القاهرة: شهدت مصر خلال السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من هجرة الكوادر الطبية، والأطباء إلى الخارج، ما يطلق تحذيرات متوالية، ومخاوف من تأثيرات هذه الموجات من الهجرة على المنظومة الصحية في مصر ومستوى الخدمات المقدمة للمرضى والتي تعاني في الأساس نقصا شديدا في الجودة كما وكيفا، ما يمثل نزيفا متواصلا، وأهدارا للطاقات بعدما أصبحت بعض الدول مثل ألمانيا، وإنجلترا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وسنغافورة، دولا جاذبة للطبيب المصري، بعدما كانت دول الخليج العربي أكثر جذبا.
فيما أطلقت نقابة الأطباء المصريين صرخات متوالية، وتحذيرات متكررة، مطالبة بخطوات عاجلة لوقف نزيف هجرة شباب الأطباء، في ظل حالة من العجز الكبير في عدد الأطباء، وقلة أعداد الطلاب المقبولين في كليات الطب، ما يهدد مستقبل الرعاية الطبية في مصر، حيث أكدت بعض الإحصائيات هجرة ما يقرب من 110 آلاف طبيب، وهو ما يمثل نصف عدد الأطباء المقدرة أعدادهم بحوالي 215 ألف طبيب، وهو ما يعني 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن فيما يصل المعدل العالمي إلى 32 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن.
ظاهرة هجرة الأطباء دفعت عددا من أعضاء البرلمان لتقديم عدة مشروعات بقوانين للمساهمة في القضاء على هذه الظاهرة التي أشارت نقابة الأطباء في أكثر من موضع لأهميتها في الحفاظ على قطاعات الصحة في مصر، وتقديم أفضل الخدمات الطبية والصحية خاصة في المستشفيات الحكومية والمستشفيات العامة، مؤكدة على ضرورة الاهتمام بمطالب الأطباء التي اعتبرتها النقابة مطالب بسيطة، لا تمثل مشكلة بالنسبة للدولة حال اتخاذ الإجراءات الجادة لمنع تفاقمها، بعدما لجأ شباب الأطباء إلى تخطي العوائق التي تواجههم في مباشرة ومزاولة مهنة الطب بالجنوح إلى العمل خارج البلاد بحثا عن مستقبل مالي أفضل، وهربا من عقوبات قد تلاحقهم حال حدوث مضاعفات لمرضاهم قد تحدث لأسباب عديدة ليس منها الخطأ الطبي الجسيم. فيما تمثلت أسباب الأزمة في تدني الرواتب والأجور، وضعف الإمكانات والمستلزمات الطبية داخل المستشفيات الحكومية، وعدم وجود حماية قانونية للأطباء أثناء ممارسة عملهم حيث يتعرض العديد منهم للسب والشتم وأحيانا الاعتداء الجسدي عليهم داخل المستشفيات من قبل أهالي المرضى وذويهم.
كما تعد هجرة الأطباء إلى الخارج من أخطر التحديات التي تواجه تطوير المنظومة الصحية وتحسين الخدمات الطبية في مصر والتي تعود لعدة أسباب منها عوامل داخلية يأتي على رأسها قلة التقدير المعنوي، إضافة إلى ضعف الرواتب والأجور، مع وجود عوامل جذب خارجية ممثلة في الرواتب الضخمة، والتقدير الشخصي للأطباء، ومستوى الخدمات والرفاهية المقدمة لهم في الدول الجاذبة، وهو ما دفع لتحركات مصرية واسعة النطاق وعلى مستوى رفيع لمواجهة هذه الظاهرة وإن اعتبرت هذه الخطوات غير كافية، في ظل ما أظهرته جائحة كورونا من النقص العددي في الأطقم الطبية ما استدعى تدخلات عاجلة لإقرار امتيازات وحوافز لتشجيع الأطباء على الاستمرار بالعمل في المستشفيات المصرية ولسد العجز في الطواقم الطبية والارتقاء بمستوى الخدمات الطبية المقدمة للمرضى، حيث أوضحت بيانات وزارة الصحة المصرية أن خريجي كليات الطب بلغ حوالي 9 آلاف طبيب سنويا، في حين يعمل أكثر من 60 في المائة من الأطباء المصريين خارج البلاد.
النقابة لا تملك منع التجاوزات بحق الأطباء
الأطباء لا يحصلون على أية مزايا تتعلق بعملهم، والطبيب لا بد أن يمنحه عمله كطبيب رضا وظيفيا، والدولة لا تقدم له ما يعطيه هذا الرضا الوظيفي، وهو الأساس، هكذا بدأ نقيب الأطباء المصريين الدكتور حسين خيري تشخيص الأزمة في تصريحات خاصة لـ«المجلة» قال فيها إن الأطباء لا يتم تدريبهم بشكل دوري، ولا يحصلون على مرتبات تضمن لهم حياة كريمة، ولا يتم تأمينهم في أماكن عملهم، ويتم التشهير بهم في وسائل الإعلام حال حدوث مشكلات معهم تتعلق بممارستهم لمهنة الطب، ويتم حبسهم أحتياطيا في المسائل التي تتعلق بالخطأ الطبي، أو حال حدوث مضاعفات، ولا يمكن أن ندعي أنهم يريدون البقاء في مصر، فهم لا يتم تدريبهم، وأجورهم مخزية وفي حال الاعتداء عليهم لا تتم حمايتهم، مضيفا أن نقابة الأطباء ليست جهة تشريعية، أو تنفيذية حتى تستطيع منع التجاوزات في حق الأطباء، وتحسين أوضاعهم المادية والمعيشية، صحيح أن النقابة تمارس الضغط في هذا الاتجاه ولكن الحلول ليست في يدها، والحلول تأتي في اتجاهين، الأول يكلف الدولة أعباء مالية، والآخر لا يكلف الدولة أية أعباء مالية، الأول يتمثل في المرتبات والمعاشات، ونحن لا نتكلم عن الرواتب المخزية فقط، ولكن أيضا المعاشات مخزية أكثر وأكثر، وهي مأساة في حد ذاتها، إضافة إلى عدم خضوع الأطباء إلى أي منظومة علاجية ولا تضمن الدولة لهم علاجا على نفقتها، ولا تضمن لهم رعاية صحية، والثاني يتمثل في إيجاد حماية للأطباء داخل أماكن عملهم، داخل الاستقبال أو بالمستشفيات، فعندما يتم الاعتداء عليهم داخل المستشفيات فالمنشأة هي التي تبلغ بالاعتداء، ولكن الطبيب هو الذي يقوم بالتبليغ عن الاعتداء ويكون في النهاية هو والمعتدي سواء بسواء، «محضر مقابل محضر»، وفي النهاية يجبر على التصالح، فالوقائع تعد وقائع شخصية وليست اعتداء على طبيب أثناء تأدية مهنته الطبية، إضافة إلى ذلك يجب وضع تشريعات تتعلق بالمسؤولية الطبية وتمنع حبس الطبيب احتياطيا، وهنا لا نتحدث عن الوقائع أو الجرائم الذاتية التي لا تتعلق بالخطأ المهني والفكرة أن أخطاء الأطباء ليست جرائم جنائية، حيث إنه لا يمكن أن يتعمد الطبيب ارتكاب الخطأ الطبي حال حدوثه، والفارق بين المجرم والطبيب أن الطبيب تعلم كيف يعالج، وفي نيته تخفيف آلام المريض، وهو مؤهل لذلك، أما المجرم فإن لديه نوايا شريرة، ولديه قصد جنائي، لكن الطبيب يحصل على موافقة لمزاولة مهنة الطب، ولديه مؤهل، ولديه نوايا خيرة ممثلة في تخفيف آلام المرضى، فعندما تحدث مضاعفات طبية لا يجب التعامل معه على أنه مجرم لديه قصد جنائي ونضعه في السجن جنبا إلى جنب مع المجرمين، ويجب أن تكون هناك محاكمة طبية يحاكم أمامها الطبيب عندما تحدث أخطاء مهنية، ولكن عندما يرتكب الطبيب جرائم جنائية مثل القتل والسرقة فهذا موضوع آخر لا نتحدث فيه.
وقال نقيب الأطباء: مطالب الأطباء بسيطة يمكن تحقيقها لأنها سهلة ويسيرة، إضافة إلى المطالب المالية، والدولة اتخذت بعض الخطوات في هذا الاتجاه، ولكنها خطوات لا تكفي، ولو وجدت إرادة حقيقية من الدولة لتم تنفيذ جميع مطالب الأطباء. وهناك تعارض بين التشريعات وبعض السلطات الأخرى في الدولة، وأعتقد أن المشكلة سوف تتقلص مستقبلا، ولكن حتى الآن ليس هناك في الوقت الحالي ما يمنع حدوث هذه المشكلة.
قانون «المسؤولية الطبية» قد يكون هو الحل
في جميع الأحوال يتسبب ضعف رواتب الأطباء في أزمة هجرة شباب الأطباء إلى الخارج خاصة إلى الدول الأوروبية، إضافة إلى عوامل أخرى منها ضعف التدريب، وذلك حسب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الإصلاح والتنمية، ووكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، الدكتور أيمن أبو العلا، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»: قائلا: مع أن هناك بعض التحسن في كادر الأطباء إلا أنه لا يزال هناك أمامهم فرص أكبر في الخارج، والتدريب بقانون التدريب الإلزامي حدث فيه بعض التحسن إلا أنه غير كاف، كما أن الأطباء لا يجدون الاهتمام والرعاية داخل المستشفيات إضافة إلى تدني العامل النفسي لديهم خشية الوقوع في الأخطاء الطبية التي تضعهم تحت طائلة القانون، كل هذه الأسباب مجتمعة، إضافة إلى قلة عدد المقبولين في كليات الطب هو ما أدى إلى تفاقم المشكلة.
وقال أبو العلا: قد يساهم تحسين الرواتب، وتحسين الكادر، والتأمين الصحي والاجتماعي، ووجود صندوق هيئة اقتصادية خاصة، وإعطاء رواتب مجزية، لو تم تطبيقة في العموم فسوف يحسن من النتائج، وعدم تفاقم هذه الظاهرة. وبالنسبة لقانون المسؤولية الطبية سيحمي الطبيب من الأخطاء الطبية، وتشديد عقوبة الاعتداء على المنشآت الطبية سوف يساعد في حل المشكلة كأحد الإجراءات التشريعية، وأعتقد أنه في ظل التشريعات التي تم إقرارها سوف يحدث تحسن خلال الفترة القادمة سيسهم في حل هذه المشكلة.
وأكد أبو العلا على أهمية قانون «المسؤولية الطبية»، وقال للأسف تأخرنا فيه عن دول العالم، والدول العربية، مضيفا أن مشروع القانون يهدف إلى حماية حقوق كل من الطبيب والمريض، لأنه في بعض الحالات يكون الطبيب مظلوما، وحالات أخرى يكون فيها المريض مظلوما، الأمر الذي يتطلب قانونا ينظم حالات الخطأ والمضاعفات، ومشروع القانون مدني من حيث المبدأ وليس به سجن للطبيب، كما أن الخطأ المتعمد يعد جناية، كما أن مشروع القانون عرف الخطأ الطبي في الباب الأول، كما أن الباب الثاني تضمن بعض الالتزامات القانونية حيث إن الأوان لوضع بعض الالتزامات على الطبيب مثل بذل الجهد في التشخيص، وتعريف المريض بالبدائل قبل أي إجراء طبي، كما تضمن المشروع آليات تقديم الشكاوى، وكيفية الاعتراض على القرار، وتضمن القانون أيضا التزام مقدم الخدمة بالتأمين ضد المسؤولية الطبية وتجريم من لا يلتزم بإجراء ذلك التأمين.
مشكلات مادية ومعنوية «سبب الأزمة»
فيما أكد أستاذ جراحة القلب بكلية الطب جامعة عين شمس، الدكتور خالد سمير: على معاناة الأطباء من عدة مشكلات تبدأ بعدم التقدير المعنوي، مرورا بالإهانات المتكررة والاعتداءات من قبل المرضى وذويهم والاتهامات المتواصلة لهم بالإهمال، وضعف الأجور، حيث يبلغ متوسط ما يتقاضاه الطبيب حديث التخرج حوالي 2000 جنيه، ويتقاضى الأخصائي عقب حصوله على الماجستير حوالي 3000 جنيه، إضافة إلى عدم توفير حماية لهم حال إصابة المريض بمضاعفات، أو وفاة نتيجة حدوث مضاعفات، أو نقص في الإمكانات، مع عدم وجود خطأ أو تقصير من الطبيب، حيث يتم إحالة الطبيب إلى النيابة العامة وخضوعه لأحكام قانون الجنايات لعدم وجود قانون خاص بهم، وفي المقابل لا يتجاوز تعويض بدل العدوى الذي يتقاضاه الطبيب 19 جنيه شهريا.
فيما أكد رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرعاية الصحية المشرف العام على مشروع التأمين الصحي، الدكتور أحمد السبكي، أن ملف هجرة الأطباء مهم للغاية، وأنه مع التوسع في منظومة التأمين الصحي الشامل سيتلاشى هذا الأمر، وقال: الطبيب المصري يبحث عن ثلاثة أمور «التقدير المادي، والتقدير المعنوي، والتدريب والتعليم الطبي المستمر»، وفي حال وجود هذه الأشياء سيشعر بتحسن كبير، كما أن هيئة الرعاية الصحية تسعى إلى توفير الحافز المادي المناسب للأطباء، وإعادة النظر في جداول الأجور، وهذا ما حدث في المحافظات التي عمل بها التأمين الصحي الشامل برفع أجور الأطقم الطبية بشكل كبير بما يتناسب مع عملهم، كما أن التقدير المعنوي أصبح موجودا في مصر الآن لكل الأطقم الطبية خاصة بعد جائحة كورونا التي أكدت دورهم الإنساني الكبير، كما أن هيئة الرعاية الصحية تنسق باستمرار مع الزمالة المصرية والجامعات في مصر لاستمرار التعليم الطبي للأطباء، كما شددت الهيئة في شروط تعيين رؤساء الأقسام بمستشفيات المنظمة الجديدة للتأمين الصحي على أن يكون حاصلا على درجة الدكتوراة، أو الزمالة المصرية كي نضمن أن يكون هناك تدريب داخل المنشأة الصحية.