القامشلي: يتخذ النفوذ العسكري الإيراني في سوريا أشكالا ومستوياتٍ مختلفة منذ بداية دخول طهران على خط الأزمة السورية قبل سنوات بهدف دعم قوات رئيس النظام السوري بشار الأسد في مواجهاتها المسلّحة مع الفصائل والمجموعات المعارضة التي تشكلت بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في مختلف مناطق البلاد في مارس (آذار) من العام 2011 والتي طالبت بإسقاط حكم الأسد، وهو ما كان سببا في تشكيل طهران لميليشياتٍ مسلّحة مؤيدة لها ومدعومة منها عسكريا ولوجستيا لمنع إسقاط الأسد وإحكام سيطرته على الأرض، لكن هذه الجماعات المسلّحة باتت اليوم تحتاج إلى ميزانية مالية ضخمة سيما وأن أعداد عناصرها تقدّر بعشرات الآلاف.
وتسيطر هذه الميليشيات على المناطق السورية الحدودية مع العراق بشكلٍ أساسي كما هي الحال في أرياف محافظة دير الزور لا سيما في منطقتي الميادين والبوكمال، إضافة إلى انتشارها في أرياف العاصمة دمشق أيضاً، إلى جانب تواجدها في مناطق تقع في حمص وحلب وحماه ودرعا والسويداء، ولتلك الميليشيات تواجد رمزي في محافظتي الحسكة والرقة وكذلك القنيطرة، ما يعني أنها تتوزع على عموم الجغرافيا السورية.
ومع تزايد أعداد مقاتلي هذه الميليشيات التي تحارب بجانب قوات الأسد منذ سنوات، باتت عمليات التنقيب عن الآثار والإتجار بها إلى جانب تهريبها لخارج سوريا، مصدرا مهما لتأمين التمويل اللازم، بحسب ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من بريطانيا مقرّا له، في أحدث تقريرٍ له.
تنقيب الآثار على أيدي الميليشيات
وأكد رامي عبد الرحمن مدير المرصد لـ«المجلة» أن «هذه الميليشيات تعتمد على تهريب الآثار كمصدرٍ للتمويل بدرجة كبيرة، لكن هذا المصدر ليس الأساس لأن تهريب الممنوعات كالمواد المخدّرة يأتي في مقدمة مصادر التمويل، وبالتالي تهريب الآثار مصدر مهم للتمويل بالنسبة إلى هذه الميليشيات، إلا أنّه ليس الرئيسي والوحيد».
وأضاف أن «الآثار والمواقع الأثرية التاريخية السورية التي نجت من عمليات التنقيب التي نفذت قبل سنوات واستولى عليها تنظيم داعش، لم تسلم من أيدي الميليشيات الموالية لطهران خاصة تلك المنتشرة في محافظة دير الزور، فهي تقوم بسرقة الآثار ومن ثم بيعها كمصدرٍ مهم لتمويل عناصرها».
وتابع في مقابلة هاتفية أن «هناك مواقع أثرية تقع على ضفاف نهري الخابور والفرات، وهي من مئات المعالم الأثرية كالمدن والكهوف والتلال والمقابر التي تمتاز بطابعٍ آرامي وروماني وإسلامي وغيرها من الحضارات، ومع أنها وقعت تحت قبضة تنظيم داعش الذي سرق ونهب منها الكثير، إلا أنها تعرّضت أيضا للإهمال والتخريب الممنهج من قبل قوى أخرى مسيطرة على الأرض كقوات النظام والميليشيات الإيرانية التي تعمّدت في الآونة الأخيرة نهب وسرقة الكثير من المواقع الأثرية بهدف كسب الأموال».
وذكر عبد الرحمن لـ«المجلة»، أسماء أبرز المواقع الأثرية السورية التي تعرضت للتنقيب من قبل الميليشيات المدعومة من طهران، وهي: آثار «بقرص» التي تقع في الريف الشرقي بمحافظة دير الزور وتبعد نحو 40 كيلومتراً، عن مركز المحافظة مثل «تل المرابيط» في «بقرص» القديمة التي يعود تاريخها لما قبل تشكل الإمبراطوريات الكبرى في العالم، إضافة لتلة «العشارة» التي يعود تاريخها إلى العصر البابلي الأول والواقعة في الريف الشرقي لدير الزور، فهي أيضا تعرّضت للتنقيب من قبل ورشات تعمل لصالح الميليشيات الإيرانية.
كذلك تعرّضت آثار «الصالحية» في مدينة البوكمال الواقعة بريف دير الزور للنهب ويعود تاريخها إلى العصر البابلي الأول، إلى جانب «تل طابوس» الواقع بالقرب من قرية الشميطية الواقعة في ريف دير الزور الغربي، فهو أيضا تعرّض للتنقيب ويعود تاريخه للعصر الفارسي الأول، وهناك كذلك سوق «المقبي» في مدينة دير الزور، إلى جانب مواقع أثرية أخرى، وفق ما ذكر مدير المرصد السوري الذي حذّر من تداعيات استمرار عمليات سرقة الآثار والعبث بما سماه «الإرث السوري الحضاري».
ولفت إلى أن «المرصد» يتناول هذه القضية بهدف توجيه تحذيرات جدية، خوفا «من استمرار عمليات سرقة الآثار والعبث بالإرث السوري التاريخي، من جميع القوى المسيطرة على الأراضي السورية كالنظام والفصائل الجهادية والميليشيات الموالية لإيران والفصائل الموالية لتركيا وغيرهم على غرار ما فعله تنظيم داعش سابقا في عدّة مناطق سورية، من تخريب وسرقة للتراث السوري، إذ باتت جميع القوى المسيطرة على الأراضي السورية تمتهن أعمال سرقة ونهب وتخريب الإرث السوري دون وجود أي رادع»، على حدّ تعبيره.
مصدر أساسي للتمويل
ومن جهتها، كشفت مصادر أخرى لـ«المجلة» أن «الميليشيات المدعومة من طهران باتت تعتمد على الآثار كمصدر أساسي للتمويل خاصة بعد تجنيد عدد كبير من المقاتلين في صفوفها، فهي تقوم بعمليات التنقيب عن الآثار وتعمل على تهريبها لاحقا إلى خارج البلاد وأحيانا يصار إلى بيعها ضمن الأراضي السورية أو نقلها إلى العراق المجاور ومن ثم بيعها هناك».
ورجّحت المصادر أن العدد الهائل من عناصر الميليشيات الإيرانية التي تم تجنيدها أرغمها على البحث عن مصادر جديدة للتمويل، وكان من بينها التنقيب عن الآثار والإتجار بها.
ويقدر تعداد عناصر هذه الميليشيات على الأراضي السورية بأكثر من 65500 عنصر، بحسب أحدث إحصائية نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان مطلع عام 2022 الجاري.
ووفق المرصد، فإن تعداد القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها في منطقة غرب الفرات يبلغ نحو 29 ألف مقاتل، 11 ألفا منهم من حملة الجنسية السورية ممن جندتهم إيران في السنوات الأخيرة، وهناك 18 ألفا آخرون ينحدرون من جنسيات عربية وآسيوية.
أما في الجنوب السوري، فتعداد القوات الإيرانية من مختلف الجنسيات يقدر بنحو 11500. وتتم عمليات التجنيد هناك ضمن ما يعرف بـ«سرايا العرين» التابع للواء 313 الواقع شمالي محافظة درعا، بالإضافة إلى مراكز تقع في منطقة اللجاة ومناطق أخرى في ريف درعا، وخان أرنبة ومدينة البعث بريف القنيطرة الواقعة على مقربة من الحدود مع الجولان السوري، بالإضافة لريف السويداء.
كما أن تعداد العناصر والمجندين ضمن الميليشيات الموالية لإيران من حملة الجنسية السورية وجنسيات أجنبية في العاصمة دمشق وريفها يقدر بأكثر من 10200 مقاتل ينتشرون على مساحاتٍ واسعة ضمن أحياء العاصمة ومدن وبلدات وقرى تقع بريف دمشق وبالقرب من الحدود السورية- اللبنانية. في حين أن تعداد العناصر والمجندين في محافظة حلب يقدر بنحو 8350 مقاتلا ومجندا ينتشرون في بلدتي نبل والزهراء ومحيطها بريف حلب الشمالي، والعيس والحاضر ومحيطها بريف حلب الجنوبي، ومسكنة والسفيرة ودير حافر وبلدات وقرى أخرى تقع شرقي حلب، بالإضافة لأحياء مدينة حلب نفسها.
أما في مدينة حمص، فتعداد الميليشيات الموالية لإيران المنتشرة في المدينة وريفها وباديتي حماه والرقة يقدر بنحو 4800 عنصر من حملة الجنسية السورية وجنسيات عربية وآسيوية، وذلك بحسب المرصد السوري أيضاً.
وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من محافظة إدلب السورية يخضع لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) وهي ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، إلا أن عناصر الميليشيات المدعومة من إيران يتواجدون فيها أيضا ويقدر عددهم بأكثر من 900 مقاتل من جنسيات سورية وأجنبية، يتمركزون في المناطق التي استعادتها قوات النظام العام الماضي وفي عام 2020.
كذلك يتواجد عناصر هذه الميليشيات في محافظة الحسكة رغم وجود القواعد الأميركية فيها، ويبلغ تعداد المجندين لصالح طهران نحو 800 شخص، 390 منهم من عناصر وقيادات في الدفاع الوطني وهي ميليشيا محلية تدعم نظام الأسد، بينما 410 من المدنيين ينحدرون من عشائر المحافظة، ويتمّ تجنيدهم بإغراءات مادية عبر دفع رواتب شهرية مغرية نظرا للظروف الاقتصادية الراهنة.
وتتواصل عمليات تدريب المجندين حديثا في معسكرات ضمن فوج «طرطب» جنوبي القامشلي، ويصار إلى نقلهم بعدها إلى مناطق أخرى أبرزها غرب الفرات.
تنقيب بطرق بدائية
وقال مصدر محلّي في ريف محافظة دير الزور لـ«المجلة» إن: «عملية التنقيب عن الآثار تتم من خلال استخدام أدوات بدائية وطرق تقليدية، عبر استخدام أدوات هي في الأساس تعتمد في الزراعة وفي جرف الأراضي الزراعية وغيرها»، مؤكدا غياب «أي جهاز حديث للتنقيب، وبالتالي عمليات التنقيب تتم بشكل عشوائي في كل التلال الصغيرة والأماكن المتوقع وجود الآثار فيها».
ولفت المصدر إلى أن «كل من يقودون عمليات التنقيب يتبعون بشكل مباشر للميليشيات الإيرانية التي تسيطر على ريف محافظة دير الزور»، موضحا أنه «بعد عملية التنقيب يتم نقل الآثار إلى نقاط يتواجد فيها سماسرة يتاجرون بها بمساندة شخصياتٍ مقرّبة من النظام والميليشيات الإيرانية وهم يتكفلون بعملية النقل أو البيع لتجارٍ آخرين مقابل نسبة من البيع يتم منحها لهم».
وكانت شبكة «عين الفرات» المحلية قد أشارت في وقتٍ سابق إلى أن الحرس الثوري الإيراني قد استخرج كميات كبيرة من الآثار من مدينة تدمر الواقعة في ريف محافظة حمص، حيث تقوم الميليشيات الإيرانية بعمليات الحفر والتنقيب عن الآثار.
وتعتمد الميليشيات الإيرانية التي تدعم النظام السوري، على ثلاثة خبراء آثار عراقيين وعمال حفر محليين، وفق ما ذكرت وسائل إعلامٍ سورية معارضة.
ويحصل الخبراء على نسبة تقدر بـ10 في المائة من أسعار المواد الأثرية، وتقدر قيمة أجور العمال في الحفر اليومية بـ8 آلاف ليرة سورية، بحسب الشبكة المحلية التي كشفت أيضا أن الميليشيات الإيرانية قد نقلت إلى الأراضي العراقية تحفا أثرية وتماثيل ومجسمات ذهبية وألواحا حجرية تحمل نقوشا مسمارية وغيرها من الآثار المهمة.
النظام يتجاهل الميليشيات ويتهم أنقرة
في العام الماضي، تجاهل النظام السوري الميليشيات المدعومة من طهران بعدما اتهم الجيش التركي، الذي يسيطر على عددٍ من المدن السورية، بإجراء عمليات تنقيبٍ عن الآثار ومن ثم نقل القطع الأثرية إلى الأراضي التركية.
وتُطالب المديرية العامة للآثار والمتاحف في العاصمة السورية، دمشق، المنظمات والهيئات الدولية المهتمة بالتراث بوضع حد لما تطلق عليه «العدوان التركي على المواقع الأثرية في سوريا» بعدما وثّقت تعرّض 710 مواقع ومبان أثرية للتخريب.
وكانت الميليشيات الإيرانية قد باشرت مطلع العام الماضي، أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار في مغارتي «هامبو»، و«لافنسونا» في المنطقة الغربية لمدينة تدمر.
تمتاز سوريا بوجود كثير من الأماكن الأثرية، ففيها ما يربو على 4500 موقع أثري، وهي تضمّ حضارات مختلفة، مثل: إيبلا وأوغاريت وماري، مرورا بالحضارات الآرامية والفينيقية والأكادية والكلدانية والبيزنطية والرومانية.
وكانت اليونيسكو قد أدرجت في وقت سابق ستة مواقع أثرية سورية على لائحة التراث العالمي، وهي أحياء دمشق القديمة وحلب القديمة وقلعة المضيق وقلعة الحصن ومدينة بصرى القديمة ومدينة تل تمر، وبعض القرى الأثرية الواقعة شمال وشمال غربي سوريا.