دمشق: سوريا قبل 2010
عائلة سورية تشبه كل العائلات، مع اختلافات بسيطة بمكان المنزل وأثاثه، الجميع في غرفة الجلوس يتحلقون حول صوت أزيز المدفأة، فيما لا يكترث أفراد العائلة بكمية المازوت المنهمر الذي يقتل الصقيع في كل زاوية من البيت، وعدم الاكتراث ذلك توازى مع الراحة التي كان يعيشها السوري قبل الحرب من ناحية الاستعداد للشتاء، وهذا ما لم يعد اعتياديا أثناء وبعد الحرب.
سوريا منذ 2018 حتى شتاء 2022
عائلة سورية تشبه الكثير من العائلات ولا تشبه قلة من العائلات التي نجت من الحرب مع جيوب عامرة، الاختلافات لا تزال على حالها، وجميع أبناء الأسرة ملتحفين بالشراشف والبطانيات والكثير من الملابس بعيدا مع أصوات تصدح من «تكتكة» أسنان بفعل البرد، قد يكون المشهد سرياليا لمن يسمع به، لكن الواقع أن ما كان في الماضي لا يكترث به لكثرته بات اليوم حلما كسائر الوقود المفقود في سوريا، سبيلا للعيش ومحور التركيز مع الغياب.
ما قبل الحرب كان يحق لأي شخص الحصول على ما يريده من الوقود، يتصل بعامل التعبئة فيأتيه بسيارة تعبئ المقدار الذي يريده المتصل «المواطن» وفي أعوام الحرب حتى 2018 بلغت مخصصات العائلة الواحدة من مادة مازوت التدفئة لفصل الشتاء 200 لتر.
لكن مع 2022 بات يحق للعائلة 200 لتر أيضا ولكن على 4 دفعات وفي كل دفعة 50 لتراً، وعلى الرغم من حالة التقنين المتبعة إلا أن الناس لم تحصل إلا على 50 لترا وبعيدا عن شكواهم المتواصلة خلال البرد للحصول على حقهم من المادة المدعومة، والتي اعترفت فيها وزارة النفط نفسها بعدم تسليم الدفعة الأولى لبعض المواطنين، بسبب الضغط.
الافتقاد لوسيلة التدفئة والمصدر الرسمي يرد
«لم يعد لدينا إلا أن نحتطب»، يقول فادي الحموي، الذي نقل لـ«المجلة» المعاناة المتواصلة للحصول على مادة التدفئة الأساسية في سوريا، مؤكدا أن ما يحصل خلال هذه الأيام غير منطقي بسبب البرد القارس إضافة إلى أن القرار غير مدروس ولا يخضع لرقابة حكومية.
يتابع الحموي: اشتد الخناق جدا من جميع النواحي، المازوت غير موجود والبنزين والغاز أيضاً، ومع محاولتنا الاعتماد على الكهرباء أصبحت تقطع لفترات طويلة، ماذا نفعل؟ هل نذهب لنحتطب من أجل أن ندفئ أطفالنا؟ الجو بارد جدا والمدافئ لا تعمل إلا لفترات محددة أما عن الحمام فبات سريعا ولا يسمح لشخص بأن يطيل، لأن مخصصات المازوت لا تكفي.
فيما تبين شقيقة فادي السيدة فاتنة الحموي، أن المازوت موجود ويمكن لأي شخص الحصول عليه لكن بالسعر الحر، وهذا ما يدفع الجميع للتساؤل إن كان المازوت موجودا لماذا لا توزع المخصصات بالتساوي ويريح المسؤولون أنفسهم من ضجر الناس اللاهثة خلف الدفء.
وتشير رغم محاولتها حبس دموعها وانفلاتهم، إلى أن الحالة لم تعد تطاق، فالوضع المادي لا يتناسب لشراء المازوت الحر، هل ندفئ أجسادنا كي نموت جوعاً، الجميع يعلم أن الوقود موجود «لكن لناس وناس، ماذا نفعل نريد خلاصا من هذا الزمهرير» على حد وصفها.
سامر (اسم مستعار) بائع مازوت حر، يؤمن المازوت بسعر السوق السوداء للراغبين في ذلك، يحدد مصادر المازوت الحر في سوريا:
- هناك من يورد لنا المازوت إلى السوق السوداء وبسعر 1700 ليرة، ويتم بيعه بـ3000. وأحيانا إذا كان من لبنان يُباع بأكثر من ذلك.
- هناك العديد من سائقي الباصات يبيعون مخصصاتهم فهذا أوفر لهم بأضعاف، يحصلون على اللتر الواحد بـ500 ليرة ونأخذه بثلاثة أضعاف، ليصل إلى المواطن بضعف السعر الذي حددته الدولة.
ويقول سامر: المازوت متوفر في البلد، ولا أدري لماذا يُباع للسوق السوداء ولا يتم توزيعه على المواطنين، هذا تساؤل لا إجابة عليه..
في الحادي والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) أعلنت وزارة النفط والثروة المعدنية أنه سيتم توزيع الدفعة الثانية من مازوت التدفئة، وتتمثل بـ50 لترا لكل عائلة، مشيرة إلى أنه بإمكان الذين لم يحصلوا على الدفعة الأولى أن يقوموا بالتسجيل على الدفعتين معا أي 100 لتر.
وأشار بيان الوزارة حينها أن المازوت الحر موجود وبسعر 1700 ليرة سورية للتر الواحد، ويمكن لأي عائلة الحصول عليه.
ترد السيدة فاتنة على التصريح، بأن تصريح الوزارة معيب، إن كان بـ1700 فلماذا نشتريه بأضعاف؟ ولماذا لا يقال لنا إن الحكومة تحصل عليه بسعر عالٍ، لكنها تخجل من الإفصاح لأنها لا تستطيع تأمينه فتسعى لمثل هذه الحيل، لكن بكل الأحوال نحن نعلم، فهم لا يخفون شيئا.
التقت «المجلة» مع أحد الأشخاص الذي يستطيع شراء المازوت في الوقت الذي يريده وفضل عدم كشف اسمه، يقول: «الحالة معروفة لدى الجميع، لقد مررنا بأزمة طاحنة ووضعنا الآن لا يمكن وصفه، استطعت تأمين الوقود بمختلف أنواعه، بسبب عملي، أنا أضحي بأمور لأستطيع تأمينه من أجل أطفالي، فلا ذنب لهم ولا لغيرهم في كل ما يحصل».
ويتابع: «لدي العديد من الاستفسارات حول ما يحدث وما قد يحدث لكن ما من أحد يرد، الحمد لله لدينا قدرة على تأمين أنفسنا لكن ماذا عن الآخرين ممن لا يستطيعون وأغلبهم من الموظفين الحكوميين أصحاب الدخل المحدود، وهنالك من يعمل في مكانين ليعيل أسرته، لا حول ولا قوة إلا بالله».
الكثير من المواطنين السوريين ممن التقتهم «المجلة» كان لهم رأي واضح حول ما يجري وكلام مكرر عن آليات التوزيع غير المدروسة وعدم قدرة المعنيين على تنظيم قطاع الوقود بشكل أساسي في ظل غياب للخطط الواضحة، مع حجة دائمة للابتعاد عن دائرة الاتهام: «العقوبات على سوريا هي السبب، هنالك احتلال في الشمال يسرق الثروات وهنالك ضغوط كبيرة على الحكومة عموما والشعب خصوصاً، إن هدف المتآمرين هو النيل من عزيمة المواطنين الصامدين.
وغالبا ما يكون رد الناس بعد التصريحات المتكررة التي حفظوها عن ظهر قلب: أين التخطيط خلال السنوات الماضية؟ والأهم من ذلك: لماذا الوقود متوفر لكن لمن يدفع فقط؟
حصة المازوت غائبة حتى عن وسائل النقل
أبو محمد الخال، كما يحب أن يلقب، يعمل سائقا لميكروباص، ويقطن منطقة وادي بردى التي استعادت الحكومة السيطرة عليها بداية 2018، يعمل على أحد الخطوط في ريف دمشق بعد عودة الاستقرار.
يقول لـ«المجلة»: «منذ 10 أيام لم نحصل على لتر مازوت واحد من الدولة، في 21 من شهر يناير الماضي، ذهبنا إلى محطة الوقود كالمعتاد للحصول على مخصصاتنا من المازوت والتي تبلغ 30 لترا نأخذ منها 24 لترا فقط مع العلم أننا ندفع ثمن الـ30 لترا، حينها قال لنا المسؤول عن التعبئة في (الكازية) لا يوجد مازوت اليوم عودوا غداً».
ويتابع: «عندما عدنا في اليوم التالي قال أيضا لا يوجد ويفضل أن لا نعود حتى يوم الخميس 27 يناير، وعندما عدنا في اليوم المذكور قالوا تعالوا يوم الأحد، مع بداية دوام المؤسسات وعودة الحياة، وكأنه لا يوجد موظفو قطاع خاص ولا عائلات تريد أن تأكل، وعندما سألنا عن السبب قالوا إنهم يريدون تعبئة مخصصات مازوت التدفئة للمواطنين في ظل المنخفضات التي اجتاحت دمشق».
ويشير إلى أن كلام المعنيين آنف الذكر غير دقيق لأني لم أسمع عن أي شخص حصل على مخصصاته، وحتى مع بداية هذا الأسبوع لم نحصل نحن أيضا على مخصصاتنا للعمل، والجميع يتهم السائق بأنه يبيع المخصصات، ولا توجد مخصصات أصلا لبيعها.
وعن حصول المواطنين على مادة المازوت خلال عطلة الـ10 أيام التي خرجت بها الدولة لهم من أجل تدفئتهم وتزويدهم بالكهرباء، يقول الخال: «لم نحصل على مخصصات جديدة من المازوت، كل ما تم توزيعه هو 50 لترا منذ ثلاثة أشهر، وهؤلاء الـ50 لم يُكملوا الشهر الواحد من الاستخدام ومع التقنين، فالكهرباء معدومة 5 ساعات قطع مقابل 45 دقيقة وصل، والمازوت الحر قالت الدولة إن اللتر الواحد متوفر بـ1700 ليرة، وهذا غير صحيح، فاللتر الواحد وصل إلى 3500 ليرة يعني الـ100 لتر 350 ألف ليرة سورية، مما دفعني خلال موجة البرد في الأسبوع الماضي لشراء اسطوانة غاز طبعا وبشكل حر، بلغ سعرها 110 آلاف ليرة سورية، وهي لا تكفي للتدفئة سوى 5 أيام فقط».
ويضيف: «يقولون إنهم سيرفعون الدعم عن كل شخص لا يستحقه، وهم لا يعرفون أن غلاء الأسعار وانعدام وسائل التدفئة رفع الدعم من غير رفع، فلا حصلنا على المازوت للتدفئة ولم نذهب لعملنا بسبب إلغاء الباصات خلال منخفضات الشتاء».
ماذا عن الوقود الحيوي؟
«ضعف دفء الحطب وبربع التكلفة»، ذلك كان شعار الوقود الحيوي الذي بات يُروج له في سوريا عبر منصات التواصل الاجتماعي، ويتكون من قشور الزيتون والذرة وجوز الهند، أي وقود مشتق من الكتلة الحيوانية أو المواد النباتية ويمكن تجدد هذه المواد فاعتبر مصدرا للطاقة المتجددة ويتراوح سعر الكيلو منه في سوريا بين 750 والـ1500.
تقول نايا مصطفى، وهي من المروجين لهذا النوع من الوقود عبر «فيسبوك»: «أصبح الحصول على المازوت من المستحيلات سواء كان من الدولة أو بشكل حر، والكهرباء أيضا توفرها مستحيل، وأنا من الأشخاص الذين يريدون البديل للمازوت المعدوم والحطب المتواري، والغاز المستورد».
تعتقد نايا أن الوقود الحيوي جيد بالنسبة للأوضاع التي نمر بها، وغير مكلف، مقارنة مع المازوت، فالمواطن بحاجة إلى 10 لترات للتدفئة في اليوم الواحد أي 35 ألفا، والوقود الحيوي بحاجة إلى 10 كيلوغرامات أي 10 آلاف تقريباً، وهناك إقبال كبير عليه، باستثناء الذين ما زالوا متأملين في توفر المازوت، أو المعتادين، ولم يعتادوا بعد على هذا النوع من المحروقات للتدفئة، وأنا أتوقع أنها مسألة وقت ويصبح الأكثر استخداما في سوريا.
من جهتها، ذكرت أم محمد أنه بعد فقدان الصبر للحصول على المازوت مع انعدام الكهرباء بات من المستحيل العيش بلا تدفئة لذلك قمنا بشراء 10 كيلوغرامات من الوقود الحيوي، يساعدنا على قضاء حوائجنا حتى وإن كان به بعض المضار، إلا أن الضرر لا يقع علينا كأفراد، وعلى من افتعل مشكلة التدفئة واضطرنا لبدائل الوقود أن يجد حلاً، يساعد فيه الناس.
وعما إذا كان سيتم منع الوقود الحيوي أم لا، يبين أحد الأشخاص من مصدر مطلع أنه لا يمكن إصدار قرار متعلق بذلك الأمر لأن الناس ليس لديها وسائل أخرى، فكل شيء غالي الثمن أو صعب تحصيله في ظل البرد القارس، لذلك سيتم غض البصر عن هذا الموضوع وربما سيتم اعتماده قريبا كبديل محتمل لسد الثغرة.
العواقب الاقتصادية..
«إذا لم تستحِ فافعل ما شئت.. هذا مختصر الحديث»، عبارة قالها دكتور عمار يوسف، الباحث والمهتم بالشأن الاقتصادي، عن أن الحاصل هو زيادة الضغط على المواطن، أما رأيي الشخصي فمادة المازوت متوفرة، لكنها عملية تقنينية غير مفهومة، فعندما يتم اللعب بحوامل الطاقة يصبح كل شيء خاضعا للفوضى».
ويتابع: «ما حدث من سحب لمادة المازوت ولأي مادة أخرى ما هو إلا عملية طحن وسحق لما تبقى من الطبقة المتوسطة، وسحب البيئة الحاضنة من الدولة للدولة بحيث يصبح الجميع لا مباليا، لقد وصلنا للفقر المدقع ومرحلة الجوع وبإمكاننا القول إنه لم يعد هناك طبقة وسطى ونعلن وفاتها».
لقطات مختلفة ومن نواحٍ عدة لا يمكن تلخيص الواقع السوري كيف عاش فترات البرد وإلى أين وصل، ربما القدر الذي جمع العائلة دافئة قبل 2011 هو ذاته الذي أوصلها وغيرها من السوريين لمكان آخر من الصقيع والبرد، وما على السوريين إلا الانتظار لخطة واضحة يستعيدون فيها قدرهم إلى ما قبل 2011.