«لا غزة ولا لبنان، أرواحنا فداء لإيران» كان هذا هو الشعار الذي رددته شرائح واسعة من أبناء الشعب الإيراني في مختلف محافظات البلاد لإبداء غضبها وسخطها، بل وللجهر برفضها لتورط نظام الملالي في نزاعات إقليمية متعددة لا طائل من ورائها غير هدر إمكانيات البلاد، معتبرين أن سياسات هذا النظام ذات النفس المذهبي والتوسعي هي التي تسببت في فرض عقوبات اقتصادية ومالية قوية على البلاد، وما نجم عنها من ركود في الحياة التجارية، ومن تدهور حاد في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لمعظم السكان.
إن هذا التدهور، باعتراف أجهزة النظام ومؤسساته المختلفة، هو الذي أدى إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية العارمة سنة 2019. والمستمرة إلى يومنا هذا بشكل متنقل من محافظة لأخرى وبحدة أقل لحد الآن. كما أن هنالك إقرارا رسميا بأن إجراءات الدعم المالي المتخذة في عهد الرئيس السابق حسن روحاني والمستمرة مع حكومة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي ليست كافية لامتصاص ولو جزء من النقمة الشعبية المتفاقمة.
في هذا الصدد أظهرت دراسة نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (CSIS) أن الإجراءات العقابية ضد طهران مست السكان بشكل كبير، وكانت وراء اندلاع العديد من المظاهرات الشعبية. فقد أحصى خبراء هذا المركز أزيد من 4200 مظاهرة جماهيرية في إيران بين سنتي 2018 و2020. أغلبها حصل على خلفية مطالب اجتماعية ومعيشية، وحركتها انشغالات ذات طبيعة مهنية ونقابية، ناجمة إما عن عدم دفع الرواتب في العديد من القطاعات، أو عن إغلاق مجموعة كبيرة من المؤسسات الصناعية، ناهيك عن تراجع قيمة العملة المحلية الذي رافقه ارتفاع مهول في نسبة التضخم.
ورغم ما أبدته إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن من مرونة في التعامل مع الملف النووي الإيراني، وتركيزها على إيجاد حل دبلوماسي مقبول له، فإنها لم تبد ما يشير إلى تخليها عن الاستراتيجية الموضوعة من طرف الإدارة السابقة المسماة الضغوط القصوى الهادفة إلى تأجيج التناقضات الداخلية في إيران بغية إضعاف النظام الثيوقراطي، لكي ينصاع في البداية إلى إبرام اتفاق يضفي شفافية أكبر على برنامجه النووي، ويحد بشكل واسع من قدراته الباليستية ؛ ثم لزعزعة أركانه فيما بعد إذا لم تتيسر عملية انهياره.
ولا شك أن النظام الإيراني يعي جيدا ما يخطط له، ولكن بدلا من الانكباب على معالجة أسباب التدهور الاقتصادي المريع، والسعي إلى رفع العقوبات الدولية المتعددة المفروضة على البلاد، ولو بشكل جزئي وانتقائي من خلال إبداء نوع من المرونة في المفاوضات الجارية حول البرنامج النووي، وبث رسائل تهدئة وطمأنينة لدول الجوار، يواصل هذا النظام التخندق في مواقفه المتعنتة في مفاوضات فيينا، ونهج سياسة خارجية هدفها الأسمى هو إثبات القوة وتوسيع النفوذ.
وبما أن هدفا كهذا لا يمكن الإعلان عنه رسميا نظرا لطبيعته الاستفزازية والعدائية لمعظم دول الجوار، فإن الدبلوماسية الإيرانية والآلة الإعلامية المواكبة لها عملت على تدثيره بأسمال دينية ظاهرها نصرة من يسميهم المستضعفين أملا في استدرار تضامن الشعوب العربية والإسلامية، ورافعتها شعارات جوفاء تدعي السعي إلى تحرير الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها فلسطين، ومواجهة من ينعتهم بالاستكبار العالمي الصهيوني بغية إحراج الأنظمة العربية المعتدلة بالتركيز على ما يروجه عنها من عجز في القيام بواجباتها القومية.
غير أن تطورات الأحداث ومستجداتها في مختلف ساحات التماس المباشر مع إسرائيل تبين دوما أن ما تدعيه طهران عن سعيها لمواجهة شاملة مع الدولة العبرية مجرد ادعاءات باطلة، إذ بدت هي وكل الميليشيات التي تدور في فلكها أو تأتمر بأمرها عاجزة عن إيذاء هذه الأخيرة أو ردعها عن مواصلة القيام بعمليات استخباراتية نوعية ضد أدمغة إيرانية، وعن شن هجمات سيبرانية على مختلف المنظومة المعلوماتية للمنشآت النووية الإيرانية، وكذا عن القيام بغارات جوية مكثفة وموجعة على أماكن تجمع الميليشيات الموالية للمرشد الأعلى، ومخازن أسلحتها فوق الأراضي السورية والعراقية أيضا.
واللافت للانتباه أنه في مقابل هذا العجز عن القيام بمواجهة صريحة للدولة العبرية أو حتى إزعاجها بعمليات فولكلورية تعمد طهران للرد على أي تحرك غربي ضدها باستهداف دول عربية مجاورة لها. وكالعادة لا تلجأ إلى ذلك مباشرة، وإنما من خلال تحريك أذرعها الإرهابية الإقليمية، مثلما حصل بعد احتجاز بريطانيا لناقلة نفط إيرانية في جبل طارق سنة 2019. إذ ظهرت عدة دلائل تؤكد أن طهران هي من أوعزت وسلحت حركة أنصار الله الحوثية لمهاجمة منشآت أرامكو النفطية السعودية في منطقتي أبقيق وهجرة خريص.
والواضح أن الذراع الحوثية باتت الأكثر استخداما في الآونة الأخيرة، نظرا لاتساع مساحة اليمن المتاحة للتحرك أمامها، ولأن سيف تصنيفها حركة إرهابية لم يعد مسلطا عليها. وهذا ما عكسه بوضوح الهجوم الإرهابي الحوثي مؤخرا على منشآت نفطية ومؤسسات مدنية في أبوظبي، الذي لم يكن ليحصل لولا وجود ضوء أخضر إيراني. وغير خاف على أحد، أن هذا الهجوم وما تلاه يحمل رسائل متعددة إلى كل من يعنيه مستقبل المنطقة من دولها والدول ذات المصالح الكبرى فيها. وفحوى هذه الرسائل أن استثمارات إيران السياسية والعسكرية والشحن الطائفي الذي غذته في المنطقة على مدى أربعين سنة لن يذهب سدى. فهي ليست عاجزة، وإنما على العكس قادرة على إحداث تحول نوعي واستراتيجي في صراعات النفوذ الجارية على أكثر من ساحة؛ وذلك من خلال توسيع دائرة المواجهة وإزعاج أكثر من جهة، وأنها لن تدفع وحدها فاتورة أي تشدد معها في مفاوضات فيينا.