جدة: «منذ عامين، لم تلامس يدي النقود الورقية. أدفع عبر هاتفي الذكي، حتى أشتري قارورة ماء صغيرة من أصغر بقالة في الحي، وأحول المبالغ الصغيرة إلى حارس العمارة عبر محفظتي الرقمية. ببساطة، اختفت تعاملات الكاش لدي!»، هكذا يقول الشاب السعودي أيمن، الذي يعمل في إحدى الشركات الخاصة.
لقد وصلت السعودية اليوم إلى مستوى من التحول الرقمي في قطاع المدفوعات والتحويلات إلى درجة تتيح للفرد، إذا ما اختار ذلك، أن يستغني تماما عن سحب وحمل وتداول العملات الورقية، سواء لشراء سيارة بقيمة تعادل 50 ألف دولار فأكثر أو لدفع ثمن علكة بقيمة لا تتجاوز ربع دولار.
فلم يعد السؤال بعد الآن: هل يختفي الكاش من التداولات؟ بل أصبح السؤال متى؟ وما هي الخلاصات المفيدة لأحدث نشرة إحصائية صادرة عن البنك المركزي السعودي (ساما)؟
هيمنة القنوات الرقمية
رغم نمو عرض النقود (النقود خارج المصارف ومختلف أنوع الودائع) لأعلى مستوى في 5 سنوات من 481 مليار دولار عام 2017 إلى 615.5 مليار دولار عام 2020. واصلت القنوات الرقمية كالتطبيقات والمواقع الإلكترونية للمصارف والبطاقات المصرفية (الائتمانية/ credit، والخصم المباشر/ debit)، إلى المحافظ الرقمية للأفراد، نموها المتواصل.
لم تعد البنوك التقليدية والمصارف المتوافقة مع أحكام الشريعة، مهتمة مثل السابق بتعزيز فروعها وافتتاح فروع جديدة، وبخاصة من اللاعبين الكبار أو أن يكون عدد الفروع الجديدة محدودا. لقد كان الاستثناء هو البنوك والمصارف التي تنتمي إلى الجيل الشاب، التي زادت فروعها القائمة لأسباب، منها تعزيز الانتشار. لم تعد زيارة البنك ضرورية لأن مبادرة البنك المركزي السعودي المعروفة باسم البيئة التجريبية (SandBox)، مكنت أي فرد، مواطنا كان أم مقيماً، من فتح الحسابات وإصدار البطاقات المصرفية الافتراضية.
لقد أضحى هناك تنافس على تقديم الخدمات المالية الرقمية يصل إلى مناطق غير مسبوقة. فمثلاً، يمكن الاشتراك في «جمعية» (مال يدفع شهريا من جانب كل مستفيد بنسب متساوية، ثم يجمع لصالح أحد المستفيدين المسجلين بترتيب معين لمدة معينة) عبر تطبيقات مرخصّة من البنك المركزي السعودي.
ذلك الأمر، يعني أن الانتشار الانشطاري لخدمات كانت محصورة بالبنوك أو الأفراد بصورة شخصية، صار لها تطبيقات وأخرجها إلى التداول الشفاف. تطبيق «سيركيلز» (دوائر) السعودي يوفر الجمعية رقمياً، بدءا من التحقق من الشخصية ومصدر الدخل والدراسة الائتمانية، وصولا إلى الاشتراك في جمعيات موثقة مؤمنة، مقابل رسم مالي. الأمر الأهم، هو تكثيف رقابة البنك المركزي وسهولة التحكيم عند حدوث ثغرات أو سوء في أي تجربة.
السحب النقدي يتراجع
أبلغ «المجلة» 3 من مديري أقسام المحاسبة في شركات تجزئة سعودية عملاقة أن عام 2021 شهد وصول نسبة المدفوعات الرقمية إلى أكثر من 90 في المائة من مجمل المدفوعات. هذه النسبة تحمل في طياتها تقلص الاعتماد على الأوراق النقدية مع تفضيل ترك حصة أكبر من الكتلة النقدية لدى المصارف والبنك المركزي، وبالتالي إدارة السيولة بأسلوب مؤسسي، بمنأى عن أي مضاربات مع تحسين التعامل مع التضخم.
انخفض السحب النقدي من أجهزة الصرف الآلي من حيث القيمة من 194 مليار دولار إلى 155 مليار دولار عام 2020. هذا يعني تقليل الأوراق النقدية للمستهلكين، والتوجه نحو الدفع الإلكتروني. فقد قفز الدفع عبر نقاط البيع إلى 126 مليار دولار العام الماضي بعد أن كان 53 مليار دولار فقط قبل 5 سنوات، فيما تضاعف عدد عمليات الدفع الرقمي بين مرتين وثلاث.
تراجع السحب النقدي يعني بالضرورة انتعاشا في الدفع مع تفضيل إبقاء الأموال الساخنة أو الادخارية في البنوك بدل أن تكون بين أيدي المستهلكين مباشرة كورق نقدي.
لكن، هناك من يفضلون ملمس الورق ويجدون متعة في إخراجه ويتعاملون مع المال من باب الإحساس بمتعة العد واسترجاع الباقي نقدا أو بتقديم البقشيش بورقة نقدية. هذه الفئة تتركز في الفئات العمرية في العقد الخامس وما فوق، وهي في تقلص مستمر مع فرض مبدأ تنويع الخيارات في أسلوب الدفع. الشباب أميل إلى استخدام الدفع «اللاتلامسي» عبر الهواتف الذكية والساعات. الرجال والنساء الأكبر سنا في العقد السابع أو الثامن، يفضلن العد والادخار وإعادة توزيع الثروة ورقة ورقة؛ رغم توسع من يتعاملون مع الخدمات المالية الرقمية بشكل أكبر!
لقد خطت المدفوعات الحكومية خطوات نوعية في حصر تحصيل الرسوم الحكومية والضرائب وغيرها رقميا فقط منذ 10 سنوات، وهو أمر ملزم عبر نظام سداد. ويغطي نظام سداد دفع فواتير الخدمات والاشتراكات وغيرها للقطاعات الخاصة والحكومية والقطاع الثالث. وارتفعت المبالغ المدفوعة عن طريق نظام سداد 83 مليار دولار عام 2021 بعد أن كانت 60 مليار دولار عام 2017.
البطاقات الائتمانية: رابح كبير
ارتفعت قروض البطاقات الائتمانية من 3.2 مليار دولار عام 2017 إلى 5.2 مليار دولار. لقد لعبت البطاقات الائتمانية دورا محوريا في تعزيز وسائل الدفع الرقمي، حيث إنها من أوائل من تبنى ثورة تطبيقات الدفع ونقاط البيع، بل تحولها إلى أسلوب حياة لدى البعض.
إن جوهر البطاقات الائتمانية رقمي بالكامل لأن حامل البطاقة الائتمانية، يقترض أموالا لم يرها وينفقها دون أن يلمسها، ويعيد دفع المستحقات والأقساط والفوائد رقميا بالكامل، وبخاصة مع وجود أكثر من 3.5 مليون مستخدم بنهاية 2019 ونمو معقول في الأعوام التالية.
ومع إتاحة بطاقات الخصم المباشر لإمكانية دفع الاشتراكات والتسوق الإلكتروني، شأنها شأن البطاقة الائتمانية من حيث سهولة التجارة الإلكترونية، يفضل عدد أكبر من العملاء التعاملات الرقمية.
هل تموت التعاملات النقدية
لا شيء يموت بالكامل، لكنه يضمر ويصغر، سيبقى الكاش، لكنه سيختفي رويدا رويداً، لتصغر نسبته مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض منافذ البيع صارت رقمية بالكامل. لكن الأكيد أن الوقت لن يطول حتى تصبح التعاملات النقدية شيئا من الماضي.