بيروت: 200 متر تفصل بين أب وعائلته، هي جدار الفصل، الذي يفصل الفلسطينيين عن عائلاتهم وأحبّتهم، يضيء مصباح منزله الصغير خلف الجدار، وفي الطرف الآخر على بعد أمتار قليلة، تشاهد عائلته الضوء، فتسارع لإلقاء نظرة على الأب الذي يحتاج إلى تصريح لزيارة عائلته، تصريح قد لا يحصل عليه فيضطر للجوء إلى المهربين، يكاد يقضي اختناقاً في صندوق سيّارة، ليعبر إلى النصف الآخر من الوطن، مأساة جسّدها فيلم «200 متر» الفلسطيني الذي انطلق عرضه عبر منصّة نتفليكس قبل أيام.
هي معاناة لا نشاهدها في نشرات الأخبار، وإن شاهدناها قد تبدو خبراً عابراً من فلسطين التي باتت أخبارها اعتياديّة، بما فيها أخبار المعارك والحروب والمعارك اليوميّة، التي لشدّة ما تآلف معها المشاهد العربي لم يعد يشعر بمأساويتها، ما يبرز أهميّة السينما كقوّة ناعمة، تقول بالدراما ما لا تقوله نشرات الأخبار، وتخترق وجدان المشاهد وتخلق حالة جدليّة، وتجعل من العناوين العريضة والتفاصيل العابرة، عناوين وتفاصيل معاشة، لمأساة إنسانيّة في المقام الأوّل.
قبل سنة، انطلق عرض الفيلم عالمياً، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج الفلسطيني أمين نايفة، شارك في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، وحاز عدة جوائز، ورُشّح عن المملكة الأردنية الهاشمية للمنافسة على أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.
إلا أنّه ورغم قصّته المثيرة للجدل، لم يتحوّل إلى قضيّة رأي عام عربي، ولم تتناوله الصحافة العربيّة، باستثناء بعض الأخبار التي تحدّثت عن فوزه بجوائز من أكثر من مهرجان.
واليوم بعد عرضه على نتفليكس، لم يحقق الفيلم صدى يشبه ما حققه فيلم «أصحاب ولا أعز»، رغم أنّه يتحدّث عن معاناة إنسانيّة، في حبكة دراميّة لا تترك مجالاً إلا للتعاطف.
ففي الفيلم، تشاهد يوميات المواطن الفلسطيني العالق خلف جدار الفصل العنصري، وتشاهد إذلاله اليومي على الحواجز الإسرائيلية التي يضطر أن يقطعها للذهاب إلى عمله، الهوية هناك تحدّد طريقة التعامل مع المارين على الحاجز، والهوية الفلسطينية تثار حولها علامات استفهام، تذيق الفلسطيني المرّ على حاجز قد يضطر إلى قطعه يومياً.
كما يضيء الفيلم على اضطرار بعض الفلسطينيين إلى استخراج تصريح للعمل والتنقل بين المناطق، واضطرارهم للجوء إلى التهريب بين المعابر، مغامرة لا تخلو من خطورة، فإذا وقع أحدهم في الأسر، سيحرم من أخذ تصريح في المستقبل، وسيصبح سجين بقعة جغرافية تستحيل بفعل الحصار غير المعلن إلى سجنٍ كبير.
في الفيلم ستشاهد شوارع فلسطين، ستشاهد الأعلام الإسرائيلية ترفرف، مشهد اعتاده الكثير من الفلسطينيين ولم يعد يلفتهم.
يلعب فيلم «200 متر» على وتر الحنين إلى أرض فلسطين، حيث تشاهد البلد كما لم تشاهده من قبل، لا نشرات أخبار، ولا مراسلين، ولا كاميرات ترصد لحظة تلفزيونية، بل يومٌ عادي يعيشه الفلسطينيون ويعيشه معهم المشاهدون، مع تفاصيل لم يغفلها الفيلم.
في الفيلم نشاهد نموذج الرجل الفلسطيني الذي يتزوّج بامرأة من عرب 48، أي فلسطينية تحمل جنسية إسرائيليّة، لكنّه يرفض أن تمنحه جنسيتها، يعمل في الضفة ويزور أولاده بواسطة تصريح أو بالتهريب، لا يفصل بينهم سوى 200 متر، يشاهدهم من خلف جدار الفصل، يطلب من زوجته أن تأتي للعيش معه في الضفة لكنها ترفض، فالفارق بين المنطقتين على جانبي الجدار كبير وشاسع رغم الأمتار القليلة التي تفصل بينهما.
كما نشاهد الشاب الذي يخوض تجربة التهريب عبر الحدود في صندوق سيارة مغلق، مشهد كاد الممثل الفلسطيني معتز ملحيس أن يدفع حياته ثمنه، إذ إنه أصيب بالاختناق وغاب عن الوعي، ولم يستيقظ إلا في المستشفى محاطاً بفريق من الممرضين والأطباء. معاناة يعيشها الكثير من الفلسطينيين الذين يختبئون من الحواجز للعبور خلف الجدار لكن الإعلام لا يلحظها.
يحاول الفيلم أن يكون متوازناً، فيسلّط الضوء على نماذج إسرائيلية جيدة في الفيلم مثل المصورة الأجنبية التي تقوم بتهريب فلسطينيين في سيارتها، سلاحها جواز سفر ألماني تعبر فيه مع تحية على الحاجز، حتى سيارتها لا تخضع للتفتيش، قبل أن يتبيّن أنها إسرائيلية متعاطفة مع الشعب الفلسطيني.
كما يضيء الفيلم على النموذج الفلسطيني السيئ، المواطن الذي يستغل معاناة مواطنه، مشهد نراه في السائق الذي يتقاضى أموالاَ طائلة ليهرب الفلسطينيين عبر الجدار، دون أدنى مراعاة لأوضاعهم المادية، ولكونهم مضطرين للعمل والمجازفة لتحصيل قوت يومهم.
الممثل الفلسطيني معتز ملحيس، يقول في اتصال معه، إنّ أصداء الفيلم في المهرجانات العالمية والعربية كانت إيجابيّة جداً، وإنه نال ثلاث جوائز في مهرجان الجونة، واعتبر أنّ نجاحه على مستوى المهرجانات العالمية كان أكبر من العالم العربي، وأنّه بعد عرضه على نتفليكس بدأ يأخذ حقّه جماهيرياً.
وقال ملحيس إنّ الفيلم يسلّط الضوء على الزواج المختلط بين أبناء الضفة وأبناء مناطق الـ48، وما يتبعه الأمر من إجراءات التصاريح القاسية في حال فشل في الاستحصال على لمّ الشمل، وقال إنّ هذه التفاصيل يعايشها الفلسطيني يومياً، وإنّ دور السينما هو تسليط الضوء على هذه المعاناة.
ورأى أن السينما هي أقوى مدفع حربي، واعتبر أنّ الأخبار لم تتحدّث بواقعية عما جرى في فلسطين، وأنّ السوشيال ميديا كانت أقوى بكثير، وأشار إلى أنّ المعاناة مستمرة، والفن هو أفضل الطرق لإيصال صوت الفلسطيني إلى العالم.
وقال إنّه دخل إلى 37 دولة ليوصل صوت الفلسطيني، وإنّ الأمر لا يأخذ باستمرار الطابع السياسي، بل ثمة معاناة إنسانية واجتماعية ينبغي الإضاءة عليها.
وعن الفيلم قال معتز إنّه نابع من قصة حقيقية، وإنّ شخصية المصورة الإسرائيلية واقعية وحصلت، واعتبر أنّ ثمة 2 في المائة من الإسرائيليين متعاطفون وضد سياسة حكوماتهم، وإنه وجبت الإضاءة عليهم.
ولم يخفِ معتز انزعاجه من تركيز وسائل الإعلام العربية على المواضيع السينمائية التي ترتكز على المثلية الجنسية والفضائح، وتتغاضى عن فيلم إنساني حصد على مستوى العالم الكثير من الأصداء الإيجابية، وتعاطف معه الأوروبيون قبل العرب.
فيلم «200 متر» يكشف أنّ نشرات الأخبار لا تتوغّل في عمق المأساة، وأنّ السينما قوة ناعمة تغيّر معادلات، ويكشف أيضاً أن صناعة رأي عام من خلال السينما في العالم العربي، تحكمه عناوين عريضة قد يبدو فيها الهم الإنساني في ذيل القائمة، إلا أنّ القيمين على الأعمال الجادة، يؤمنون بأنّ الفن تراكم، وأنّ هذه الأعمال يجب أن لا تتوقّف، طالما أن المأساة مستمرّة.