واشنطن: أقيمت أول صلاة جمعة في طهران في عهد الجمهورية الإسلامية بإمامة آية الله طالقاني يوم 27 يوليو (تموز) 1979 بأمر من الخميني بعد بضعة أشهر من قيام الثورة، حيث أراد مؤسس الجمهورية الإسلامية أن تصبح خطب الجمعة منصة شاملة تغطي كل أنحاء البلاد وتروج لسياسات نظام ولاية الفقيه الجديد. وتأسست «الأمانة الدائمة لأئمة الجمعة والجماعات في أنحاء البلاد» في عهد الخميني في مدينة قم يوم 20 أغسطس (آب) 1984. وقد أصدر علي خامنئي حكما بتعيين أعضاء مجلس الأمانة الدائمة لأئمة الجمعة والجماعات وأعضاء المجلس التنفيذي له في 27 يناير (كانون الثاني) 1990 وذلك بعد أن أصبح مرشدا للجمهورية الإسلامية خلفا للخميني.
وأصدر خامنئي حكما بتغيير اسم «الأمانة الدائمة لأئمة الجمعة والجماعات» في «مجلس وضع سياسات أئمة الجمعة» في 13 مارس (آذار) 1993 كما قام خامنئي بتعيين الأعضاء الجدد في المجلس التنفيذي. وتم تعيين أعضاء «مجلس وضع سياسات أئمة الجمعة» لمدة تتراوح بين 3 سنوات و5 سنوات حسب الحكم الصادر من خامنئي.
وتذهب حصص سنوية هائلة من ميزانية الدولة إلى «مجلس وضع سياسات أئمة الجمعة» و«هيئة إقامة الصلاة». وأفادت وكالة الأنباء الطلابية (إيسنا) بأن الحكومة صادقت على ميزانية بمقدار 210 آلاف مليون ريال لهيئة إقامة الصلاة وميزانية بمقدار 353 مليون ريال لمجلس وضع سياسات أئمة الجمعة لعام 2021.
يعتبر آية الله عبد الحميد المعصومي طهراني المثقف الديني ومنتقد نظرية ولاية الفقيه المطلقة من المرجعيات الدينية الإيرانية الذين يعترفون رسميا بحقوق الإنسان وحرية التعبير لكل المعتقدات الدينية.
خطب الجمعة فاقدة للتأثير الحقيقي
قال آية الله معصومي طهراني المقيم في طهران في حوار مع «المجلة»: «يقوم مجلس وضع سياسات أئمة الجمعة بوضع الأطر السياسية لخطب الجمعة ويسلمها لأئمة الجمعة قبل إقامة الخطبة حيث على الخطباء الالتزام بها ولذلك نلاحظ أن القضايا المطروحة في خطب الجمعة في البلاد تتشابه نوعا ما وتتمحور في إطار واحد».
وتابع هذا المثقف الديني الذي عرف طعم الاعتقال المرير والتعامل الخشن للأجهزة الأمنية والمحاكم الخاصة برجال الدين قائلا: «تبث منصات خطب الجمعة خطاب السلطة فخطباء الجمعة ملزمون بما تمليه عليهم السلطة الحاكمة وأصبحوا يروجون لسياسات السلطة. إن خطب الجمعة في البلاد فاقدة للتأثير الحقيقي على أرض الواقع لأن ما يتم ترويجه على هذه المنصات يتكرر في الإعلام الحكومي على غرار الإذاعات والقنوات التلفزيونية».
وأضاف آية الله المعصومي طهراني الذي تعرض لقيود وضغوط كثيرة من قبل السلطة الحاكمة «يتقاضى أئمة الجمعة وكل منظومة صلاة الجمعة وتوابعها رواتبهم من الحكومة».
وأشار آية الله المعصومي طهراني إلى آية الله محمود طالقاني رجل الدين البارز وصاحب النفوذ الكبير في الحوزة الدينية والذي أقيمت أول صلاة جمعة في طهران بعد قيام الثورة بإمامته وعرف أيضا بمعارضته لفرض الحجاب ولمبدأ ولاية الفقيه قائلا: «كان طالقاني شخصية ديمقراطية علمانية عارض بشدة مبدأ ولاية الفقيه في مجلس الخبراء بعد قيام الثورة. كانت هناك شخصیات تابعة لجماعات ثورية أخرى على غرار حزب توده (تعني كلمة توده بالعربية الجماهير) في مجلس الخبراء تعاطفت مع مبدأ ولاية الفقيه. لو كان طالقاني حيا لم يكن ليسمح بأن يقر مجلس الخبراء مبدأ ولاية الفقيه. أصبح المرحوم منتظري خطيب جمعة طهران بعد وفاة طالقاني ولكن منتظري أبلغ الخميني بأن يعين خامنئي خطيب جمعة طهران. وهذا ما فعله الخميني. لقد أرسل الشيخ علي طهراني زوج أخت خامنئي رسالة إلى الخميني آنذاك انتقد فيها بشدة تعيين خامنئي خطيبا لصلاة الجمعة قائلا: «أعرفه (خامنئي) جيدا وأعرف أنه لا يملك الشروط العلمية والفقهية والأخلاقية اللازمة لأن يكون إمام الجمعة». ونشرت الصحف آنذاك هذه الرسالة الاحتجاجية واعتبرت أن طهراني كان يحسد خامنئي لتوليه خطبة جمعة طهران ولذلك بعث الرسالة إلى آية الله الخميني. والحقيقة أن طهراني لم يكن يرغب في تولي ذلك المنصب».
إقصاء رجال الدين المتنورين
وأشار هذا المثقف الديني الإيراني في حواره مع «المجلة» إلى إقصاء رجال الدين المنتقدين ومعتقداتهم الفكرية قائلا: «يوجد الكثير من علماء الدين المثقفين والمعروفين والمتنورين في قم ولكنهم جميعا انسحبوا من الساحة السياسية وخطبة الجمعة أو تم إقصاؤهم من تولي إمامة الجمعة لأن هؤلاء العلماء الكبار لا يرغبون في تكرار الخطاب الذي تمليه عليهم السلطات في صلاة الجمعة».
وقام النظام الإيراني خلال السنوات التي تلت قيام الثورة الإسلامية بإقصاء العديد من المراجع ورجال الدين أو وضعتهم قيد الإقامة الجبرية وشنت عليهم حملة إعلامية شعواء حتى وصل الأمر إلى سحب شروط المرجعية منهم على غرار السيد كاظم شريعتمداري والشيخ محمد طاهر خاقاني والسيد حسن طباطبائي القمي والسيد محمد وصادق روحاني والسيد صادق شيرازي خلال السنوات التي تلت قيام الثورة وذلك بسبب انتقادهم ومعارضتهم لسياسات السلطة الحاكمة.
وقال آية الله معصومي طهراني: «يقوم مكتب المرشد بتعيين أئمة الجمعة. إذا دخل أي أحد إلى هذه العصابة التي لديها فروع في كل مدينة وبلدة يمكن له أن يصبح خطيب جمعة مدينته أو بلدته. الأمر لا يتعلق كثيرا بالعلاقات العائلية بين أركان السلطة الحاكمة بل المهم هو الانتماء إلى منظومة اسمها بيت المرشد، فمن لحق بهذه المنظومة يمكنه الحصول على منصب خطيب الجمعة. إذا كنت رجل دين مثقفا ولكنك لم تنضم إلى مؤسسة بيت المرشد وحواشيه فلا يمكنك المشاركة في خطبة الجمعة».
وتابع: «إن تصريحات بعض خطباء الجمعة تثير الضحك فعلى سبيل المثال قال خطيب جمعة شيراز (لطف الله دجكام) إن أساس العلاقات بين إيران والصين موجودة في القرآن. فتصريحات هذا الشخص أو أمثاله تنم عن تصورهم العقلي، غير أنهم من خلال طرح هذه المواضيع لم يصونوا الدين والمذهب ومكانة علماء الدين ويساعدوا في ترويج التهرب من الدين في المجتمع».
وأشار آية الله معصومي طهراني إلى إقصاء علماء دين على غرار لطف الله صافي كلبايكائي الذي قدم استقالته بعد أن كان أمينا عاما لمجلس صيانة الدستور لمدة 8 سنوات. وانتقد صافي كلبايكاني خلال لقاء مع رئيس مجلس الشورى في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 السياسة الخارجية للنظام قائلا: «قطع العلاقات بيننا وبين العديد من دول العالم غير صائب». وقال آية الله معصومي طهراني إن «تصريحات كلبايكاني قوبلت بحملة انتقادات حادة في وسائل الإعلام التابعة للتيار المتشدد».
ساحات صلاة الجمعة فارغة
لم يستخدم خطباء الجمعة في إيران خلال السنوات الأخيرة هذه المنصة للدفاع عن المحتجين باستثناء واحد أو اثنين منهم على غرار خطيب جمعة أصفهان السيد جلال الدين طاهري الذي بعث فيها برسالة مفتوحة إلى المرشد في 2002 أعلن فيها عن استقالته من منصبه احتجاجا على طريقة تعامل السلطات مع المنتقدين خاصة حسين علي منتظري الذي كان قيد الإقامة الجبرية.
وقامت السلطة الحاكمة بإقصاء أكبر هاشمي رفسنجاني نائب رئيس مجلس الخبراء آنذاك والرئيس السابق لمجلس تشخيص مصلحة النظام من خطبة جمعة طهران بعد 8 أسابيع من الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في 2009 وذلك بعد أن أعرب رفسنجاني عن دعمه للمحتجين على نتيجة الانتخابات الرئاسية خلال خطبة الجمعة في 17 یولیو 2009. وشهدت تلك الخطبة مواجهات بين قوات الأمن والمحتجين. وانتقد سعيد حسيني لواساني في خطبة جمعة بمنطقة لواسان في سبتمبر (أيلول) 2021 عمليات الاستيلاء على الأراضي وبناء مدينة «كلاك» الفاخرة وعدم المساواة ولقد تم إقصاؤه من خطبة جمعة لواسان بسبب هذه الانتقادات.
وتزايد نفوذ أئمة الجمعة وإمكانياتهم وثرواتهم في المدن الإيرانية خلال الأعوام الأخيرة، حيث أوردت تقارير غير رسمية أن عددا من أئمة الجمعة في البلاد تم إقصاؤهم من مناصبهم بسبب شبهات الفساد المالي أو التورط في صفقات مالية كبيرة ونشاطات اقتصادية غير قانونية.
وأفاد تقرير نشر على الموقع الإلكتروني لـ«مجلس وضع سياسات أئمة الجمعة» بأن صلاة الجمعة تقام في أكثر من 880 منطقة في البلاد تشهد انخفاض الإقبال على خطب الجمعة وهذا أمر يؤكده عدد من خطباء الجمعة ورجال الدين المتشددين.
وقبيل الذكرى السنوية الأربعين لإقامة أول صلاة جمعة في طهران في عهد الجمهورية الإسلامية بإمامة آية الله طالقاني في 27 يوليو 1979 أشار رجل الدين المتشدد وأحد خطباء الجمعة في طهران أحمد خاتمي في 26 يوليو 2019: «يجب على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية دعم صلاة الجمعة وأن لا تشعر بالفرح بسبب الساحات الفارغة لصلاة الجمعة».
يعتقد معصومي طهراني أن عدم الإقبال الشعبي على صلاة الجمعة واضح للعيان، مؤكدا: «لقد كان الاستقبال الجماهيري لصلاة الجمعة بإمامة المرحوم طالقاني إبان الثورة كبيرا للغاية حيث كان يجري إغلاق كل الشوارع المحيطة بجامعة طهران غير أن الحال تغير بعد سنوات. خصصت السلطات أرضا عشبية مسقوفة لإقامة صلاة الجمعة في طهران واستعانت بالجنود والأسرى العراقيين لملء هذه الساحة ولكنها لم تنجح. ولكن يلزم الإشارة إلى أن هناك فئة من الجماهير ما زالوا يشاركون في صلاة الجمعة بسبب معتقداتهم الدينية ولو كانوا من منتقدي السلطة الحاكمة».