يدور في بعض الأوساط الدبلوماسية الأوروبية حديث عن قيام روسيا، قبل أزمة أوكرانيا، بإجراء مشاورات ما تزال جنينية مع عواصم عربية وإقليمية لاستشراف إمكانية إطلاق حوار بين سوريا وإسرائيل للوصول إلى سلام بينهما. وتعزو تلك الأوساط المساعي الروسية إلى إدراك موسكو بأن تدخلها العسكري المكثف في الحرب الأهلية السورية، الذي حسم الصراع لفائدة النظام الحاكم لا يمكنه تجاوز المدى الترابي الذي وصل إليه، مخافة حصول اصطدام مباشر مع قوى دولية وإقليمية لها هي الأخرى مناطق نفوذ على التراب السوري. وهذا ما يفسر مواقف عديدة كانت موسكو قد اتخذتها من قبل، أهمها:
- المسارعة إلى إعلان نهاية العمليات العسكرية الكبرى سنة 2018، وسحب معظم القوات المنتشرة في سوريا باستثناء تلك المرابطة في قاعدة حميميم الجوية، وفي قاعدة طرطوس البحرية، وذلك بعد توسيع الرقعة الجغرافية الخاضعة للنظام، واستعادة الاستقرار الأمني والاقتصادي في المناطق الموجودة تحت سلطته.
- التأكيد على ضرورة إنجاز مصالحة سياسية سورية شاملة على أساس قرار مجلس الأمن 2254، والإشراف على مجموعة عمليات مصالحة محلية في مناطق متعددة من البلاد، معتبرة إياها مقدمة للمصالحة الشاملة، التي تعتقد أن منصة سوتشي للحوار الوطني السوري هي المؤهلة أكثر للوصول إليها، رغم مقاطعة فصائل المعارضة لهذه المنصة.
- القيام بمساعٍ دبلوماسية كبيرة دعما للحكومة السورية في استعادة بعض من علاقاتها الدبلوماسية العادية على الصعيد الدولي، وخاصة في النطاق الإقليمي العربي.
ينبع هذا السعي الروسي من قناعة بأن الانتصار في الحرب وتثبيت حكم الرئيس بشار الأسد لا يعني شيئا مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، واستمرار مأساة المهجرين السوريين خارج البلاد، وكذا المقاطعة الدولية للنظام الحاكم في دمشق، التي يستحيل معها إيجاد شركاء وممولين محتملين لإعادة الإعمار في سوريا؛ وهو إعمار لا قدرة لموسكو على تحمل تكاليفه الباهظة، ولا موارد محلية كافية لإنجازه.
واللافت للانتباه هو تزامن المسعى الروسي مع توجه مماثل تبلور لدى دول عربية، مفاده أن الانفتاح مجددا على النظام السوري بات ضروريا لتشجيعه على المضي في مصالحة وطنية شاملة، ولتسهيل عودته إلى مكانه في جامعة الدول العربية. وقد أقدمت تلك الدول إما على إعادة فتح سفاراتها في دمشق أو إرسال وفود رفيعة المستوى إليها، ناهيك عن استئناف الرحلات الجوية، وبعض العلاقات التجارية معها.
ولكن سرعان ما اعترى الفتور هذه الخطوات الدبلوماسية، فتور تجسد في عدم مواكبتها بخطوات مماثلة اقتصاديا واستثماريا، وهو ما عزته موسكو إلى عراقيل متعددة كبحت الانفتاح العربي المأمول على دمشق، أبرزها:
* العقوبات الدولية، وخاصة الأميركية الممثلة في قانون قيصر، والتخوف من أي انعكاسات سلبية محتملة على الدول المنفتحة إذا تمادت في تحدي الإرادة الدولية.
* وجود تحفظات داخل النظام الإقليمي العربي على عودة سوريا للجامعة العربية، والخشية من تحميل دول الانفتاح مسؤولية تعميق الانقسام العربي إذا واصلت مسعاها.
وحسب الأوساط الدبلوماسية المذكورة، فإن موسكو لا يخامرها الشك في وقوف واشنطن خلف هذه العراقيل بغية توريط روسيا لأطول مدة ممكنة في المستنقع السوري، وتحميلها جانبا كبيرا من المأساة الإنسانية هناك؛ وأن تجاوز تلك العراقيل أو تخفيف حدتها يتطلب طرق باب تل أبيب، إدراكا منها بأن الانفتاح على إسرائيل هو بوصلة علاقات واشنطن مع الأنظمة العربية، فالإدارات الأميركية كيفما كان لونها مستعدة من أجل إسرائيل للتعامل مع أي نظام عربي، ولغض الطرف عن ممارساته غير آبهة إن كانت تلك الممارسات استبدادية أم لا.
والاعتقاد السائد هو رغبة روسيا في طرق باب إسرائيل من خلال السعي لإحياء وديعة رابين كأرضية لتواصل سوري إسرائيلي برعايتها، آخذة بعين الاعتبار أن إحياء الوديعة في صيغتها الأصلية، الممكن تلخيصها في استعداد إسرائيل للانسحاب من الأراضي السورية المحتلة إلى الحدود الدولية مقابل الحصول على علاقات دبلوماسية كاملة وضمانات أمنية صارمة، ليس أمرا هينا على الإطلاق في ظل المعطيات الراهنة المتسمة بـ:
* تحول سوريا بسبب تداعيات الحرب الأهلية من لاعب إقليمي وازن يقوده نظام متماسك، وماسك بزمام الأمور داخليا وبأوراق سياسية إقليمية تتيح له المساومة إلى ساحة لعب تتصارع فيها وعليها قوى دولية وإقليمية، تقاسمت فيما بينها أرجاء واسعة من البلاد إما مباشرة أو عبر وكلاء محليين لدرجة لم يعد لدى السوريين، نظاما ومعارضة، أي رأي حاسم في مستقبل بلادهم.
* صعود أجيال سياسية إسرائيلية جديدة إلى السلطة فتحت عينيها على دولة غدت واقعا مألوفا وفاعلا مؤثرا في المنطقة لا يحتاج إلى دفع مقابل للحصول على اعتراف الآخرين. فهذه الأجيال تعاصر الآن موجة انفتاح عربي طوعي على إسرائيل، ولم تعايش ظروف نشأة الدولة، لتدرك أهمية انتزاع اعتراف بلد عربي مجاور. ولهذا تعتقد أن وضع الدولة العبرية ومستقبلها في الأمد المنظور آمن ولا يتطلب أي مغامرة لتغييره.
كيف يمكن لروسيا التحرك وسط هذه المعطيات؟
ترى الأوساط الدبلوماسية الأوروبية المذكورة أن موسكو تراهن على شخص الرئيس بشار الأسد لتهيئة أجواء محلية، ولتقليص حجم ضغوط حلفائه الإيرانيين وميليشياتهم من أجل اتخاذ بادرة حسن نية ولو صغيرة نحو إسرائيل، وأن الكرملين يمارس لهذا الغرض أسلوبا يمزج بين الضغط المتمثل في عدم الاعتراض سياسيا وعسكريا على توجيه إسرائيل لضربات جوية لمواقع عسكرية للنظام وحلفائه، وبين الإغراء ممثلا في تعداد الفوائد التي يمكن للرئيس أن يجنيها لبلاده ولعائلته من أي تقارب سلمي مع إسرائيل.
فهل ستقبل إسرائيل العودة إلى صيغة ولو منقحة من وديعة رابين، وبأي قرابين؟