القامشلي: تستمر السلطات الألمانية بمحاكمة طبيبٍ سوري على خلفية اتهامه بارتكاب جرائمٍ ضد الإنسانية خلال خدمته كطبيبٍ لنيل شهادة الاختصاص في عددٍ من المشافي العسكرية بسوريا بينها مستشفيات في العاصمة دمشق وحمص بين عامي 2011 و2012، أي بعد فترة وجيزة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في البلاد في منتصف شهر مارس (آذار) من العام 2011 والتي اعتقل فيها نظام الأسد عشرات الآلاف من المشاركين فيها من قبل الأجهزة الأمنية عقب مطالبتهم بإسقاط نظام الرئيس الحالي بشار الأسد.
ويبلغ الطبيب المتهم واسمه علاء موسى (36 عاما) من العمر، وهو يعيش في ألمانيا منذ العام 2015 ومارس مهنته كطبيب مرة أخرى على الأراضي الألمانية، إلا أن السلطات احتجزته يوم التاسع عشر من يونيو (حزيران) من العام 2020. ومنذ ذلك الحين يقبع خلف القضبان، وبدأت محكمة فرانكفورت بمقاضاته منذ أواخر شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2022 الجاري، في ثاني محاكمة علنية بعد مقاضاة ضابط سوري سابق.
وقد ألقي القبض على موسى، المعروف في وسائل الإعلام الألمانية بـ«علاء.م» إثر نشر قناة «الجزيرة» ومجلة «ديرشبيغل» الألمانية تقريرا عن جرائمه، حيث أدلى عدد من الشهود الذين ظهروا في التقرير بإفادات واضحة وصريحة ضد المتهم، وهذا ما دفع السلطات الألمانية لتوقيفه لاحقاً.
لائحة من الجرائم ضدّ الإنسانية
وقال ميشال شماس عضو مجلس إدارة «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية» وعضو «هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير» إن «محكمة فرانكفورت عقدت حتى الآن 4 جلسات في إطار محاكمة المتهم علاء.م، وكانت أولى الجلسات قد بدأت يوم التاسع عشر من يناير (كانون الثاني) الماضي، في حين كانت آخر جلسة يوم الثالث من فبراير (شباط) الجاري».
وأضاف لـ«المجلة» أن «المحكمة لم تتخذ بعد حكما نهائيا بشأن المتهم، لكنها قررت أن تكون محاكمته علنيا بمحكمة فرانكفورت وبحضور وسائل الإعلام ومنْ يرغب في ذلك، كما أن هذا القرار تضمن التهم التي وُجِهت لعلاء.م وستتم محاكمته على أساس الولاية القضائية العالمية المُدمجة بالقانون الألماني منذ العام 2002».
ويواجه علاء.م تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والمشاركة في 19 حالة تعذيب من بينها حالة تعذيب واحدة أدت إلى القتل، وفي حالة تعذيبٍ أخرى اُتهِم بإجراء عملية جراحية دون تخدير، علاوة على قيامه بمحاولة حرمان معتقلين معارضين لنظام الأسد من قدرتهم الإنجابية، فقد شملت لائحة الاتهامات الموجّهة إليه قيامه بغمر العضو الذكري لمراهق بالكحول ومن ثم إضرام النار به، إلى جانب حالات تعذيبٍ بوسائل أخرى.
وقال شمّاس في هذا الصدد إن «علاء.م يُحاكم كطبيب مدني وليس كعسكري، فقد كان طبيبا مدنيا يتدرّب في المشافي العسكرية لنيل شهادة الاختصاص في الطب وهو أمر مطلوب في سوريا، حيث يخضع الأطباء المتخرّجون حديثا للتدريب في مستشفياتٍ عسكرية أو مدنية بحسب الفرصة التي تتوفر لهم».
وأضاف: «حتى الآن تشير مجريات المحاكمة إلى أن هذا الطبيب المتهم بارتكاب جرائمٍ ضد الإنسانية، سوف ينال حكما مشددا بالسجن مدى الحياة، وهذا يعني أن حكمه سيكون أشد من عقوبة الضابط السوري السابق أنور رسلان الذي حُكِم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة في ألمانيا، باعتبار أن علاء.م قد خالف القسم الذي أدّاه عندما بدأ في ممارسة مهنة الطب، وخالف واجبه المهني والإنساني فبدل أن يعمل على مداواة جراح الناس وتخفيف آلامهم عمل على تعذيبهم وقتل بعضهم».
ورسلان هو ضابط سابق في الاستخبارات السورية حُكِم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة في ألمانيا أيضا في مطلع شهر يناير الماضي، على خلفية اتهامه بتعذيب معتقلين في الفرع 251 المعروف بـ«الخطيب». ومن ثم تلا ذلك البدء بمحاكمة الطبيب المتهم علاء.م.
وكشف شمّاس أنه «بالنسبة لعدد ضحايا الطبيب المتهم، فإن هناك 18 حالة تعذيب شارك فيها، ومن بينها حالتان مشهورتان: الحالة الأولى عندما قام بسكب الكحول على العضو الذكري لفتى في الرابعة عشرة من عمره وإشعال النار فيه. والحالة الثانية هي قيامه بالدهس على رأس مريض مصاب بالصرع وإعطائه أيضا حبة دواء أدت لمقتله لاحقاً، بالإضافة لحالات أخرى سوف يتم الكشف عنها تباعا خلال جلسات المحاكمة».
وتابع: «بالنسبة لصدور الحكم، مبدئيا باعتبار أنه لا يوجد شهود كثيرون حتى الآن كما كان الأمر في محاكمة رسلان، فباعتقادي أن الحكم سيصدر قبل نهاية هذا العام، إلا في حال ظهور شهود جدد وهو أمر متوقع، حينها ستمتد الجلسات ويتأخر صدور الحكم، وتبدو مجريات هذه المحاكمة مختلفة عن محاكمة أنور رسلان، فبينما رد أنور رسلان على الاتهامات بجلسة واحدة، يقوم المتهم علاء موسى منذ الجلسة الأولى وحتى الآن بالرد على التهم ولا ندري متى سينتهي المتهم من الرد على التهم الموجّهة إليه».
وبحسب عضو مجلس إدارة «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، هناك تسعة شهود وثلاثة مدّعين شخصيين في قضية محاكمة الطبيب السوري المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وسوف يبدأ الاستماع لأقوالهم عندما ينتهي المتهم من الرد على التهم الموجهة إليه، وأيضا بعد الانتهاء من الاستماع إلى أقوال المحققين من ضباط الشرطة الذين قاموا بتحقيقاتٍ مبدئية واستمعوا لإفادات المتهم بعد توقيفه.
ملاحقة مجرمي الحرب واجب
كما دعا شمّاس «السوريات والسوريين المترددين إلى الإدلاء بإفاداتهم إلى المبادرة بتقديم شهاداتهم أو الاتصال بالمركز السوري لمساعدتهم»، باعتبار أن الصمت عن محاسبة المجرمين يشجّعهم على الاستمرار بارتكاب الجرائم، على حدّ تعبيره.
وشدد: «إننا كعاملين في المسار القضائي في المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، نحن ماضون في عملنا بملاحقة كافة مجرمي الحرب سواءً المسؤولين الأمنيين التابعين للنظام أو الميليشيات المسلّحة الأخرى»، منوها: «إننا لا نستهدف المنشقين، وأكدنا مرارا وتكرارا أننا لا نلاحق المنشقين لأنهم منشقون، بل لأنهم ارتكبوا جرائم خطيرة ويجب أن يعاقبوا عليها وليس في نيتنا ملاحقة هؤلاء ولم يكن في نيتنا أصلا ملاحقة أنور رسلان بذاته، لكن هو من قاد نفسه بنفسه للتوقيف وإفادة إياد الغريب هي التي ساعدت في توقيفه، وهناك الكثير من الضباط المنشقين في أوروبا ولم يتحرك أحد ضدهم. نحن نلاحق المجرمين وليس المنشقون».
أما فيما يتعلق بمحاكمة مسؤولين آخرين على خلفية اتهامهم بارتكاب جرائم حرب، فقد كشف شمّاس أن «محاكمة أخرى ستبدأ في مايو (أيار)، أو يونيو (حزيران) المقبلين، والمتهم كان ينتمي لتنظيم ما يسمى بالجبهة الشعبية القيادة العامة التابعة لأحمد جبريل، حيث كان مسؤولا عن حاجز أمني في مدخل مخيم اليرموك وكان يتعامل بقسوة وعنف مع أهالي المخيم، وسبق له أن استهدف تجمعا مدنيا للأهالي لحظة تجمعهم لتسلم مساعدات غذائية كانت توزعها الأونروا بقذيفة هاون أدت إلى إصابة ووفاة 30 شخصا وهو محتجز في برلين وسيحاكم فيها أيضاً».
رسالة للمجتمع الدولي
ومن جهته اعتبر شيار خليل، وهو صحافي سوري ومعتقل سابق لدى نظام الأسد أن «محاكمة الطبيب السوري مهمة للغاية، فهي تكشف أن أطباء لدى منظومة الحكم السورية كانوا يمارسون التعذيب أيضاً، وبالتالي لم يتوقف هذا الأمر لدى الضبّاط فقط، والدليل هو علاء.م الذي كان يقتل ويعذّب المعتقلين بدلا من مداواتهم، ولهذا تفتح محاكمته الباب أمام الضحايا المتواجدين في أوروبا لملاحقة جلّاديهم وهذا أمر في غاية الأهمية».
وأضاف الصحافي الذي يحضر جلسات محاكمة الطبيب المتهم لـ«المجلة» أن «محاكمته هي رسالة للمجتمع الدولي تفيد باستمرار النظام للقتل والتعذيب بحق المعتقلين، خاصة أن هناك مئات آلاف المعتقلين في سجون النظام حتى الآن، ولذلك على السوريين كافة أن لا ينسوا قضية هؤلاء المسجونين الذين تتاجر منصّات المعارضة السياسية بآلامهم دون أن تقدّم لهم شيئا أو تساهم في إطلاق سراحهم».
وتابع أن «الأحداث التي رافقت محاكمة الطبيب المتهم تدل على أن نظام الأسد يسعى لتشويه أي عملية عدالة تخصّ السوريين، فسفارته في برلين تدخّلت لصالح المتهم وحاولت تهريبه لخارج الأراضي الألمانية وتحديدا إلى سوريا لتفادي محاكمته بعد أن حدث تواصل بين السفارة وعلاء.م، وفي كل هذا المزيد من الأدلة على سعي النظام لتخريب مجرى العدالة وتشويه الحقائق، فالمحاكمة التي بدأت في كوبلنز والتي على أثرها حُكمِ على أنور رسلان بالمؤبد، ومن ثم البدء في مقاضاة هذا الطبيب لدى محكمة فرانكفورت، هما متزامنتان ويجب أن تؤسسا لبنية قانونية واضحة في أوروبا لمحاكمة مجرمي الحرب في سوريا والذين ينتمون لكافة الفئات والطوائف السورية والذين يتواجدون في مختلف مناطق البلاد، وهذه مهمة أساسية تقع على عاتق المجتمع المدني السوري لتحقيق العدالة لكل ضحايا الحرب السورية».
وحتى الآن ينفي الطبيب المتهم علاء.م ارتكابه لجرائمٍ ضد الإنسانية، لكنه يقرّ بوجود تعذيبٍ في المستشفيات التي عمل بها، بحسب ما ذكر لـ«المجلة» مصدر آخر أفاد أيضا بأن المتهم أقرّ بوجود حالات تعذيب في أماكن عمله بمستشفياتٍ عسكرية في سوريا قد تستخدم لاحقا كدليلٍ على إدانة نظام الأسد لارتكابه جرائمٍ ضد الإنسانية.
وعلى الرغم من أن هذا الطبيب نفى كل التهم الموّجهة إليه، فقد كشفت السلطات الألمانية عن تخطيطه للهرب إلى سوريا قبل توقيفه بمساعدة من السفارة السورية في برلين وهو أمر استندت عليه السلطات الأمنية في تمديد احتجازه خشية أن يهرب مجددا بعدما عثرت على محادثاتٍ هاتفية بينه وبين موظفين لدى سفارة نظام الأسد في العاصمة الألمانية.
وقبيل محاكمة علاء.م بنحو أسبوع، أصدرت محكمة ألمانية حكما بالسجن المؤبد مدى الحياة بحق الضباط السابق في الاستخبارات السورية أنور رسلان والذي اعترف في مرافعته الختامية بوقوع تعذيب في الفرع 251 الذي يُعرف بفرع «الخطيب» الذي كان يديره، حيث أقر بسماعه لأصوات تعذيب المعتقلين بعدما نفى ذلك لوقتٍ طويل. ومع ذلك نفى مجددا مسؤوليته عن عمليات التعذيب تلك.
واستمدت المحكمة حكمها من نحو 100 شهادة، بحسب محامين يمثّلون المدعين، ووقف العديد من الناجين من التعذيب في فرع «الخطيب» الذي كان يترأس رسلان قسم التحقيقات فيه سابقاً، وتواجهوا معه وجها لوجه داخل قاعة محكمة ألمانية.
وكان رسلان قد انشق عن نظام الأسد في العام 2013. ووصل بعد ذلك في العام 2014 إلى ألمانيا التي يقضي فيها حاليا عقوبة السجن المؤبد غير المشدد مدى الحياة.