ليس أقدم وأغنى من تاريخ الموصل، وعلى وجه الخصوص مكتباتها، فقيل إن مكتبة آشوربانيبال تُعد مِن أقدم المكتبات الملكية في التاريخ، إلى جانب أن الموصل كانت عاصمة لإمبراطورية كبرى، وهي الإمبراطورية الآشورية، ولنا أن نحسب قيمة الآثار تحت تراب هذه المدينة، ومنها ما اكتُشف في القرن التاسع عشر، وتزينت به المتاحف العالمية الشهيرة في لندن وباريس وبرلين.
في دراسة قيمة، يؤرخ الباحث فؤاد يوسف قزانجي لمكتبات العِراق القديم بالآتي: مكتبة أوروك، أو أراك، وهي المعروفة بالوركاء اليوم، جنوب العراق، وهناك مَن اعتقد أن أصل تسمية العِراق منحوت منها، لا كما يعتقد أو يصر البعض على أن الاسم «فارسي». ومكتبة لكش، ومكتبة نيبور (نفَّر)، وقد وجد فيها أكثر من ثلاثين ألف رقيم طيني، يوم كانت الكتب تنقش على الطين لا الورق. ومكتبة سبار بجنوب بغداد، ومكتبة كيش بجنوب مدينة بابل، ومكتبة شادوبم بشرق بغداد، ومكتبة أدب في تل بسماية بغرب مدينة الحي التابعة لمحافظة واسط اليوم، ومكتبة نوزي الأكدية قريباً من مدينة كركوك، ومكتبة آشور قرب مدينة الشَّرقاط قريباً مِن مدينة الموصل، وهي المكتبة الملكية، التي عُثر عليها في القصر الملكي: «خزانة عظيمة تُقدر بعدة آلاف مِن الرُّقم الطِّينية، أبرز موضوعاتها التاريخ والقانون والدِّين والطِّب والسِّحر والتنجيم» (قزانجي، المكتبات في العِراق).
وكل هذه المكتبات تأسست قبل الميلاد بثلاثة آلاف أو ألفين أو ألف سنة، ولنا تخيل الفاجعة.
يقول الملك آشوربانيبال محذراً من العبث بمكتبته: «لقد دونتُ على هذه الألواح ما شئتُ قراءته وتعلمه، ووضعتها في قصري، كلُّ مَن يأخذها من مكانها، أو يزيل ما عليها مِن كتابة، أو يضع اسمه محل اسمي، عسى أن تلعنه الآلهة، وتستأصل ذريته مِن على وجه الأرض» (قزانجي، عن قصة الآثار الآشورية).
مِن المؤكد، شمل هذا التحذير جماعة «داعش»، فالأرض التي احتضنت مكتبة حَوت نحو مائة ألف رقيم طيني، وبشتى المجالات، قبل اختراع الورق واستعماله بعشرات القرون، ليأخذنا العجب مِن خروج جماعة عليها تستخدم الفؤوس في تدمير مكتباتها، ولكُم قياس درجة التوحش!
مرت الأزمنة على الموصل، فخربت مكتبات وطُمرت حضارات، لكن مهما كانت الهزات عنيفة، تبقى الأرض تحتفظ بالبذور، فما إن يدخل غازٍ مِن الغزاة وبمجرد أن يخرج إلا ويبدأ أهلها بجمع الكتب وإعادتها إلى رفوفها، وما مرَّ على الموصل عبر تاريخها لا يقل عمَّا مرَّ على بغداد مِن كوارث.
يعود ما دمرته «داعش» إلى جهود بذلها الشباب المثقف (1918)، عندما أسسوا «النادي العلمي»، في بيت من بيوت أحد الميسورين، نظموا فيه مكتبة جمعوا لها من الكتب والمخطوطات، ولما أغلقته السلطات البريطانية بعد احتلال الموصل، نقلوا الكتب إلى المدرسة الإسلامية، وجعلوها في زاوية من زوايا الجامع.
كذلك من أهم المكتبات الخاصة بالموصل، مكتبة المحقق والأديب داود الجلبي (ت 1961)، وكانت تتضمن المخطوطات العلمية والفنية والأدبية، ومكتبات غيره من الأدباء والكُتاب مِن أبناء الموصل (عماد عبد السلام رؤوف، المكتبات، ضمن موسوعة: حضارة العِراق).
ومِن ثمار مكتبة الجلبي المذكور تحقيقه ونشره كتاباً نادراً تحت عنوان «الطبيخ» (الموصل 1934) للبغدادي، الذي صنفه في القرن السَّابع الهجري، ويعد دليلاً للمطعم العباسي.
عند الغزوات والاجتياحات، يأتي بعد ضرر البشر ضرر الكتب والثَّقافة، فجماعة مثل «داعش»، وأي قوى مسلحة معتدية وذات ثقافة متدنية إلى حد التوحش، يكون الكتاب هدفها، على أنها كتب كفر وفسق. وقد وصل توحش «داعش» ذروته بتدمير مكتبات الموصل، تلك التي بذل فيها داود الجلبي وكوركيس عواد (ت 1992)، وشقيقه ميخائيل عواد (ت 1995) وغيرهم مِن أعلام الموصل الجهد الجهيد، كي تعود أرض آشور إلى مجدها بوجود أول مكتبة بهذا الحجم، وبهذا التنظيم، عرفها التاريخ، والتي شملت «عصارة الحضارة البابلية والآشورية».
لا نعرف كم تحتاج الموصل كي تخرج مِن تحت الرماد، ولا نقصد هنا الزَّمن، إنما القدرة على تجاوز تلك المحنة، فأهلها بين مأسور لدى «داعش» وموزع على مخيمات اللجوء في العراء، ناهيك عن التشويه الذي أصاب النُّفوس والعقول.
نعم بدأت التبرعات لاحتواء خراب المكتبات، مِن قبل مؤسسات وشخصيات كثيرة، لكن مَن يضمن ألا تلد «داعش» دواعش، في ظل الوضع العراقي السيئ للغاية. فلا يكفي النَّصر العسكري مِن دون الانتصار على الروح الطَّائفية، وروح الانتقام، التي أعانت «داعش» على اجتياح الموصل، والسرعة بعودة المشردين إلى ديارهم، مع فتح صفحة جديدة.
مَن يقرأ تاريخ العراق، والموصل إحدى حواضره، لا يصدق أن يبلغ الارتداد الحضاري حرق الكتب وتدمير الآثار، حتى أن ذوي النَّوايا الطَّيبة، ذهبوا إلى القول بأن ما بُث مِن شاشات الفضائيات تدمير لنسخ لتلك الآثار، على أن الحقيقي منها بيع لمتاحف العالم، فتدمير جهود آلاف السنين، وبلحظة عماء، يكاد لا يصدق.
دع عنك «داعش»، ألا نرى ما فعله الرعاع بخزائن المتحف العراقي، والأكثر همجية منهم مَن فتح بوابات المُتحف، ولم يحرسه حراسته لمواقع أخرى، فكيف إذا كانت أفكار «داعش» الظَّلامية وفؤوسها، فهل ستترك مكتبة أو مُتحفاً؟!
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.