بيروت: لا شك أن المفاوضات التي انطلقت بين الحكومة وصندوق النقد الدولي في شأن برنامج التعافي الاقتصادي. هي مفاوضات دونها الكثير من التحديات في بلد يعاني من الانهيار المالي والاقتصادي والمصرفي، ناهيك عن التخبط السياسي الحاصل والذي سيشتد أكثر قبل موعد الانتخابات النيابية إذا لم يتم تطييرها.
واللبناني لم يعد يملك الطاقة للتحمل، وطرح مشروع الموازنة يكاد لا يعنيه بالشكل المباشر سوى بما يتعلق بالمردود الإيجابي على مستوى التعافي الآني، ربطا بسعر صرف الدولار، وضرورة توحيد أسعار الصرف المتعددة، وهي إحدى توصيات سياسات صندوق النقد الدولي، من أجل توحيد سعر صرف الدولار وتخفيف ضرر السوق الموازية، لفرض حالة من الاستقرار على مستوى الليرة اللبنانية، بعدما أنهك اللبنانيون بتفاصيل حياة أصبحت مرهونة بـ«الأسواق السوداء».
اليوم الحديث عن ارتفاع السعر الرسمي لصرف الدولار أو تحريره، والسؤال ما هي التداعيات الاجتماعية والمعيشية على اللبنانيين، في حال لم يقترن بتحفيزات ضرورية للاقتصاد وإعادة هيكلة لقروض المواطنين بالدولار على الليرة، ومعرفة مصير العقود والإيجارات السكنية والتجارية. فأي صورة سوداء يُمكن أن تُرسم للمرحلة المستقبلية إذا ما تمّ الإقدام على تحرير سعر الصرف من دون أي إجراءات استباقية أو لاحقة؟
كان مطلب تحرير سعر الليرة أمام الدولار من قبل بعض المسؤولين والاقتصاديين، خلال تمتع لبنان بمؤشرات اقتصادية قوية. لكن في ظل انحدار المؤشرات المالية، ودخول لبنان في دوامة قاسية من ارتفاع الدين العام وعجز ميزان المدفوعات خصوصاً، لا بد من التحذير من تحرير سعر الصرف، إذ سيؤسس لانهيار اقتصادي واجتماعي شامل، في ظل عدم تمكن أصحاب العمل من زيادة الرواتب باعتبار أن تكلفة الإنتاج ستتضاعف، ومن دون قيام الدولة بإجراءات احترازية بعد أن رفع الدعم عن السلع الأساسية والتي تشمل المحروقات، والدواء.
ومع أنّ لغة السوق تتحدّث بمنطقٍ يقوم على سيناريو مختلف، إذ برأي الخبراء فإنّ إقرار الموازنة والتوصل إلى أي نتائج ممكنة مع صندوق النقد الدولي، قد يخفّف الضغط على العملة الصعبة في السوق الموازية، و«بالتالي فإنّ عمليات العرض والطلب ستنقص، ما يعني حكما انخفاض الطلب على الدولار مبيعا وشراء بطبيعة الحال، أي انخفاض سعر صرف الدولار في السوق الموازية، ومن يعلم قد تتلاشى هذه السوق شيئا فشيئا».
ولكن هل تنتهي مشاكل الناس والتجار والمقاولين والمستأجرين وكيف ستكون الصورة بين الدائن والمدين وكيف ستعالج مشاكل القروض وعقود المقاولين والمهندسين وعقود الإيجارات القديمة والجديدة هذه المشاكل طرحتها «المجلة» على أهل الاختصاص وخرجت بالردود التالية.
البعاصيري: إشكاليات بين المصارف وزبائنها
النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد البعاصيري أشار في حديثه لـ«المجلة» إلى أنه لا بد أولا من مقاربة الواقع المالي بعد الانهيار الكبير الذي أصاب العملة اللبنانية، عن طريق الانتهاء من التعامل على أساس وحدة القياس من 1500 للدولار بعد أن خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المائة من قيمتها. بالطبع من الطبيعي أن نصل إلى سعر موحّد يقارب القيمة السوقية لليرة اللبنانية.
وقال: «لا ضير من الوصول إلى هذا المبتغى تدريجيا كما قرر بالنسبة للدولار الجمركي على أساس 10600 للدولار، أما انعكاس ذلك على المصرف فيتمثل في أرباح غير محققة ناتجة عن الفرق بين السعر الجديد للدولار مقابل الليرة والسعر الحالي من 1500.
وإذ أشار إلى أنه لن يكون هناك من تأثير على موجودات ومطلوبات المصرف بالعملة اللبنانية، لكن يمكن للمدين بالدولار أن يتأثر سلبا إذا جرى اتفاق بين المصرف والمدين بأن يسدّد المدين مديونيته بالليرة، إذ سيتم ذلك بالاستناد إلى السعر الجديد في حال اعتماده بدل تسديده على أساس سعر 1500، والخشية على المصرف تكمن في تكبد خسائر تنتج عن الفرق بين السعر الجديد والـ1500 في حال كان المصرف يحمل مركز قطع أجنبي سلبي.
وختم البعاصيري بالقول: «مما لا شك فيه أن اعتماد السعر الجديد سيخلق إشكاليات قانونية كبيرة بين المصرف وزبائنه خصوصا فيما ينطبق على العقود القائمة قبل السعر الجديد».
الحلو: استقرار سعر الصرف ضرورة ملحّة لقطاع المقاولات
وعن التأثيرات السلبية على العقود، اعتبر رئيس نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء المهندس مارون الحلو أنّ «تثبيت سعر الصرف في المرحلة الماضية كان مفيدا جدا لقطاع المقاولات، حيث كان بإمكان المقاول درس أسعار ملف أي مناقصة بدقة متناهية؛ أما اليوم وفي حال حصل تحرير لسعر الصرف يجب تضمين كل العقود مراجعة لسعر الصرف، لأنه لا يمكن لأي مقاول اعتماد سعر صرف متحرك كون ذلك يوصله إلى نتيجة غير مستقرة».
ولفت الحلو إلى أنّ ثبات سعر الصرف في قطاع المقاولات مهما كان سعره، ضروري كي ينفذ المقاول مشروعه، ويتمكن من شراء المواد اللازمة ودفع كلفة اليد العاملة من مهندسين وعمال بالإضافة إلى أعبائه المصرفية والإدارية، أما في حال تحرير سعر الصرف فيجب توفير معادلة يُعاد فيها النظر في الأسعار تبعا لكل كشف يقدمه المقاول، وهذا ليس بالأمر السهل لتطبيقه، لأنه لا يريح المستثمر ولا رب العمل ولا المقاول وسيؤثر سلبا على قطاع المقاولات والمشاريع التي قد تُطرح للتلزيم انطلاقا من تأثيرها على كل ما سبق ذكره..
إلى ذلك، أضاف الحلو أن هناك المشاريع التي لم يتمّ تسديد مستحقاتها منذ سنوات، ويجب أن تواكب قيمتها المالية سعر صرف الدولار عند تحريره ودفعها مباشرة، لأن المقاول لم يعد يستطيع تحمل تسديد الدولة لمستحقاته بخسائر إضافية بعدما نفذ أشغاله بسعر مرتفع وتم الدفع له على سعر الصرف الرسمي الحالي 1500 ليرة للدولار ويكون بذلك قد خسر 90 في المائة من مستحقاته، وتكبد جراء ذلك خسائر فادحة.
أما اليوم مع مناقشة الموازنة الجديدة فنطلب إعادة دفع هذه المستحقات بحسب السعر الذي ستعتمده الدولة، وبذلك نكون قد خففنا بعض الضرر عن المقاول الذي تحمّل الكثير خلال الفترة الأخيرة.
وأشار الحلو إلى أن استقرار سعر صرف الدولار بات ضرورة ملحة اليوم ليس فقط لقطاع المقاولات بل لجميع القطاعات الاقتصادية والإنتاجية في البلد كي يريح الناس ويعطي شعورا بالاستقرار؛ لهذا فأي تحرك سريع للدولار سيؤدي إلى اضطرابات صعبة في السوق الاقتصادية وحياة العمال والموظفين.
وختم حديثه بالقول في أي حال إذا حصل تحرير لسعر الصرف يجب تضمين العقود بندا قانونيا يلحظ تعديل الأسعار في كل كشف يتقدم به المقاول إلى الإدارة، كما من الضروري احتساب فوائد على المستحقات المتأخرة، علما بأنه لو لاحظت العقود في بنودها سابقا هذا الأمر لما حصلت كل هذه الخسائر، ولكان الضرر أقل وطأة، وسنسعى كي تتضمن العقود موضوع الفوائد ليتمكن المقاول من احتساب أسعاره بشكل دقيق.
صفير: القروض قد تخلق مشكلة اجتماعية كبيرة
وعن التأثيرات القانونية على الدائن والمدين يقول أستاذ القانون المصرفي الدولي المحامي أنطوان صفير إنّ «تأثير تحرير سعر الصرف سيكون كبيرا وكارثيا على الأشخاص الذين سيدفعون أي على المدينين وبالتالي يجب أن يكون هناك آلية لضبط هذا الموضوع بشكل يحفظ التوازن الاقتصادي والنقدي بين الدائن والمدين، بما يضمن أن تكون هنالك حقوق محفوظة، وفي الوقت عينه هنالك أخذ بعين الاعتبار الواقع الذي وصل إليه سعر الصرف بين 1500، وأي سعر سيعتمد وبالتالي إذا لم يكن هناك ضوابط فعلية لتحديد الأسعار التي على أساسها ستدفع الديون والقروض هنالك مشكلة اجتماعية كبيرة يمكن أن تحصل.
ويتابع صفير: «حتى الآن القروض والديون تدفع من حيث المبدأ على أساس سعر الصرف الذي كان معتمدا أي 1515 ليرة لبنانية مقابل الدولار. اليوم مع تأجيل القروض وتأجيل دفع الديون بموجب القوانين التي صدرت وعلقت المهل بهذا الاتجاه. أعتقد أن هنالك مشكلة ستحصل على صعيد كيف سيسدد المدين قروضه أو دينه على سعر الصرف الذي سيعتمد؟ وبالتالي انتقلنا من سعر 1515 ليرة ربما إلى 10 آلاف ولا أحد يعرف ولا يمكننا أن نؤكد إلا إذا صدر قرار رسمي بهذا الاتجاه. وبالتالي فإن الأمور ستؤدي إلى كارثة اجتماعية باعتبار أن المدين لن يستطيع تسديد ديونه على هذا السعر، وبالتالي سيذهب إلى اتجاه آخر أي إنه سيمتنع عن تسديد ديونه وستنعكس الأمور على الدائنين أيضا لذلك يجب أن يكون هنالك ضوابط لجهة دفع الديون والأقساط أي أن يحددوا سعرا معينا لهذا الموضوع يخرج عن سياق سعر الصرف، لذلك هنالك مشكلة كبيرة ومخاطر اقتصادية ونقدية يمكن أن تؤدي إلى كارثة اجتماعية».
وختم صفير قائلا: «لذلك يجب أن تتحدد في سياق تحديد سعر الصرف الجديد الضوابط التي من خلالها يحفظ التوازن المجتمعي بين الدائن والمدين، بشكل يحفظ حقوق الدائنين ولا يشكل ثقلا إضافيا على المدين مما يدفعه لعدم الدفع، وبالتالي تصبح هناك مشكلة مضاعفة بين الدائن والمدين وطبعا القضاء هو الذي سيحسم في هذا الموضوع تبعا لما سيصدر من قرارات أو قوانين في هذا الاتجاه ضمن الخطة الإصلاحية».
زخور: مشكلة السكن من أصعب المشاكل
أما الشق الأخير من المشكلة وهو الشق الأصعب لأنّه يطال شريحة كبرى من الناس فقد اعتبر رئيس تجمع الحقوقيين للطعن وتعديل قانون الإيجارات المحامي أديب زخور، أن «وضع الشعب اللبناني في انهيار كامل معيشيا وماليا على جميع المستويات، فلم نرَ منذ إنشاء دولة لبنان الكبير أي رؤية أو خطة إسكانية جديّة لبناء مجمعات سكنية، سوى مشروع قانون الوزير الراحل ميشال المر عام 1980 في عهد الرئيس إلياس سركيس الذي وعد ببناء 20 ألف وحدة سكنية مقابل زيادة عامل الاستثمار على الأبنية المشيدة والذي أطلق عليه آنذاك «طابق المر»، فقد استفاد العديد من المالكين من هذا المشروع لكن لم يتم بناء الوحدات الموعود بها، لذا فإن تأثير رفع سعر الصرف الرسمي سيؤدي إلى هجرة سكان بيروت إلى الضواحي أو المناطق الجبلية، ومع غلاء المحروقات ستكلف المواطن ثروة للوصول إلى عمله، والمواطن عاجز عن تأمين الحد الأدنى من العيش أو شراء الأدوية والاستشفاء وأصبحت كافة السلع الأساسية خارج متناول وقدرة أي مواطن بعد أن تم رفع الدعم. عن كل المواد الحياتية والأساسية بعد صرف نحو 7 مليارات دولار بظرف سنتين للدعم ولم يستفد اللبناني منها بسبب الاحتكار والتهريب بشكل جدي، بعد المتاجرة بها وتهريب قسم منها، والآن تسعى الدولة للاتفاق مع صندوق النقد للحصول على نحو 3 مليارات دولار، دون تخصيص أي منها لحل مشكلة السكن».
وأضاف زخور أنّ «قانون الإيجارات الجديد والقديم مرتبط تاريخيا بالحد الأدنى للأجور ولا يمكن زيادة سعر الصرف من دون زيادة الحد الأدنى للأجور بذات النسب، فمن المفترض أن يكفي الأجر الموظف أو الأجير احتياجاته الثلاث الأساسية، ومنها تسديد نفقات المعيشة ونفقات الطبابة والاستشفاء ونفقات السكن، بحيث بات لزاما وليس خيارا زيادتها بذات نسب التضخم لتسديد النفقات الثالوثية، ومن ناحية أخرى ارتبطت الزيادات بتخمين العقارات في القانون 2-2017 وهي مبالغ فيها، وجاءت عقود الإيجارات الجديدة المنظمة لثلاث سنوات على نهايتها وبدأت مطالبة المستأجرين تباعا بدفع بدلات الإيجار أو بقسم منها بالدولار نقدا تحت طائلة عدم تجديد عقد الإيجار، بينما لا يزال الحد الأدنى للأجور كما هو عليه منذ سنوات طويلة أي 675.000 ل.ل وهو أدنى أجر في العالم في مقابل التضخم الذي طرأ وجعل من بيروت أغلى مدن العالم من حيث كلفة المعيشة بحسب المؤشرات العالمية، فمن هذا المنطلق يتوجب قبل البحث في رفع سعر الصرف الرسمي، زيادة الحد الأدنى للأجور بشكل متحرك أقله عشرون ضعفا ليتماشى مع التضخم والغلاء وتدني سعر العملة الوطنية، لأن أي رفع لسعر الصرف الرسمي، سيؤدي حكما إلى زيادات على بدلات الإيجار من خارج القانون ويؤدي إلى تهجير وكارثة جماعية لأكثر من مليون مواطن لبناني إضافة إلى الإيجارات الجديدة، مع أن المواطن عاجزعن دفع بدلات الإيجار القديمة فكيف الحال بالجديدة التي سترتفع بشكل خيالي تفوق مدخول الفرد أو الأسرة مجتمعة، لذا المطلوب تمديد الإيجارات الجديدة حكما بذات الشروط مع وضع حد أقصى للزيادات على بدلات الإيجار لحين انتهاء الأزمة التي يمر بها الوطن».
وأشار زخور إلى أن قانون الإيجارات 2-2017 أوجد صندوقا ليدفع عن المستأجرين أو ليعطيهم تعويضات، وأصبح ضروريا وعاجلا رفع سقف الاستفادة من الصندوق إلى 50 ضعفا للحد الأدنى للأجور وربطه بالمستأجر الرئيسي الواحد وليس بمدخول العائلة الجماعي، والأخذ بالتعديلات المقدمة إلى المجلس النيابي، أما بالنسبة للأماكن غير السكنية فسيكون ارتفاع بدلات الإيجار غير منطقي ومخالفا لقانون الإيجارات الجديد، الذي وضع سقفا للزيادات التي يجب أن لا تتخطّى 5 في المائة من التضخّم في الإيجارات القديمة. وبالنسبة للإيجارات الجديدة الخاضعة للقانون 159-92 والمنظمة بالدولار فهي أصلا مرتفعة، وإذا تمّ رفع سعر الصرف الرسمي ستكون الزيادات غير قانونية ومن خارج الاتفاق بين الطرفين وستتعدى قدرة المواطنين على الدفع، وستكون مبررا غير قانوني لرفع أسعار السلع والمواد التجارية مما سيؤدي إلى سلسلة كوارث اقتصادية واجتماعية وزيادة أعباء غير قانونية ومميتة تمس حياة المواطنين يمكن تفاديها ويتوجب وضع سقف لزيادة بدلات الإيجارات غير السكنية. علما أننا اقترحنا تمديد عقود الإيجارات الجديدة 3 سنوات بذات الشروط بخاصة للمستأجرين في هذه الأماكن غير السكنية الذين لم يستفيدوا من الأشغال رغم دفع بدلات الإيجار المرتفعة ولحقت بهم أضرار جسيمة.