر بمراحل عام 1897 ثم 1927 و1946 و1959، وهذه المراحل شكلت العمود الفقري لهذا الكارتيل. وكنت قد أطلقت على هذا الكارتيل اسم مافيا في مجلس النواب عام 1997 لأن هذه المافيا تستبيح كل شيء في سبيل أرباحها ومصالحها.
وأضاف أن قوة هذه المافيا تعود إلى تمكنها من اختراق مواقع القرار التنفيذي ومجلس النواب، فمجلس النواب يعتبر مقبرة لكل محاولات الإصلاح الدوائية منذ أيام النائب فريد جبران عام 1960 إلى وزير الصحة إيميل البيطار عام 1971، إلى المكتب الوطني للدواء عام 1998، إلى كل المحاولات الأخرى التي كانت تسقط في مجلس النواب، إذ كان النواب يعمدون على تطيير النصاب في الجلسة المحددة، وهذا سببه الفساد، واختراق سياسي وإداري. فوزارة الصحة متواطئة في سمسرات وفساد ومافيا الدواء سيطرت وهيمنت على القرار الصحي.
سياسة التهديد
وحذر سكرية من «الاتجاه الخطير الذي يفرض على سوق الدواء في لبنان، بحيث تتزايد مبيعات الأدوية غير المسجلة والمجهولة التركيب عبر الانترنت، مترافقة بين الحين والآخر مع رسائل تهديد صوتية لمن يعترض خصوصا من الصيادلة، وما يرتبه ذلك من فوضى علاجية ومخاطر صحية»، معتبرا أن السبب «يعود إلى سياسة العهر الاحتكاري المدعوم من البنك المركزي وتواطؤ أو صمت أو جبن المعنيين من وزارة صحة وبرلمان ونقابات».
ورأى أن «مرحلة التسلل لبعض أدوية المنطقة انتقلت إلى مرحلة الهجوم والضغط والتهديد، مستفيدة من لامصداقية الوعود الوزارية واستمرار فقدان الأدوية المزمنة الأساسية مثل أدوية السرطان بمعظمها وحاجة المترنح بين الحياة والموت».
الوكالة الوطنية
وعن قرار إنشاء الوكالة الوطنية للدواء، يقول سكرية: «إنه هدف جيد ولكن ماذا كان مصير كل المؤسسات التي أنشئت في لبنان؟ وماذا أنتجت؟ هنا نعود إلى المشكلة ذاتها، التعيين سيغلب عليه الطابع السياسي والطائفي فكيف ستعمل هذه الوكالة؟ لو كانت هناك إرادة ومناخ ومسؤول يتمتع بهذه المواصفات في تطبيق القانون ما كنا وصلنا إلى هنا. لذا لا أتأمل كثيراً».
وعن صحة دخول لقاح كورونا البازار السياسي، قال سكرية: «أنا قلت إن اللقاح دخل البازار السياسي لأن كل القيمين على تسويق اللقاحات في لبنان (انبح صوتهم) وهم يزايدون بتسويق اللقاحات رغم أن بعضها تم رفضه داخل الدول التي أنتجته مثل لقاح جونسون آند جونسون الذي رفضته الولايات المتحدة وأغلقت محله وتم إرساله إلينا، واليوم نرى كيف يسوقونه عبر الإعلام ويمدحون فوائده مثله مثل لقاح أسترازينيكا الذي أثار عدة إرباكات في أوروبا وتوقفت دول عدة عن استخدامه لتعود لاحقاً وتسمح بتسويقه وهذه التصرفات أحدثت إرباكا كبيراً».
وأضاف سكرية: «المشكلة أن الكل لديه طموحاته للدخول إلى السياسة إن كان لجهة الدولة المصنعة أو من يروج لها، لذلك قلت إنه دخل البازارالسياسي وخرج عن لغته العلمية المطلقة وصار هناك بلبلة كثيرة في موضوع اللقاحات وخاصة أن بعض اللقاحات ظهر ضعف تأثيرها، لذا نرى أن الذي يأخذ ثلاث جرعات يصاب مجددا بمتحور أوميكرون، لذا أصبح التسويق معنويا وماديا واقتصاديا وسياسيا بخلفيته».
البطاقة الصحية شعار
وعن الأسباب التي تمنع من تطبيق البطاقة الصحية التي أقرها مجلس النواب، أكد سكرية أن البطاقة الصحية لن تطبق وستبقى شعاراً، وفي حال طبقت لن تعطي أي نتيجة. ففي أيام العز، أي قبل انهيار الليرة، لم تكن الدولة قادرة على تطبيقها لأن هناك شرطين يجب توفرهما: أولاً، توفر تغطية مالية لمدة خمس سنوات وهذا غير موجود. وثانياً: الاتكال الأساسي للاستشفاء سيكون حول القطاع الحكومي في المستشفيات الحكومية المرهقة والمتعثرة والفاشلة، لذا لا توجد بطاقة صحية إلا بطاقة للشعارات الشعبوية السياسية.
وأشار سكرية: «منذ 15 سنة، تم إقرار البطاقة الصحية للمعوقين، ويومها كنت نائباً في البرلمان وأعلنت في مجلس النواب أن هذه البطاقة شيك بلا رصيد، وهذا هو الواقع للبطاقة الصحية اليوم».
كل محاولات الإصلاح فشلت
واعتبر سكرية أن محاولات الإصلاح منيت جميعها بالفشل نتيجة التواطؤ بين أركان السلطة والشركات المستوردة، وما نشهده اليوم هو استمرارية لهذه السياسة الدوائية الفاشلة التي لا تظهر حجم التلاعب بصحة اللبنانيين وآلامهم بقدر ما تظهر غياب رؤية صحية متكاملة.
وقال: إن أركان السلطة الذين حاربوا المكتب الوطني للدواء هم أنفسهم أحبطوا محاولات الإصلاح، مما يشير إلى أن تحقيق الأرباح لتجار الدواء يفوق بأهميته أي اعتبار آخر بما فيه صحة اللبنانيين.
وأضاف: إن مشكلة دولتنا القديمة الجديدة هي الاحتكار من كبار التجار الذين يملكون القوة مالياً وسياسياً، ويمارسون الابتزاز في الأدوية بهدف تحقيق ثروات هائلة. وأمام المشاكل والمصاعب الاقتصادية، استفاد التجار من دعم صرف الليرة واستيراد الدواء المدعوم، وبادروا إلى تهريب الأدوية وبيعها بالعملة الصعبة (الدولار) إلى مصر والعراق وليبيا من دون حسيب أو رقيب.
وعن سبب استمرار فقدان الدواء من الصيدليات، قال سكرية إن المستودعات توزع الأدوية على الصيدليات بالقطارة، أي إنها تعطي الصيدلية علبة أو علبتين في الشهر، وأدوية السرطان والسكري مفقودة، والشركات المستوردة تحرم السوق من الأدوية الضرورية.
وأضاف: «صحيح أن بعض الصيدليات اقترفت بعض المخالفات، وأن المواطنين اشتروا أدوية بكميات أكبر من حاجاتهم خوفا من الغلاء، لكن كل هذه الكميات تعتبر ضئيلة بالنسبة للأدوية المخزنة لدى الشركات».
لقاحات وقائية
وعما إذا كانت اللقاحات التي تعطى لمكافحة وباء كورونا ومتحوراته تساهم في العلاج، أكد الدكتور سكرية أن جميع اللقاحات وقائية وليست للعلاج، وهذه اللقاحات أحدثت ضجة في البداية أكثر بكثير من النتائج التي ظهرت والتي نشهدها اليوم، لأن الذين أخذوا ثلاث جرعات من اللقاح تعرضوا للإصابة مجدداً وحصل لهم مضاعفات، إلا أنها أخف من الذي يتعرض لها من امتنع عن أخذ اللقاح وبالتالي يمكن القول إن اللقاح هو وقائي نسبي وليس علاجاً».
أموال الـPCR
وعن سبب دفع 30 دولاراً لفحص الـPCR في المطار واختفاء الأموال التي دفعها الوافدون رغم أن معظم الدول تجري الفحص مجاناً، قال سكرية إن الفحص تجارة وسرقة، حيث كانوا يدفعون في المطار 50 دولاراً وتم تخفيضه إلى 30 دولاراً لأنه يخضع لسلطة الفساد وثقافة الفساد تتاجر حتى بأرواح الناس.
وأضاف: «أما بالنسبة للأموال التي اختفت بعد دفعها، فقد أصدر المدعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس قبل أيام قراراً بشأن التحقيق في مصير الأموال الناتجة عن فحوصات الـPCR في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، وطلب من المدير العام للطيران المدني بالتكليف المهندس فادي الحسن وجوب التعميم بأسرع وقت على جميع شركات الطيران وشركات الخدمة الأرضية في المطار بتحويل المبالغ المدفوعة بالدولار الأميركي الفريش لحساب وزارة الصحة العامة والجامعة اللبنانية كي لا تثرى هذه الشركات على حسابهما إثراءً غير مشروع وذلك حفاظاً على الأموال العمومية وحرصاً على المصلحة العامة».