دور جامعة الدول العربية بين الخلل والشلل؟

دور جامعة الدول العربية بين الخلل والشلل؟

كشف الإعلان عن تأجيل القمة العربية، التي كانت الجزائر تستعد لاستقبالها في مارس (آذار) المقبل عن عمق الخلافات السياسية الجوهرية التي تنخر كيان العلاقات العربية البينية الثنائية منها والجماعية، وأكد من جديد ضعف وهشاشة مؤسسات العمل العربي المشترك، وعدم قدرتها على اتخاذ مبادرات أو تقديم مقترحات قادرة على الأقل حصر تمدد الخلافات إن لم تستطع التوفيق بين المواقف المتباينة.

إن ضعف وهشاشة هذه المؤسسات، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ليس حديث العهد، وإنما يعود إلى بدايات تأسيس تلك الجامعة في خضم الحرب العالمية الثانية، التي استبيحت خلال معاركها حدود وسيادة العديد من دول العالم. وقد كانت الغاية الأساسية من إنشاء هذه المنظمة الوليدة هي أن تكون أداة فعالة تمكن أعضاءها من الدفاع مجتمعين عما كانوا يتوفرون عليه من سيادة على أوطانهم، وتأمين جلاء سلمي للقوى الكبرى من القواعد العسكرية المقامة على أراضي بعض الأعضاء، وكذا من تقديم الدعم للشعوب العربية المستعمرة لنيل استقلالها وتحرير بلدانها.

وبالفعل عكس ميثاق جامعة الدول العربية هذا التوجه في مادته الثانية، التي أكدت في الفقرة الأولى أن الغرض من إنشائها هو توثيق الصلات بين الدول الأعضاء وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون 

بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها؛ فيما عددت في الفقرة الثانية مجالات التعاون الممكنة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية وغيرها، مع مراعاة النظم الداخلية لكل دولة وأحوالها.

ولكن النوايا الحسنة لتأسيس إطار فاعل للعمل العربي المشترك لم تصمد طويلا رغم أن جامعة الدول العربية كتجسيد لهذا الإطار اجتهدت في سنواتها الأولى للقيام بالمهام الموكلة إليها على وجه يمكنه تقوية الروح الجماعية، إذ ساعدت سياسيا ودبلوماسيا العديد من الشعوب العربية على نيل استقلالها، كما تمكنت من بلورة الترسانة القانونية اللازمة لفتح آفاق واعدة للتعاون المشترك وعلى رأسها معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي المبرمة سنة 1950.

ويعود السبب في عدم الصمود هذا إلى مجموعة من العوامل بعضها عربي صرف يتعلق ببنية النظام الإقليمي العربي الرسمي وما يحتويه من تناقضات، والبعض الآخر بالظروف الدولية والإقليمية التي وجدت الدول العربية نفسها منغمسة فيها كموضوع لتجاذباتها المختلفة المرتبط معظمها بالأطماع في المنطقة التي أصبحت خزان نفط وغاز يسيل لعاب الكثيرين؛ ثم كميدان للصراعات الناجمة عن تضارب مصالح القوى الدولية والإقليمية الراغبة في بسط نفوذها أو تكريس هيمنتها.

لقد برزت العوامل العربية الداخلية الكامنة وراء هشاشة جامعة الدول العربية، وتحولها إلى جهاز بيروقراطي مترهل مبكرا أثناء المشاورات الأولية لإنشائها بين من أرادها إطارا لبناء وحدة شاملة، ومن حبذها بوصفها مجرد منتدى اختياري للتشاور والتعاون، وتنسيق المواقف. ولهذا بدأ مفهوما انعكاس هذا التباين في مجموعة ثغرات قانونية تضمنتها بعض المواد الجوهرية في الميثاق، وأهمها تلك الخاصة بنظام اتخاذ القرارات، وبتسوية المنازعات التي صيغت بطريقة تستجيب للتخوفات والتحفظات التي أبدتها معظم الدول المؤسسة، وتتجاوب مع حرصها على سيادتها، واستقلالها الحديث.

شل نظام اتخاذ القرارات نفسه بنفسه حين تطلب حصول إجماع الأصوات في القضايا الجوهرية، وهو أمر أثبتت التجارب استحالة تحقيقه؛ بينما في القرارات الخاصة بالقضايا الإجرائية التي يحسمها تصويت الأغلبية أعفى الدول غير الموافقة أو المعترضة على القرارات من واجب تنفيذها، وبالتالي تكرس سمو إرادة الدول على إرادة الجامعة بشكل جعل اتخاذ القرارات أو عدم اتخاذها سيان.

وبدورها جاءت صيغة المواد الخاصة بإجراءات تسوية المنازعات مرنة وغير ملزمة؛ الأمر الذي جعل دور الجامعة في تسوية المنازعات العربية البينية مشلولا، إذ قيدت المادة الخامسة من الميثاق تدخل الجامعة في أي تسوية بقبول الأطراف المتنازعة اللجوء إلى أجهزتها، التي تم منحها فقط صلاحية التوفيق بين الأطراف والتحكيم فيما بينها إذا ارتضت تلك الأطراف.ولهذا فعلى مدى 78 سنة من عمر الجامعة لم تتدخل إلا في عدد محدود جدا من الخلافات العربية نظرا لامتناع معظم الدول العربية عن إحالة خلافاتها عليها.

إن غلبة النزعة القُطرية لدى كل الدول العربية جعلت المؤسسة الكبرى لعملها المشترك مجرد هيكل فارغ المحتوى لم تمتلك الأمانات المتعاقبة على تسييره لا الجرأة ولا الشجاعة على تقديم مقترحات لتفعيله، بل لم تستطع الحفاظ في بعض الخلافات المصيرية حتى على الحد الأدنى من توافق الأعضاء؛ مما خلق شروخا عميقة داخل الجسد العربي أفرزت ثنائية محاور متصادمة، بين محور ضم أنظمة جمهورية مندفعة وصفت نفسها بالثورية والتقدمية، وأنظمة أخرى معظمها أنظمة وراثية معتدلة السياسات نعتها المحور الأول بالرجعي.

أحدثت سياسة المحاور هذه استقطابا حادا داخل النظام الإقليمي العربي، غذته أكثر أجواء الحرب الباردة المندلعة بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الغربي والاشتراكي، وانقسام الدول العربية بين منتمية وموالية ومعتمدة في تسليحها على هذا المعسكر أو ذاك. وقد أسهم هذا الانقسام في ترسيخ صورة العالم العربي كساحة مكشوفة يسهل اللعب فيها والتلاعب بها، وهذا ما اتضح في أول امتحان جدي إبان الغزو العراقي للكويت سنة 1990؛ إذ تطور الانقسام إلى تشرذم كامل لمؤسسات النظام الإقليمي العربي، التي لم تعد تعاني من كثرة الخلل، وإنما أصابها الشلل أيضا.

لا الشلل ولا الخلل قدر، فكل المنظمات الإقليمية عبر العالم تحمل بداخلها تناقضات بين محفزات تمكنها من تجاوز انتكاساتها، وبين معوقات تستطيع كبح انتعاشتها. والمنظمة الناجحة هي التي تعرف كيف تطور المحفزات، وتعالج المعوقات.

 

font change