الجزائر: في سوق علي ملاّح بوسط العاصمة الجزائر، السوق الشعبية الأشهر بالجزائر والذي كان يعجّ بالحركة في معظم أوقاته، لم يصبح كذلك، فالحركة فيه قليلة، والأسر المحدودة الدخل التي تقصده بقوة سابقا باتت تفكر مرات ومرات قبل الذهاب لهذه السوق التي كانت فيه الأسعار في متناولهم، فمنذ بداية العام الجديد وقبله بأسابيع بدأت الأسعار تعرف ارتفاعا جنونيا وغير مسبوق، ما أثر على القدرة الشرائية للجزائريين بشكل متسارع.
يقول المواطن عبد الغاني بحسرة لـ«المجلة» إن «سنة 2022 فيما يبدو هي بداية السنوات العجاف، أكلت كل ما جمعناه في السنوات السمان، الراتب بات لا يصمد لنهاية الشهر، بل وأحيانا لا يصمد حتى لمنتصفه، والعائلات باتت تدخر كما في الماضي، ومن ادخر أنفق ما عنده لمواجهة مخلفات كورونا». تركنا عبد الغاني يبحث عن خضر وفواكه يستطيع جيبه تحمل أسعارها، ورحنا نقلب في ملامح المواطنين داخل سوق علي ملاح بحثا عن تفاؤل يبدو غائبا عن وجوه الجزائريين الذين تركت فيهم السنة آثارا يصعب محوها.
المتقاعد رشيد عبّال يجيب عن سؤال «المجلة» عما يميز العام الجديد قائلا: «ما يميز العام الجديد الارتفاع الصاروخي لأسعار كل المواد الاستهلاكية ودون استثناء، وعلى عكس السنوات الماضية التي تكون فيها الزيادة خفيفة وبعد فترات طويلة، اليوم بتنا نستيقظ كل يوم على زيادات متكررة وبنسبة جد مرتفعة».
وتعدُ «طوابير الزيت»، التي يشكلها الجزائريون أمام المساحات التجارية الكبرى للظفر بقارورة زيت سعة 5 لترات، بعدما شهدت الأسواق ندرة مفاجئة مطلع السنة، إلى جانب نقص مادة البطاطا وندرتها، أحد أبرز مظاهر هذه الأزمة، وذلك وسط تقاذف للتهم بين الحكومة والمنتجين والتجار، دفع بالسلطات لسن قانون يجرم المضاربة والتخزين العشوائي للمواد الغذائية.
ويرجع خبراء غلاء الأسعار لتهاوي الدينار الجزائري، الذي سجل تراجعا غير مسبوق، ووصل عند 139.2 دينار للدولار، و155 دينارا لليورو، و185 دينارا أمام الجنيه الإسترليني، علما بأنه في بداية الأزمة النفطية في منتصف 2014 كان سعر صرف العملة المحلية الجزائرية يساوي 83 دينارا للدولار الواحد. وبهذا التهاوي يقترب سعر الصرف الرسمي من سعر السوق الموازية، حيث سجل 190 دينارا للدولار و210 دنانير أمام اليورو و125 دينارا أمام الجنيه الإسترليني. وترجع خسارة الدينار الجزائري إلى تبنّي البنك المركزي، سياسة تعويم العملة عند الضرورة، إذ سبق أن فقد الدينار جزءا كبيرا من قيمته في السنوات الماضية، لمواجهة تبعات تراجع عائدات النفط وكبح فاتورة الواردات.
ويأتي هذا الغلاء، أيضا بالتزامن مع مصاعب اقتصادية تواجهها البلاد منذ 2020. بسبب تراجع أسعار النفط والتبعات السلبية لجائحة كورونا، وبين أسباب خارجية وأخرى داخلية، يرجع العاملون في قطاع مبيعات التجزئة داخل الأسواق، أسباب هذه الزيادات في الأسعار. عالميا، ووفق تقرير صدر مطلع الشهر الجاري عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، فإن أسعار السلع الرئيسية (اللحوم، الزيوت، الحبوب، الألبان، السكر)، ارتفعت بنسبة 33 في المائة في أغسطس (آب) الماضي على أساس سنوي. كما عزت وزارة التجارة الجزائرية قبل أيام على لسان أحد مسؤوليها هذه الوضعية، إلى الارتفاع الكبير في أسعار مواد غذائية في الأسواق الدولية، وهو ما انعكس على أسعارها محليا.
المضاربة والاحتكار
وصرح مسؤول تنظيم النشاطات بالوزارة سامي قلي، للإذاعة الرسمية، أنه إضافة لعوامل خارجية تسببت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية محليا، فهناك أخرى محلية على غرار المضاربة والاحتكار. وتابع: «تم السماح للفلاحين بيع منتجاتهم مباشرة إلى تجار الجملة والتجزئة لتفادي المضاربين وكسر الأسعار». ومطلع سبتمبر (أيلول) الماضي، وجه وزير التجارة كمال رزيق، بتكثيف عمليات المراقبة على أسواق الجملة والتجزئة لكسر المضاربة واتخاذ العقوبات اللازمة بحق التجار المخالفين.
وفي الأسواق ارتفعت أسعار البقوليات الجافة الواسعة الاستهلاك بشكل لافت في مختلف أسواق ومحلات العاصمة وغيرها من المدن، وبلغ سعر كيلوغرام الفاصوليا 290 دينارا (2.20 دولار) صعودا من 210 دنانير خلال الصيف (1.6 دولار)، بينما بلغ سعر الكيلوغرام من الحمص 310 دنانير (2.34 دولار) صعودا من 240 دينارا (1.83 دولار). أما أسعار العدس فارتفعت هي الأخرى من 200 دينار (1.57 دولار) للكيلوغرام قبل أشهر إلى 260 دينارا (1.96 دولار)، في حين قفز الأرز من 120 دينارا (95 سنتا) للكيلوغرام إلى 230 دينارا (1.74 دولار).
وفي خطوة لكسر أسعار البقوليات الجافة الملتهبة، لجأت السلطات الجزائرية إلى فتح نقاط بيع لهذه المواد منتجة محليا بأسعار منخفضة. وأعلنت وزارة الفلاحة (الزراعة) اعتماد البيع المباشر للبقوليات الجافة المنتجة محليا للمواطنين عبر ولايات البلاد الـ58، في مقرات ومحال لديوان الحبوب (حكومي).
وفي حديثه لـ«المجلة» (يؤكد رئيس الجمعية الجزائرية للتجار والحرفيين (مستقلة) الحاج الطاهر بولنوار، أن ارتفاع أسعار المواد الزراعية على وجه الخصوص، وبعضها مستورد يعود إلى 5 عوامل رئيسية.
السبب الأول لارتفاع الأسعار في رأي بولنوار هو «الجفاف الذي عرفته الجزائر منذ أكثر من عام، والكثير من المزارعين يشتكون نقص مياه السقي وجفاف آبار وتراجع منسوب مياه السدود». وأشار إلى أن «الجفاف أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي، ومعه تناقص العرض وارتفعت الأسعار في ظل طلب مرتفع». أما السبب الثاني، فيعود إلى موجة الحر خلال الصيف الماضي وتأثيرها على اليد العاملة، إذ سجل نقص كبير فيها بسبب درجات الحرارة القياسية التي بلغت 48 درجة في ولايات شمالية، وأثر على جني المحاصيل. السبب الثالث وفق بولنوار، هو «تضرر وكساد المحاصيل الزراعية بسبب الحرارة والحرائق التي طالت عدة ولايات شمالي البلاد».
ويتمثل العامل الرابع حسب رئيس جمعية التجار والحرفيين الجزائريين، في «ارتفاع تكاليف نقل المنتجات والمواد الأولية وتكاليف الإنتاج». أما العامل الخامس والأخير، فهو المضاربة التي تؤدي لارتفاع الأسعار في ظل نقص المنشآت التجارية على غرار أسواق التجزئة في كثير من الولايات.
وفي المقابل قرر مجلس الأمة الجزائري قبل أيام، إنشاء لجنة تحقيق برلمانية للتحقيق في نقص السلع الاستهلاكية. وجاء هذا القرار عقب اجتماع مكتب مجلس الأمة لرؤساء المجموعات البرلمانية والمراقب البرلماني، برئاسة رئيس المجلس، صالح قوجيل، وذلك طبقا لما ذكرته وكالة الأنباء الجزائرية.
ونقلت الوكالة الجزائرية عن بيان، عقب الاجتماع، أنه «تناغما مع سياسة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، ووجاهة غاياتها، فضلا عن جهده الجهيد وإرادته في محاربة آفة الاحتكار والمضاربة غير المشروعة، التي أضحت تأخذ أبعادا استفزازية جديدة تهدد الاستقرار والتماسك والمناعة المجتمعية للأمة... فقد تقرر إنشاء لجنة تحقيق برلمانية، تعهد إليها مسؤولية التحقيق والتقصي في مشاكل الندرة والاحتكار، الذي طال بعض السلع والبضائع من المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع في الجهات الأربع للجمهورية، وفي مختلف الجوانب ذات الصلة».
كما أضاف البيان أن هذه اللجنة ستعمل على «الوقوف على دوافع هذه الأزمة ومسبباتها الرئيسية، ومن يغذيها ويحوم حولها»، بهدف «السعي لصد أي مناورات من قبل المضاربين وسلوكياتهم الكيدية المتكررة، وأنانيتهم الفردية، وطمعهم الشخصي على حساب المنتج والمستهلك على حد سواء».
وشدد البيان في الختام على أن «يد الدولة وسلطان القانون سيكونان لذلك بالمرصاد، وذلك من خلال المساءلة والمحاسبة لتكريس رؤية واضحة للمساواة المجتمعية، والحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة»، معلنا أن لجنة التحقيق ستباشر «عملها بتسطير برنامج عمل في القريب المنظور، وفق الإجراءات القانونية»، حسب الوكالة الجزائرية.
ضرورة تسقيف هامش الربح
يوضح الخبير القانوني معمري نسيم لـ«المجلة» أن «القانون الجزائري يفرض عقوبات صارمة على رافضي منح الفاتورة، وكذلك على المتسببين في احتكار القوت وخلق ندرة المواد الغذائية، ويعاقب عليها بغرامة بنسبة 80 في المائة من المبلغ الذي كان يجب فوترته مهما بلغت قيمته، تطبيقا لأحكام المادة 33 من قانون الممارسات التجارية، كما أن المضاربة تعد جريمة، إذ تنص المادة 172 من قانون العقوبات 90-15 على أنه يعد مرتكبا لجريمة المضاربة غير المشروعة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وبغرامة من 5 آلاف دينار (37 دولارا)، إلى 100 ألف دينار (740 دولارا)، كل من أحدث بطريقة مباشرة أو عن طريق وسيط رفعا أو خفضا مصطنعا في أسعار السلع أو البضائع أو الأوراق المالية العمومية أو الخاصة أو شرع في ذلك».
وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي من العام الماضي، كشف معمري أن «البرلمان بغرفتيه صادق على قانون جديد لمكافحة المضاربة غير المشروعة، يقضي بالسجن 30 سنة على المضاربين، ويمكن مضاعفة العقوبة لتصل إلى حد الإعدام».
وكشفت وزارة العدل الجزائرية أخيرا عن متابعة 103 متهمين بالمضاربة قضائيا منذ شهر سبتمبر الماضي، ووضعت المصالح القضائية 63 شخصا رهن الحبس عن تهمة المضاربة بالسلع، و5 آخرين رهن الرقابة القضائية. وبحسب أرقام لوزارة التجارة، فقد أحالت مصالح الرقابة وقمع الغش أكثر من 100 ألف ملف إلى الجهات القضائية تتعلق بمخالفات المضاربة، خلال 2021. وتتهم الحكومة ما تسميه «مجموعات منظمة» تعمل على إحداث الندرة والمساس بالاقتصاد الوطني والأمن الغذائي للجزائريين، وهو سيناريو مشابه لما وقع في يناير (كانون الثاني) 2011 حين شهدت الجزائر أزمة تموين في السوق المحلية، عُرفت بـ«أحداث السكر والزيت»، والتي تزامنت مع موجة الربيع العربي في المنطقة العربية، لكن تم احتواؤها من طرف السلطات وقتها.
وتعمل الحكومة حاليا على مشروع لتسقيف هامش الربح بالنسبة للتجار، وفي حديثه لـ«المجلة» يوضح الخبير الاقتصادي سليمان ناصر أن «مشروع القانون المقترح على الحكومة من طرف وزارة التجارة والمتعلق بتسقيف هوامش الربح للسلع الأساسية، يصطدم بعوائق قانونية»، لأننا هنا يقول: «يجب أن نوضّح بعض الأمور، ويجب أن نفرّق بين نوعين من السلع: سلع أساسية تدعمها الدولة بمبالغ كبيرة من الميزانية حتى تكون في متناول المواطن، مثل: الخبز، السكر، البنزين، حليب الأكياس، فهذه السلع من حق الدولة أن تحدد سعرها وتحدد أيضا هوامش الربح للبائعين. وسلع أساسية ولكن غير مدعّمة من طرف الدولة، وهذه يمكن أن ندخل فيها سلعا كثيرة مثل: زيت الزيتون، حليب البودرة، والأمثلة كثيرة وقد تختلف حسب العادات الاستهلاكية للعائلات، فهذه السلع لا يمكن تحديد سعرها ولا تسقيف هوامش الربح فيها، وذلك لأسباب كثيرة: لأن ذلك يتناقض مع حرية الأسعار والسوق، لأن أسعار الشراء وتكاليف الإنتاج مختلفة، لأن تكاليف الاستيراد تختلف من سلعة لأخرى... وهكذا». وفي رأي ناصر فإنه «لا يمكن الانتقال إلى اقتصاد السوق بعقلية اشتراكية، ولذلك طالت فترة الانتقال من 1990 إلى 2022 وقد تمتد الحكاية إلى أحفادنا». وخاطب ناصر الحكومة بقوله: «حرّروا الاقتصاد، وامنحوا الدعم مباشرة للفقير، عوض دعم السلع أو تحديد أسعارها».