ولأن التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا تكرر فإنه حقا يكون كارثة، وهكذا يكون مدخل التحليل الصحيح لأزمة أوكرانيا. فلا أوكرانيا هي كوبا 1962 ولا هي أزمة طائرة التجسس الأميركية التي أسقطها الاتحاد السوفياتي عام 1960 ومقتل طيارها رودلف أندرسون، وهو ما أفشل مؤتمر القمة الأول والأخير بباريس بين الرئيس الروسي نيكيتا خوروتشوف ودوايت أيزنهاور الذي كاد أن يتحول إلى اشتباك بالأيدي بعد تلاسن متبادل بين الزعيمين.
ولكن ما يحدث بين أوكرانيا وروسيا هو أن روسيا بقيادة بوتين قررت أن تدعو حلف الأطلنطي للدخول إلى كازينو أوكرانيا للعب القمار وتناول الخمر والفرجة على بنات الليل بعد دفع فواتيرهم علاوة على البقشيش. وللحق نجحت روسيا حتى الآن في إدارة الكازينو، فبدأت بالعازفين فالنادلين فالراقصين وأرسلت الراقصة الأولى إلى مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي الذي انعقد في ميونيخ وصفق فيه الجميع لرئيس أوكرانيا لأنه مثل الأطرش في الزفة لا يسمع غير الوعود بالمساندة والوقوف مع أوكرانيا ضد أي غزو روسي محتمل بالرغم من أن مطلقي الوعود يعلمون علم اليقين أنهم كاذبون؛ فقد تمخض الجمل فولد فأراً لا يزيد عن وعود بالمقاطعة الاقتصادية والعقوبات المالية لروسيا في حالة اجتياح روسيا لكييف. والواقع أنه حتى هذه الوعود شبه السلمية لن تحدث لسبب وجيه جدا هو أن أوروبا تعتمد على تدفئتها وصناعتهاعلى الغاز الروسي بنسبة تزيد على 40 في المائة، ولم ينجح الغرب حتى الآن في إيجاد البديل ولا أعتقد أنهم يستطيعون اللعب في أسواق الغاز كما فعلوا مع بترول العرب عام 1973 ليحرموهم من سلاحهم الاقتصادي الفعال ومن التفكير فى استعماله مرة أخرى في الحاضر أو المستقبل، وروسيا تعلم ذلك علم اليقين.
لذا فإنها تلاعب الغرب كله على إيقاع الفالس فتصل بهم إلى حافة الهاوية ثم تعود للمناورة والانسحاب وإعطاء التصريحات المتضاربة فتتنفس البورصات الصعداء ثم تعيد الكرة فتحبس أسواق المال أنفاسها في انتظار الأسوأ الذي لم ولن يجيء أبدا. فالقصة لم تكن أوكرانيا يوما ما ولكنها وقف زحف الغرب شرقا للاستيلاء على أراضٍ كانت تاريخيا جزءًا من روسيا تحت اسم الاتحاد السوفياتي. وقد نجح حلف الناتو وبتكلفة اقتصادية عالية في ضم المجال الحيوي لروسيا متمثلا في انضمام بولندا وبلغاريا والمجر ورومانيا وليتوانيا إلى حلف الناتو برشوة اقتصادية هى انضمامهم للسوق الأوروبية المشتركة، وهذا لا يجوز أن يحدث مع دولة مثل أوكرانيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، وكانت أكبر منتج للقمح الروسي لتمتعها بالتربة السوداء أما دول مثل بولندا والمجر فكانت دائما دولا مستقلة قبل اعتناقها الشيوعية ولم تكن جزءًا من الأراضي السوفياتية، قبل أو بعد تراجع الروس من قوة عظمى إلى قوة إقليمية وبداية الكتابات الأميركية التى تسوق لنظرية نهاية التاريخ. ومعاملة الروس بصفاقة كمواطن من الدرجة الثانية، فظهر ذلك جلياً في حرب الخليج الثانية حتى من حليفها حينذاك صدام حسين الذي رفض كل أطواق النجاة التي ألقيت إليه من روسيا. ولأن الروس أصحاب حضارة جعلت رجلا مثل بوتين يثأر للدب الروسي ويجمع شتاته ويحاول أن يكون لاعبا في السياسة العالمية ونجح كثيرا في سوريا وليبيا وإيران واستطاع أن يكسب نفوذا على حساب أميركا بصفة عامة والغرب بصفة خاصة فأراد الغرب أن يُدخل الدب الروسي إلى جحره، فكانت أزمة أوكرانيا. ومصيبة الغرب أنه يعرف كيف يخلق الأزمات ولكن لا يعرف كيفية السيطرة عليها بعد ذلك.
وباستقراء الأحداث وبواقعية شديدة فإننا نرى أن هذه الأزمة هي كازينو للقمار تم افتتاحه على أرض أوكرانيا ومدير الكازينو هو فلاديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، وقد حصل على الأموال فى هيئة سلاح بريطاني وأميركي، أما راقصاته فحصلن على البقشيش فى هيئة وعود غامضة، بالانضمام للناتو يعلم رئيسهم أنها لن تتحقق أبدا، لأن أوكرانيا هي من الأملاك الروسية ولكنها ذات سيادة تعطيها حق العضوية في الأمم المتحدة، ولكنها لن تحميها من الدب الروسي الذي يستطيع أن يهدم الكازينو الأوكراني ويطفئ أنوار أوروبا ويعطل مداخن المصانع الغربية.
ولكن لماذا بلع الغرب الطعم الروسي ليستجيب لنداءات وإغراءات الكازينو الأوكراني؟ فللحق الغرب في نفسه ما في نفس ابن يعقوب، فقد ظن أن روسيا 2022 هي نفس روسيا 1990 مع وجود أسباب خاصة عند أميركا ليس أقلها تغطية الفشل الاقتصادي والسياسي لجو بايدن وتدني شعبيته. أما بوريس جونسون فهو رئيس الوزراء البريطاني المعرض في أي لحظة للقبض عليه من بوليسه أو على الأقل تغريمه لكسره قيود حظر كورونا التي وضعها بنفسه ووصلت شعبيته إلى أدنى مستوى منذ جون ميجور الذي يعتبر أضعف رئيس وزراء بريطاني في العصر الحديث. فذهب بوريس جونسون إلى أوكرانيا ليدق طبول الحرب ويرسل بعض المعدات العسكرية وهو يعلم علم اليقين أن طبوله جوفاء وأن جيشه لا يصمد أمام الاجتياح الروسي وراح يبيع الوهم لنفسه ويهروب للأمام من المساءلة القانونية عن مخالفته للقانون في بلاده وهو يعلم علم اليقين أن أوروبا لا تستطيع أن تدفع ثمن حرب بسبب أوكرانيا وأن بوريس جونسون ليس تشرشل 1939 لأنه لا يوجد تشمبرلين الذي وقع معاهدة السلام مع هتلر عشية غزو بولندا وأن بوتين ليس هتلر لأن الزمان قد تغير وأصبح العالم قرية صغيرة إذا اشتكى أحد أعضائها تداعى له سائر العالم بالسهر والحمى، وسيكون بوتين هو الرابح الأكبر فلن يتمدد الناتو وسينسى الغرب جزيرة القرم التي كانت أوكرانية وضمها الروس إليهم عام 2014 استنادا لحق تاريخي وستنسحب القوات الروسية من الحدود الأوكرانية وستمضي ألمانيا في مد الخط الثاني لأنابيب الغاز ضد الرغبة الأميركية وستؤدي أوكرانيا فروض الولاء والطاعة مرة أخرى لروسيا وسيغلق الكازينو الأوكراني لأنه متخصص فقط في لعبة قمار واحدة يتقنها بوتين جيدا، ألا وهي الروليت الروسي.