صارت الكتابة عن سعد الحريري أمرا شاقا على من يؤيده أو من يخاصمه. الشقاء على المؤيدين سببه أن الرجل قدم توصيفا سياسيا من دون أن يكون له قدرة تقديم الطريق إلى الحل. أما المشقة على من يعاديه فتتمثل بكونهم أصبحوا أمام معضلة أوجدوها هم: دويلة تتحكم في دولة. وهذا ما يفعله بالضبط حزب الله مستندا إلى مد خارجي أساسه بالتعريف ثورة دينية شيعية بطبعة خمينية صافية.
مقابل هذا وذاك يبقى الحراك السياسي الداخلي دون جدوى ويبعث على الملل كونه فشل في تقديم جديد في السياسة.
ولكن حدثا مثل انكفاء أو اعتزال سعد الحريري يفرض نفسه على أي مقال خاصة أن بعض ما سيكتب أو يقال، إن لم يكن أكثريته، سيكون بعيدا عن المنطق لسبب بسيط وهو أن البلد كله، وأكاد أقول منذ نشأته، يعيش في عالم افتراضي يتنكر دائما لواقعه وينسب لنفسه تشبيهات لا تمت له بصلة مثل كونه سويسرا أو باريس الشرق.
أن يعود الحريري عن اعتكافه أو اعتزاله ليس هو المهّم هنا.
في الصورة ظهر الرجل في مؤتمره الصحافي من بيته في الوسط التجاري وخلفه صورة عملاقة لرفيق الحريري. هذا الغائب الحاضر والذي لا يمكن فهم حالتنا اليوم من دون الرجوع إليه ويصادف بعد بضعة أسابيع ذكرى اغتياله الـ17 وهو عمر سعد الحريري السياسي.
لم يستطع سعد الحريري بناء شخصية سياسية له من خارج عباءة والده لأنه هو سبب دخوله المعترك السياسي ليس من باب الوراثة السياسية فقط إنما من باب إدارة مشروع كبير ذي تشعبات كثيرة كان يمثله.
تكلم الحريري الابن عن مشروع والده ولكنه لم يصفه وصفا دقيقا. رفيق الحريري لم يأت إلى الحكم ليردع الحرب الأهلية في لبنان فهي كانت أصبحت من الماضي عندما صار رئيس وزراء.
الحريري الأب جاء إلى الحكم وتصدر المشهد السياسي مع اتفاق الطائف (من خلف الكواليس وبعده، حضور طاغ)، على خلفية السلام الآتي إلى المنطقة بين إسرائيل والدول العربية وتحديدا سوريا ولبنان ملحقا. فكان من المتوقع أن يلعب لبنان دورا محوريا ذا فرص استثمارية واقتصادية هائلة تمتد من بيروت لتصل إلى سيناء. ولكن ليتمكن البلد من لعب هذا الدور بعد حرب أهلية أنهكته كان بحاجة لرجل استثنائي هو رفيق الحريري لينهض به.
مشروع الحريري الأب الأساسي كان إعداده لزمن السلام الآتي (من تطوير البنى التحتية على أشكالها وتطوير قطاع الاتصالات... إلخ). لم يكتب لهذا المشروع النجاح لأنه اصطدم بعقبتين: حافظ الأسد الذي لم يكن يوما مهتما بالسلام مع إسرائيل إنما بمسار عملية السلام التي أمنت له مكتسبات عززت موقعه في المنطقة والداخل السوري خاصة مع انفراط الاتحاد السوفياتي وبروز أميركا كقائدة وحيدة للعالم من دون أن يوقع. فالأسد كان على علم بأنه لا يملك الشرعية الدينية وبالتالي الشعبية لتوقيع السلام مع قضية يعتبرها أكثرية العرب قضية دينية.
العقبة الثانية كانت إيرانية، التي أسست سياستها الخارجية على غطاء تحرير القدس وإزالة إسرائيل من الوجود ليتثني لها العمل على مشروع إقليمي يتمثل في تحقيق الهلال الشيعي من إيران وصولا إلى العراق فسوريا ولينان. في لبنان كان هذا دور حزب الله وما بدا على أنه مشروع لتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي ظهر على أنه أكبر من ذلك بكثير. مشروع مكتمل، له مؤسساته الاجتماعية وجيشه وإعلامه ومدارسه واستراتيجيته، يتفوق على الدولة نفسها التي هضمها فعليا عند «تحرير الجنوب» عام 2000 وهي نقطة تحول وانتصار لحلف الممانعة أو المواجهة، حلف لا ينتمي له الحريري الأب، بل هو على نقيض له بغض النظر عن مشاعره القومية العربية من الصراع مع إسرائيل.
هل كان بالإمكان التعايش بين هانوي وهونغ كونغ بالعودة إلى طرح جنبلاط الشهير؟ طبعا الجواب كان سلبيا لمن له سلطة الجواب عام 2005 باغتيال الحريري.
من هنا كانت مهّمة سعد الحريري غداة اغتيال والده في إدارة هذا التناقض، هي مهّمة مستحيلة. وهو خرج أو أخرج من المشهد السياسي على وقع انتصار إيران ليس فقط في لبنان إنما في الإقليم والعالم أيضا.
ماذا بعد الاعتكاف؟
سيقال إن حزب الله في أزمة جراء فقدانه الغطاء السني والمسيحي. ولكن بات من نافل القول إن حزب الله لا يحتاج إلى أي غطاء في عمله الحربي- السياسي. فهو لم يكن محتاجا إلى غطاء عندما اندفع إلى قتل السوريين دفاعا عن الأسد والخط الاستراتيجي الذي رسمته إيران، وهو لن يكون بحاجة إلى غطاء لمهاجمة السعودية ودول الخليج هو أمر واقع فرضه على حلفائه وأخصامه وتركهم في حيرة التعامل معه، وهو لم يكن بحاجة إلى غطاء لفتح مخيمات التدريب في لبنان على القتال واستعمال المسيرات والصواريخ الباليستية للحوثيين أو للذهاب لليمن لتقديم المشورة... هو لم يكن بحاجة لأي غطاء لإنشاء معامل للصواريخ الدقيقة في البقاع، هو لم يذهب إلى 7 أيار بغطاء. إذن قضية الغطاء ومنطقها ساقط لأن ما قام به حزب الله كان بأمر من مرجعيته الإيرانية التي لا تعترف بغطاء إلا الذي يأتيها من «المهدي المنتظر».
كذلك سيقال إن هناك خطر تحول أهل السنة في لبنان إلى داعش وهذا خطأ، فالأرقام التي تشير إلى التحاق بعض شباب الطائفة بهذا التنظيم هزيلة رغم الضائقة الاقتصادية التي يمر بها الشعب اللبناني، والإغراء الذي يمثله المعاش المدفوع من قبل هذا التنظيم لأعضائه بالدولار «الفريش».
مواجهة حزب الله أصبحت أمرا تعجيزيا إن لم يكن مستحيلا اليوم، خاصة ضمن الواقع اللبناني المذهبي المفتت، ومن يقول للخارج إن تغيير الأكثرية البرلمانية في الانتخابات القادمة هو مقدمة لتغيير المعادلة في لبنان، إما خبيث أو مجنون. هناك واقع اليوم يتمثل في انتصار محور الممانعة، وبالتالي انعدام وجود أي عائق يمنعه من متابعة فرض سيطرته على البلد ومفاصله. هل هذا يعني أن وجه لبنان سيتغير؟ حتما تغير منذ أن تقدم الزمن الإيراني وبقبول إقليمي ودولي ضمني.. مركز القرار أصبح اليوم بيد الشيعة أو الشيعية السياسية بعد أن كان بيد المارونية السياسية والتي لم تحسن إدارة البلد أيام قبل الطائف والحرب الأهلية وتطويره عبر الانتقال به من مزرعة طائفية إلى دولة المواطنة.