بيروت: في لحظة تاريخية لافتة، لم يشهد مثلها اللبنانيون من قبل، أعلن رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري تعليق عمله السياسي، وعزوفه عن الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة، لاقتناعه بأن «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني» بحسب ما أعلن في بيانه الصحافي.
قرار الحريري الذي كان له وقع مؤثر عليه وعلى مؤيديه، برّره الحريري بأنّه نابع من عدم نجاحه في استكمال مشروع رفيق الحريري في تأمين حياة أفضل للبنانيين، مقابل نجاحه في منع الحرب الأهلية طوال 17 عاما من دخوله المعترك السياسي.
فالطريق الذي سار فيه الحريري منذ وقوع الاختيار عليه لاستكمال مشروع والده الشهيد رفيق الحريري عام 2005. كان معبدا بالعقبات والمحن والتحديات، والإخفاقات أحيانا والنجاح أحيانا أخرى، ولكن أبرز ما استطاع الحريري تكريسه خلال فترة حكمه هو الحفاظ على السلم الأهلي وإرساء نهج الاعتدال في وقت كان منسوب الطائفية والمذهبية والاقتتال يتأجج في المنطقة المحيطة بلبنان. فاستطاع إطفاء فتائل الفتن التي أشعلت في لحظات مفصلية من تاريخ البلاد، خصوصا في السابع من مايو (أيار) من عام 2008 عندما اجتاحت عناصر تنظيم حزب الله بيروت ومناطق من الجبل فكان هذا الحدث من أخطر الأحداث الأمنية التي أعادت البلاد إلى شبح الحرب الأهلية، فاستطاع الحريري حينها حقن الدماء، بهدوء وحكمة معلنا أنّ «حزب الله فقد صوابه... أما ارتكاب أي خطأ من جانبنا فأمر لا يجوز لأنه يقود إلى حرب أهلية. المهمّ أنني أرفض تحمّل مسؤولية نقطة دم واحدة».
المسار الذي اختاره الحريري والذي استكمل من خلاله مسار والده، فرض عليه السير بتسويات، من احتواء تداعيات 7 مايو إلى اتفاق الدوحة إلى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون إلى قانون الانتخابات، وغيرها. بحسب ما قال، ولكن نتائج هذه التسويات نتائجها أتت من رصيد الحريري وحده، حيث أكّد أنّ هذا المسار كان سببا في خسارته «ثروته الشخصية، بعض صداقاتي الخارجية والكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الإخوة».
وتابع: «هذه التسويات، التي أتت على حسابي، قد تكون السبب في عدم اكتمال النجاح للوصول لحياة أفضل للبنانيين. والتاريخ سيحكم. لكن الأساس، أن الهدف كان وسيبقى دائما تخطي العقبات للوصول إلى لبنان منيع في وجه الحرب الأهلية، ويوفر حياة أفضل لكل اللبنانيين».
«التعليق» لا يعني اعتزال السياسة
الكاتب والمحلل السياسي محمد نمر أكّد في حديث لـ«المجلة» أنّ «خطوة الرئيس الحريري حزينة ولكنها في الوقت نفسه مقنعة، هذا الرجل يمتلك الكثير من الشجاعة ليعلن سابقا رغم المعارضة التي واجهها خصوصا من حزب الله استقالة حكومته بعد ثورة 17 تشرين وهو امتلك الشجاعة أيضا بأن يعتذر عن تكليف بعض رفض القوى السياسية صيغة جديدة للحكومة، وهو اليوم أعلن العزوف عن الترشح وتعليق عمله السياسي التقليدي، والتعليق يؤكد أن الرئيس الحريري، أنّه لن يعتزل السياسة، بل سيعود إلى المواطنين في ظل الأزمة والمحن التي يمرون بها، وتيار المستقبل مستمر وباق مع جمهوره.
الرئيس الحريري لم يعتزل السياسة بل هو مستمر في العمل ولكن ليس بالطريقة التقليدية القائمة على المشاركة في مجلس وزراء أو مجلس نواب، والمحاصصة والتسويات التي اعتادتها القوى السياسية، بل عبر العودة إلى الناس وإلى الجذور وإلى بدايات الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبالتالي الوقوف إلى جانب اللبنانيين في محنهم».
ولكن لماذا اختار الحريري اتخاذ هذه الخطوة؟ يقول نمر: «الرئيس الحريري بتعليقه عمله السياسي، وضع الأصبع على الجرح بأن هذا البلد بات محكوما من النظام الإيراني وأدواته، فهو لم يسم ميشال عون ولا حزب الله في خطابه لأنّهما من أدوات إيران التي حولت لبنان إلى صندوق بريد لمصلحتها، وضربت علاقاته مع الدول العربية والمجتمع الدولي وخربت لبنان وأوصلتنا إلى جهنم.
وهناك رسالة واضحة أيضا أرادها الحريري عندما ترك الساحة لمن كان يزايد عليه خلال الفترة الماضية، فهو يقول لهم: الآن الساحة لكم، خذوا المناصب والأكثرية النيابية وخوضوا معارككم الوهمية المبنية على عدد نواب من هنا وعدد تعيينات من هناك، ونحن بانتظاركم كيف ستواجهون سيطرة حزب الله، وتنزعون سلاحه».
وأكّد نمر أن «الرئيس الحريري هو الوحيد الذي دفع ثمنا نتيجة مواجهته حزب الله، وتحديدا بين عامي 2005 و2011 بسقوط دماء رفاقه من الشهيد وسام الحسن والشهيد محمد شطح ووليد عيدو ووسام عيد وغيرهم من شهداء 14 آذار، والعدو الأول لحزب الله كان الرئيس سعد الحريري بخلاف ما كان يحاول البعض ترويجه ممن اختاروا سياسة المزايدة والطعن بسعد الحريري دون أن يدفعوا أي ثمن لمواجهة الحزب وينظّرون علينا اليوم من أبراج عالية».
وعن الأخبار التي تمّ تداولها بأنّ قرار الحريري أتى بإيعاز خارجي قال: «ترويج مثل هذا الأخبار محاولة مضحكة وفاشلة بطلها حزب الله، فقرارات الرئيس الحريري اتخذها وحده من استقالته من الحكومة وعند اعتذاره عن تشكيل الحكومة وعند تعليقه العمل السياسي التقليدي بالبلد، وأسباب هذا القرار واضحة أولها داخلي يرتبط بالطبقة السياسية التي ترفض إنقاذ هذا البلد، والتي استخدم معهم الحريري كل الأساليب السياسية من المواجهة إلى التسويات إلى اليد الممدودة ولكن هذه القوى بمكان آخر، وهي لا تستحق أن يستمر الحريري في تضحياته للعمل معهم.
والنقطة الثانية تنطلق من صراع خارجي بين الدول، فلبنان متروك كما تركت سوريا. نصف مليون سوري وغالبيتهم سنة سقطوا جراء جرائم الأسد وبراميله.. ماذا فعل المجتمع الدولي أليست إيران اليوم تسيطر على دمشق؟ لماذا لم تتم معاقبة الأسد؟ لقد تم أهمال السوريين وسوريا وتم إهمال اللبنانيين ولبنان».
أمّا السؤال الأكثر تداولا بعد عزوف الحريري وتيار المستقبل عن المشاركة في الانتخابات النيابية هو كيف ستكون توجهات الشارع السني في لبنان، خصوصا أنّ تيار المستقبل هو الأكثر تمثيلا في الشارع السني، وسعد الحريري يعتبر الزعيم السني الأول منذ عام 2005، وفي هذا السياق يؤكد نمر أنّ «سعد الحريري هو رجل وطني، وجمهوره من كل الطوائف، وهذا الجمهور لا يباع ولا يشترى ولا يتم تجييره، ولكن في الوقت نفسه تيار المستقبل حريص على الديمقراطية والاستحقاقات الدستورية، الجو العام حاليا من مؤيدي التيار يؤكّد أنّ هذا الشارع سيتجه إلى الانكفاء عن المشاركة، لكنها قراءة أولية لأن هناك أشهرا على الانتخابات والأسابيع المقبلة كفيلة بإيضاح الصورة أكثر».
ولكن ماذا عن التوجسات التي حاول البعض الترويج لها بأنّ الشارع السني سيذهب نحو التطرف بعد تعليق الحريري عمله السياسي؟ يقول نمر: «المدرسة الحريرية، استطاعت أن تبني قاعدة ثابتة من الاعتدال لا يستطيع أي كان أن يهزها، السنة في هذا البلد شركاء مع باقي اللبنانيين مهما كانت طوائفهم، لذلك السنة لن يتجهوا إلى التطرف وفي الوقت نفسه بعض المتطرفين السياسيين سيحاولون استقطاب بعض الأصوات للوصول إلى البرلمان ولكن غالبية الحريريين على وعي كامل بتحديد خياراتهم في الانتخابات ومواجهة أي فكر متطرف».
«الحريرية الوطنية» بين الابن وأبيه
لم يرث سعد الحريري عن والده الزعامة السياسية وحسب، فرفيق الحريري الذي عمل طوال مسيرته السياسية على نبذ الطائفية والتطرف، ورفض المذهبية، بنى مدرسة وطنية سار عليها الابن، الأب الذي اشتهر بمقولة «المسيحي المعتدل أقرب إليّ من المسلم المتطرف» في وقت كان يلملم فيه لبنان جراح الحرب الأهلية، عامل رفيق الحريري المواطنين دون أن يفرق بين مذهبهم أو طائفتهم، فمؤسسات الحريري علّمت أكثر من 36 ألف طالب من كل الطوائف والمناطق اللبنانية خارج البلاد وأكثر من 120 ألف منحة داخل البلاد. وقاد رفيق الحريري مسيرة الإعمار في البلاد وكسر الحواجز والمتاريس التي رفعت في الحرب الأهلية من قبل ميليشيات وأمراء الحرب، بنى الحجر واهتم بالبشر، ساعد الكبير والصغير، أعاد ثقة المستثمرين إلى لبنان، الذي عاش انتعاشا استثنائيا خلال زمن رفيق الحريري رغم وجود الكثير من العقبات وأبرزها الوصاية السورية.
فاللبنانيون اليوم يتذكرون رفيق الحريري «كفاعل خير» أزال عن بلدهم آثار الحروب، وقاد مسيرة إعادة الإعمار، من المدارس والجامعات والمستشفيات والطرقات والمطار والمدينة الرياضية، ووسط بيروت... وبعد غيابه لم تستطع أي شخصية القيام بذلك.
أمّا الحريري الابن فقد بدأ حياته السياسية عام 2005 إثر الزلزال الكبير الذي هزّ بيروت باغتيال والده، لم ينجح كما رفيق بقيادة مسيرة الإعمار والتطور وتأمين حياة أفضل للبنانيين، كما قال في مؤتمره، رغم محاولاته الكثيرة، إلا أنّ الأحداث التي شهدتها البلاد كانت كفيلة بإفشال أي مخطط للتطوير والتقدم، من حرب تموز، إلى أحداث 7 أيار، إلى سلسلة عمليات الاغتيال التي طالت شخصيات محسوبة على ثورة 14 آذار، وطبعا مسار التعطيل التي نجح فيها الفريق الموالي لحزب الله حتى تاريخنا هذا، إضافة إلى فرض حزب الله إملاءات إيران بقوة السلاح... ولكن رغم كلّ هذه الظروف استطاع سعد الحريري استكمال مسيرة والده، بتقديم المساعدات والأعمال الخيرية والمشاريع التنموية والصحية وبناء المدراس والجامعات في عدد من المناطق اللبنانية.
17 عاما من العمل السياسي
دخل الحريري الابن الذي ولد عام 1970 في العاصمة السعودية الرياض، العمل السياسي، بعد اغتيال والده في 14 فبراير (شباط) عام 2005، أتى من عالم إدارة الأعمال إلى السياسة في بلد ترسم فيها السياسة من قبل «مجرمين».
تخرج في جامعة جورج تاون في واشنطن، وحاز منها شهادة في إدارة الأعمال الدولية عام 1992.
بعد دخوله العمل السياسي، قاد الحريري فريق «قوى 14 آذار» واستطاع تحقيق فوز كبير في البرلمان وترأس أكبر كتلة برلمانية ضمت 35 نائبا من أصل 128 مقعدا، وساهم هذا الفوز في إخراج الجيش السوري من لبنان بعد نحو ثلاثين سنة من الوصاية.
وفي عام 2007 أسس الحريري تيار المستقبل الذي ينتشر مؤيدوه في غالبية المحافظات اللبنانية.
في يونيو (حزيران) عام 2009 حقق الحريري فوزا ثانيا في الانتخابات التشريعية، وحصل مع حلفائه على 71 مقعدا، وبذلك تولى منصب رئاسة الوزراء لأول مرة في مسيرته السياسية ما بين 2009 وعام 2011. انتهت بإسقاطها من قبل التيار الوطني الحرّ وحزب الله.
وكان السبب الرئيسي لسقوط حكومة الحريري آنذاك هو قرار حزب الله سحب وزرائه منها على خلفية الجدل السياسي في البلاد، بخصوص المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تنظر في قضية اغتيال رفيق الحريري.
تعرّض الحريري لتهديد أمني دفعه إلى مغادرة البلاد فعاش متنقلا بين باريس والرياض بعد نصائح تلقاها بعد عودته إلى البلاد.
وبعد غياب 3 سنوات عاد الحريري إلى بيروت، حاملا في جعبته هدفا أساسيا وهو محاولة احتواء الشحن المذهبي بين السنة والعلويين في طرابلس كما بين الشيعة والسنة نتيجة تدخل حزب الله في سوريا، خصوصا في ظل البوادر المقلقة التي انتشرت حينها بإثارة النعرات الطائفية ومحاولة جرّ سنة لبنان بعيدا عن الدولة.
إذا ترأس الحريري ثلاث حكومات منذ العام 2009. وقدّم استقالة حكومته الثالثة بعد نحو أسبوعين من بدء التحركات الشعبية المناهضة للطبقة السياسية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وكان المسؤول الوحيد الذي استجاب لطلب المحتجين في الطرقات.
أعيدت تسمية الحريري مجددا في 22 أكتوبر 2020 لتأليف الحكومة، لإتمام مهمته على وقع إصرار حزب الله ورئيس الجمهورية على مبدأ المحاصصة في حين كان يريد الحريري تشكيل حكومة من اختصاصيين بعيدة عن المحاصصة تساعد في وقف الانهيار الذي تمر به البلاد.
في الانتخابات الأخيرة عام 2018 التي كرّست نفوذ حزب الله، تراجع حجم كتلة الحريري النيابية بنحو الثلث، وأعاد البعض انخفاض شعبيته إلى التسويات السياسية التي قدمها للحفاظ على السلم الأهلي.
والآن بعد 17 عاما من العمل السياسي علّق الحريري عمله السياسي خاتما كلمته بدموع، وعبارة ختم بها والده رفيق الحريري بيانا أصدره في 20 أكتوبر 2004. بعد عزوفه عن تشكيل حكومة حينها، قال فيها «أستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب».