لقد نجت كازاخستان لتوها من أزمة كبيرة أثارها الارتفاع الهائل في أسعار الوقود. نادرا ما تجد معارضة في كازاخستان على الرغم من حقيقة أنها واحدة من أقل البلدان حرية في آسيا الوسطى التي يديرها نظام تهيمن عليه النخبة الكليبتوقراطية. ولكن مع وجود تضخم بنسبة 9 في المائة، يعيش أكثر من مليون شخص تحت خط الفقر، حيث أدت الزيادة في أسعار الوقود بين عشية وضحاها إلى وصول المشاعر العامة لنقطة الغليان.
تستخدم الغالبية العظمى من المركبات في كازاخستان كلا من وقود البوتان والبروبان لأنهما أرخص بكثير من البنزين والديزل. لكن واجهت البلاد نقصًا في غاز البترول المسال حيث تختار شركات الطاقة الإفراط في التصدير، مما دفع الحكومة إلى إدخال إصلاحات في قطاع الطاقة.
لغى الإصلاح الحد الأقصى للأسعار المحلية التي فرضتها الدولة في السابق على غاز البوتان والبروبان، على أمل زيادة الإمدادات إلى السوق المحلية وإنهاء النقص المستمر. ومع ذلك، أدى تحرير الأسعار إلى نتائج عكسية بشكل مأساوي حيث تضاعفت أسعار البيوتان والبروبان، «وقود الطرق للفقراء» بين عشية وضحاها، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات حاشدة مناهضة للحكومة في الخامس من يناير (كانون الثاني).
توسعت حركة الاحتجاجات بسرعة؛ حيث بدأت أعمال الشغب، مع توجيه الكثير من الغضب تجاه الرئيس السابق للبلاد، نور سلطان نزارباييف، الذي حكم لمدة ثلاثة عقود واحتفظ بلقب «إلباسي» أو «زعيم الأمة» بعد استقالته عام 2019. تتركز الكثير من ثروة كازاخستان في أيدي عائلة نزارباييف، حيث إن الرئيس السابق نفسه لا يزال يحتفظ بقدر كبير من السلطة كرئيس لمجلس الأمن في البلاد.
في السادس من يناير، قطعت الحكومة الإنترنت وفرضت حظر تجول صارم على أمل إنهاء الاحتجاجات. وقدم الرئيس الحالي، قاسم زومارت توكاييف، بسرعة حدودًا جديدة لأسعار الوقود، بل وأعلن عن تعديل حكومي. وفي قرار غير متوقع أقال نزارباييف من مجلس الأمن، وأقال ثلاثة آخرون من أفراد عائلة نزارباييف من مناصب بارزة. كما استقالت حكومة توكاييف. لكن هذا لم يؤد إلى شيء، حيث استمرت الاحتجاجات، وسيطر المتظاهرون على المطار. وأعلن توكاييف في خطابه التالي المتلفز أن البلاد قد تم الاستيلاء عليها من قبل 20000 إرهابي «مدربين في الخارج»، ووضع البلاد في حالة تأهب قصوى ودعا منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بقيادة روسيا لإرسال قوات لمساعدة القوات الكازاخستانية في محاربة «الإرهابيين». كما أمر توكاييف قواته الأمنية بـ«إطلاق النار للقتل دون سابق إنذار». وأدى ذلك إلى إراقة دماء واعتقالات جماعية، ووصف الحدث بأنه «يناير الدموي» بالنسبة لكازاخستان.
وعلى الرغم من أن العدد الدقيق للقتلى غير واضح، إلا أن المصادر تقول إن 227 شخصًا لقوا حتفهم خلال الاضطرابات،؛ من بينهم 149 مدنياً و11 من أفراد هيئات إنفاذ القانون في ألماتي. واعتقل أكثر من 10 آلاف شخص خلال الاضطرابات وما زال كثيرون رهن الاعتقال. وعلاوة على ذلك، تم نشر 2500 جندي من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، معظمهم من روسيا، في كازاخستان، حيث ظلوا حتى 13 يناير يحرسون المباني الحكومية المهمة والمرافق الاستراتيجية، بما في ذلك ميناء بايكونور الفضائي في كازاخستان، والذي تستخدمه روسيا في عمليات الإطلاق الفضائية.
على الرغم من أن كازاخستان عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى جانب روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وقيرغيزستان وطاجيكستان، إلا أن المنظمة لم تنشر قوات منذ 30 عامًا. ولكن في الآونة الأخيرة، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، طلب رئيس أرمينيا، نيكول باشينيان، من موسكو نشر بعثة منظمة معاهدة الأمن الجماعي لمساعدة أرمينيا في اشتباكاتها مع أذربيجان حول مرتفعات كراباخ، ولكن تم رفض طلبه. حقيقة أن طلب توكاييف إرسال قوات روسية إلى بلاده أمر مزعج بالفعل، ولكن المقلق أكثر هو حقيقة أن منظمة معاهدة الأمن الجماعي اختارت الاستجابة للطلب من خلال نشر قوات في ألماتي لأول مرة خلال هذا القرن، ولكنه نفس السيناريو الذي كانت موسكو تصوغه على مدار العقدين الأخيرين، حيث تعتبر روسيا «الضامن الأمني» في المنطقة.
وعلى الرغم من عدم نشر قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي لمساعدة أرمينيا، إلا أن موسكو توسطت في اتفاق وقف إطلاق النار عندما اندلع نزاع مرتفعات كراباخ الخامل لأول مرة في خريف عام 2020. ومنذ ذلك الحين، نشرت روسيا قواتها العسكرية الدائمة لحفظ السلام في المنطقة، بصفتها وسيط السلام الرئيسي بين أرمينيا وأذربيجان. وحتى الآن، تسمي روسيا احتلالها العسكري للأراضي الجورجية الانفصالية في أذربيجان وأوسيتيا الجنوبية، «مهام حفظ السلام». كما صورت روسيا دورها في دونباس (أوكرانيا) وترانسنيستريا (مولدوفا) كواحدة من «قوات حفظ السلام» التي تسعى جاهدة للتوصل إلى حل للنزاع.
نتيجة مهمة أخرى لأحداث يناير في كازاخستان هي حقيقة أنه لأول مرة منذ استقلالها بعد الاتحاد السوفياتي، يبدو أن البلاد خالية من سيطرة عائلة نزارباييف. فبعد فترة وجيزة من إقالته من مجلس الأمن، أصدر نور سلطان نزارباييف البالغ من العمر 81 عامًا بيانًا مصورًا يعفي نفسه من أي دور في الأحداث المثيرة للجدل، قائلاً إنه متقاعد الآن. وعلاوة على ذلك، أعلن الرئيس توكاييف أنه أنشأ صندوقًا خاصًا يمكن لعائلة نزارباييف وآخرين ممن استفادوا من الفساد في كازاخستان المساهمة بأموال فيه كوسيلة لإعادة الأموال التي سرقوها. ومع ذلك، لا يبدو أن لدى توكاييف أي خطط أخرى لمعاقبة آل نزارباييف.
وكما أوضح بروس بانييه في مقالته الأخيرة على إذاعة أوروبا الحرة؛ «على الرغم من أن أفراد عائلة نزارباييف يبدو أنهم تلقوا ضربة مالية في أعقاب انتصار توكاييف في القتال بين النخبة، إلا أنه لا يوجد ما يشير إلى أنه سيتم التحقيق معهم، أو تحمل المسؤولية عن سنوات الجشع التي عاشوها. وفي الواقع، تحظر التعديلات الدستورية منذ حوالي 20 عامًا التحقيق مع نزارباييف أو أي من أفراد أسرته. في حين أن تحول الأحداث هو بلا شك ضربة كبيرة لنزارباييف؛ حيث لا يوجد أي تلميح إلى أن إلباسي سيواجه أي عقوبة بسبب الأموال التي يُزعم أنه نقلها إلى حسابات وممتلكات بنكية أجنبية، أو جرائم أكثر خطورة ارتكبها يُزعم أنه متورط بها».
والآن بعد أن هدأت العاصفة، قد يبدو لبعض المراقبين أن كازاخستان تستهل حقبة جديدة. وعلى الرغم من وصول توكاييف إلى السلطة في عام 2019؛ إلا أن هذا يمثل وصوله الحقيقي إلى السلطة- حيث لم يعد تحت ظل نزارباييف وبتأييد موسكو الكامل. لكن الأهم هو معرفة ما إذا كان سيتمكن من استعادة الاحترام والمصداقية مجددا داخل البلاد- فهو، بعد كل شيء، مسؤول عن إراقة الدماء المأساوية. ربما يكون قد أسكت المعارضة بالعنف؛ حيث يختبئ تحت عباءة جهود «مكافحة الإرهاب»، ويظهر أنه لا يخشى اتخاذ تدابير متطرفة للبقاء في السلطة، لكن جهوده قد لا تكون كافية لإبعاد 19 مليون شخص عن المطالبة بالحرية والتقدم.
* مايا أوتاراشفيلي: باحثة ونائبة مدير برنامج أوراسيا ونائبة مدير الأبحاث في معهد أبحاث السياسة الخارجية بفيلادلفيا. تركز أبحاثها على الجغرافيا السياسية وأمن منطقة البحر الأسود والقوقاز والسياسة الخارجية الروسية والنزاعات «المتجمدة» ما بعد الاتحاد السوفياتي.