مغول الأمس وإرهاب اليوم... وجهان لعملة واحدة

مغول الأمس وإرهاب اليوم... وجهان لعملة واحدة

ورثتهم «القاعدة» و«داعش» و«حشد» إيران وميليشياتها


[caption id="attachment_55256830" align="aligncenter" width="1669"]عناصر من قوات الحشد الشعبي يركبون سيارة عليها صورة المرجع الديني السيستاني في جنوب الموصل (غيتي) عناصر من قوات الحشد الشعبي يركبون سيارة عليها صورة المرجع الديني السيستاني في جنوب الموصل (غيتي)[/caption]

أولان باتور (مانغوليا): أحمد طاهر

لا تزال الأمة الإسلامية تتعرض إلى مخاطر جمة لا تقل عن تلك التي تمتلئ بها كتب التاريخ من اعتداءات على الشعوب الإسلامية، وصلت إلى جرائم لن تمحى من ذاكرة أبنائها. فما تعرضت له الأمة من احتلال صليبي نجحت في صده بقيادة رجال تحملوا المسؤولية ونهضوا بشعوبهم في مواجهة الحملات الصليبية، كذلك ما تعرضت له الأمة من هجوم مغولي تتاري واسع قضى على الأخضر واليابس وهدم الحضارة الإسلامية بما حملته من مشاعل نور للعالم أجمع.

الحقيقة أن ما تتعرض له الأمة الإسلامية اليوم ليس بعيدا عما جرى في الأمس، فما تقوم به جماعات الإرهاب والتطرف من ممارسات تثير الرعب والخوف في قلوب الشعوب الإسلامية مثل القاعدة أو داعش أو مليشيات إيران وحشدها في المنطقة لم يختلف كثيرا عما ارتكبته جحافل المغول من جرائم وفظائع بحق المدن والممالك التي احتلتها. وحتى تستفيد الشعوب اليوم من أحداث التاريخ كي لا تتكرر الأخطاء والأخطار نفسها وتأخذ العبرة والعظة، علينا أن نبحث فيما حدث مع انتصارات جنكيز خان وحفيده هولاكو وما هي قصة خروجه إلى بلاد الإسلام والمسلمين، ولماذا تهاوت الخلافة العباسية على أيديهم بهذه السرعة وبهذه الصورة المهينة؟

المغول وبدايات ظهور قوتهم


تتعدد الروايات التاريخية وتتنوع حول بداية ظهور قبائل المغول والتتار، وإن كانت أقربها هي أن التتار والمغول هم في الأساس قبائل من الترك البدو كانوا يسكنون الجزء الشرقي من بلاد التركستان وما يليها شرقًا من بلاد الصين في العصور الوسطى، وأن ألنجة خان أحد ملوك الترك وُلد له في الأزمنة القديمة ولدان توأمان هما: مغول خان وتتار خان وقد تفرعت منهما قبائل المغول والتتار.

وقد عاش أولادهم في وفاق مدة طويلة إلى أن حدث نزاع بينهما تغلب فيه التتار أولاً وصارت لهم السيادة مدة طويلة، ثم اتحدت قبائل المغول وحاربت التتار وهزمتهم وانتزعت منهم السيادة وظل الملك متوارثا فيهم إلى عهد بيسوكا بهادر والد جنكيز خان والذي ولد عام 549هـ ولمّا بلغ الثالثة عشرة من عمره توفي أبوه وانفض أكثر قبائل المغول من حوله لصغر سنه فلما بلغ مبلغ الرجال ظهرت مواهبه السياسية والعسكرية فجمع قبائل المغول حوله وسن لهم قانونًا يسيرون على هديه ويحكمون بمقتضاه ووحد صفوفهم واستعان بهم على توسيع ملكه، ونجح في إخضاع قبائل التتار تحت حكمه.

[caption id="attachment_55256833" align="aligncenter" width="940"]مشهد تخيلي لمعارك التتار مشهد تخيلي لمعارك التتار[/caption]

وعليه، يصبح من الأهمية بمكان تصحيح الخطأ التاريخي الذي يقع فيه كثير من الباحثين والكتاب، عند تناولهم لتاريخ الدولة الإسلامية في مواجهة الغزو المغولي، فليس صحيحًا أن المغول والتتار شيء واحد، فيقال أحيانًا هجمة التتار على العالم الإسلامي أو إمبراطورية التتار، ولكن الصواب أن المغول والتتار وإن كانا ينتميان إلى قبائل الترك، إلا أنهما دخلا في صراع كبير، نتج عنه تشتتهما، حتى اجتمع شملهما على يد قائدهم جنكيز خان.
ويذكر أن اسم جنكيز خان لم يكن هو اسمه الحقيقي، وإنما هو لقب يعني باللغة المنغولية «قاهر العالم» أو «ملك ملوك العالم» واسمه الحقيقي هو تيموجين وكان قائدا عسكريا شديد البأس وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله وبدأ في التوسع تدريجيا في المناطق المحيطة به وسرعان ما اتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربا، ومن سهول سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوبًا، بل نجحت الدولة في سنوات قليلة في أن تضم في طياتها دولة الصين بكاملها (9 ملايين كيلومتر مربع)، إضافة إلى كل من منغوليا، فيتنام، كوريا، كمبوديا، تايلاند، أجزاء من سيبيريا.

ولقد كانت لهم ديانة غريبة وهي خليط من أديان مختلفة جمعها زعيمها جنكيز خان من شرائع الإسلام والمسيحية والبوذية واختلق لهم أشياء أخرى؛ وأخرج لهم في النهاية كتابا جعله كالدستور أُطلق عليه اسم «الياسق» أو «الياسج» أو «الياسا».

نخلص إلى القول إن نجاح جنكيز خان في السيطرة على قبائل التتار وإرغامهم على الانضمام إلى جيوشه ومشاركتهم في حروبه، ومع غلبة عددهم في تركيبة هذه الجيوش، أطلق عليها التتار لتعبر عن
الهمجية والقسوة والوحشية.

[caption id="attachment_55256831" align="alignleft" width="300"]أحد أفراد الحشد الشعبي (غيتي) أحد أفراد الحشد الشعبي (غيتي)[/caption]

ومن الجدير بالذكر أن الاختلاف بين المؤرخين حول بدايات ظهور قبائل التتار والمغول، امتد إلى التباين في المقصود بكلمة التتار، إذ تباينت أسماء التتار، فكان الصليبيون يطلقون عليهم التاتا بحذف الراء، أما الأوروبيين فكانوا يطلقون عليهم اسم التارتار، والمفكر الإسلامي عبد الرحمن بن خلدون أطلق عليهم اسم التغزعز. وكما اختلفت تسمية التتار، اختلف كذلك معنى هذا الاسم، فالتتار عند الصليبيين كانت تعني البدو والفروسية. أما في اللغة التركية القديمة فكانت تعني الفارس صاحب البريد.

وبعيدًا عن هذه الاختلافات سواء في التعريف بما هو المقصود بمصطلح التتار أو بتاريخ نشأتهما، فما يعنينا هو بداية ظهور قوتهم في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي- السادس الهجري، حيث برزوا كقوة عالمية خارج نطاق موطنهم الأصلي (منغوليا) خلال العقدين الأول والثاني من القرن الثالث عشر الميلادي- السابع الهجري، إذ استطاعوا أن يؤسسوا لهم أكبر إمبراطورية عالمية في أقصر مدة زمنية، بدءًا من الجزر اليابانية والمحيط الهادي شرقًا إلى قلب القارة الأوروبية غربا، ومن سيبيريا وبحر البلطيق شمالا إلى الحدود الشمالية للجزيرة العربية وبلاد الشام وفلسطين جنوبا.

يرى المؤرخ ملبترون أن المغول يتكونون من طوائف وقبائل، في الغالب هم 4 طوائف تضم 10 قبائل منها:
• أتراك تركستان.
• تركمان شرق بحر الخزر (قزوين) وآسيا الوسطى وأرمينيا.
• الأوزبك.
• البخاريون
• أتراك قرمان الذين قدموا من تركستان.
• العثمانيون وأتراك الأناضول وقسطنطينية من تركستان.
• تتار جزيرة القرم.

الخلافة العباسية وتفتت الدولة الإسلامية


نشأت الخلافة العباسية بعد سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ، وكانت عاصمتها بغداد، إلا أنها بدأت تواجه الكثير من مظاهر الضعف والتشرذم بحلول القرن السابع الهجري، فلم تستطع أن تسيطر إلا على وسط وجنوب العراق فقط؛ حيث تحولت الخلافة في ذلك الزمان إلى صورة للخلافة، إذ تشرذمت أراضيها واستقلت مدنها وأصبح لها حكام منفصلون، وذلك على النحو التالي:

[caption id="attachment_55256842" align="alignleft" width="300"]أحد أفراد جهاز مكافحة الإرهاب يقف أمام لوحة إعلانات عليها شعار «داعش» شرق الموصل (غيتي) أحد أفراد جهاز مكافحة الإرهاب يقف أمام لوحة إعلانات عليها شعار «داعش» شرق الموصل (غيتي)[/caption]

1 - الدولة الأيوبية وتسيطر على كل من مصر والشام والحجاز واليمن.
2 - دولة الموحدين في بلاد المغرب والأندلس.
3 - الدولة الخوارزمية، تمتد حدودها من غرب الصين شرقًا إلى أجزاء كبيرة من إيران غربا.
4 - دولة الغوريين في الهند.
5 - الدولة الإسماعيلية في الأراضي الفارسية (إيران حاليًّا).
6 - الدولة السلاجقية في الأناضول (تركيا حاليًّا).

المغول وبدايات التفكير في غزو الدولة الإسلامية


في ظل حالة الضعف والتردي والانقسام التي أصابت الدولة الإسلامية في نهاية عهد الخلافة العباسية وتفتتها إلى دويلات وممالك متنازعة، وفي ظل نجاح جيوش إمبراطورية المغول في تدمير حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، سعت تلك الجحافل إلى استكمال السيطرة على أملاك دولة الخلافة، وذلك عبر التمركز في البداية في منطقتي أفغانستان وأوزبكستان لعدة أسباب، منها:

1 - بُعد المسافة بين الصين مقر دولتهم والعراق عاصمة الخلافة، وهو ما يتطلب أن تكون ثمة قواعد إمداد ثابتة لجيوشهم في منطقة متوسطة الجانبين.
2 - غنى المنطقة بالثروات والموارد الطبيعية بما يمثل دعما لتلك الجيوش في حروبها.
3 - خطورة الاستمرار في التوسع وصولا إلى عاصمة الخلافة، وخلف جيوشها شعوب مسلمة، الأمر الذي يهدد نجاحها في أي معارك قد تخوضها إما بسبب محاربة هذه الجيوش لهذه الشعوب بما يضعها في مواجهة على جبهتين معا، وإما تُقطع عليها خطوط الإمداد.

[caption id="attachment_55256840" align="alignleft" width="252"]أبو بكر البغدادي أثناء إلقائه خطبة لصلاة الجمعة في أحد مساجد الموصل (غيتي) أبو بكر البغدادي أثناء إلقائه خطبة لصلاة الجمعة في أحد مساجد الموصل (غيتي)[/caption]

ولهذه الأسباب قرر جنكيز خان خوض حروب متتالية مع الدولة الخوارزمية المسيطرة على تلك المنطقة مستفيدا مما بينها وبين الخلافة العباسية من عداوة شديدة، إذ أنه رغم المعاهدات والاتفاقيات المبرمة بين الدولتين (الخوارزمية والمغولية) بشأن عدم اعتداء أي من الدولتين على الأخرى؛ فإنه وفقا لما هو معلوم من سمات جيش المغول أنه لا عهد لهم مطلقا.

ولذا، انتهز جنكيز خان ما جرى في مدينة أترار الواقعة على الحدود بين الدولتين، حيث أقدم حاكم المدينة على قتل مجموعة من التجار المغول ذهبوا إليها، فأسرع جنكيز خان بمطالبة محمد بن خوارزم شاه رئيس الدولة الخوارزمية بتسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، إلا أن الأخير رفض الطلب معتبرا أنه تعدٍ على سيادة البلاد المسلمة، إذ أنه سيحاكمهم في بلاده، فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية، وهو ما رفضه جنكيز خان معلنا الحرب على الدولة الخوارزمية كمدخل لغزو الدولة الإسلامية واحتلالها.

المحطات المغولية في غزو الدولة الإسلامية


مر الهجوم المغولي على الدولة الإسلامية عبر محطات، إذ كما سبقت الإشارة حرص جنكيز خان على أن يكون دخوله إلى قلب العالم الإسلامي عبر تصفية ممنهجة للممالك والمدن الرئيسية في الدولة، وبدأ ذلك بغزو الدولة الخوارزمية، إذ انتهز فرصة الحادثة السابق الإشارة إليها والخاصة بقتل التجار المغوليين، ليتخذ قرارا بغزو مملكة الخوارزميين، وكان ذلك عام 1219م -616 هـ، إذ اشتبك الجيشان في موقعة شرق نهر سيحون والمعروف حاليا بنهر سريداريا في دولة كازاخستان، وقد استمرت المعركة لمدة أربعة أيام راح ضحيتها ما يقارب من عشرين ألفا من المسلمين، مع وقوع قتلى من الجانب المغولي، وهو ما دفع وزير الأمير محمد بن خوارزم إلى الهروب حتى وقع أسيرا لدى جيش المغول. وقد تمت له السيطرة على مدينة أترار التي كانت تعد بداية أو مفتاح دولة ما وراء النهر. لينطلق الجيش المغولي مكملاً استيلاءه على كل من مدن جند وبنكت وخجندة الواقعة كلها على نهر سيحون، دون مقاومة تُذكر. وهكذا استولى جيش جنكيز خان على إقليم كازاخستان بأكمله، منطلقا لاستكمال احتلاله لبقية المدن، بدءا من مدينة بخارى والذي مثل احتلاله لها بداية الاختراق الحقيقي لقلب الدولة الإسلامية، وذلك على النحو التالي:

1- اجتياح بخارى، كان استيلاء الجيش المغولي على دولة كازاخستان دون مقاومة تذكر، فتح شهيته للوصول إلى مدينة بخارى الواقعة في دولة أوزبكستان، حيث حاصر المدينة مطالبا من أهلها الاستسلام (1219م-6161هـ)، لينقسم رأي أهلها ما بين رفض الطلب والاستمرار في القتال، وبين الاستجابة للطلب خوفًا من القتل، ليرجح الرأي الأخير والذي كان هو رأي الأغلبية بما سهل دخوله إلى المدينة والقضاء على مجموعة المجاهدين المحصنين في القلعة الكبيرة الرافضين للاستسلام، وذلك بعد حصار دام عشرة أيام. ويذكر أنه رغم الاستسلام فإنه لم يشفع لأهلها، حيث أعمل فيهم الجيش المغولي بعد الاستيلاء على مقدراتها وثرواتها، القتل والذبح، وصولا إلى إشعال النيران في المدينة بأكملها.

[caption id="attachment_55256841" align="alignleft" width="232"]أحد أفراد الحشد الشعبي في بلدة برطلة شرق الموصل (غيتي) أحد أفراد الحشد الشعبي في بلدة برطلة شرق الموصل (غيتي)[/caption]

2- تدمير سمرقند، بعد الاستيلاء على بخارى، كان من السهولة الانتقال إلى المدينة المجاورة لها وهي سمرقند الواقعة كذلك في دولة أوزبكستان؛ حيث حاصر التتار المدينة التي استبسل أهلها في مواجهتهم رغم رفض الجيش الخوارزمي النظامي الدفاع عنها، حيث شكل أهلها جيشا من 70 ألف مقاتل لمواجهة العدوان المغولي، ورغم عدم خبرتهم في مجال القتال، فإنهم استطاعوا الوقوف في وجهه بما جعله يلجأ إلى الخداع في فك الحصار عن المدينة لسحب المقاتلين بعيدا عن المدينة لتبدأ تصفيتهم جميعا وعودة الجيش في حصار المدينة التي سلمها الجيش الخوارزمي النظامي رافضا الدخول في معركة مع الجيش المغولي، فما كان منهم إلا أن أعملوا القتل والنهب والتدمير والإحراق في المدينة وأهلها جميعا بمن فيهم الجنود الخوارزميون.
ومن الجدير بالذكر أن المغول تبنوا منهجا في غزوهم للمدن الإسلامية، تمثل هذا المنهج في اصطحاب أسرى من المدن التي يغزونها، وهو النهج الذي طُبق في غزوهم لمدينة سمرقند، حيث اصطحبوا أسرى من مدينة بخارى، ويرجع تبني هذا النهج إلى جملة من الأسباب، منها:
- زيادة أعداد الجنود بما يبث الرعب في قلوب أعدائهم.
- إجبارهم على القتال في صفوفهم.
- وضعهم في مقدمة صفوف القتال كدروع بشرية.
- يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا.
- يبادلونهم في حال أُسر رجال منهم في القتال.

3- سقوط العاصمة الخوارزمية أورجاندا، مع استقرار جنكيز خان في مدينة سمرقند، أرسل فرقة عسكرية مكونة من عشرين ألفا من فرسانه للقضاء على محمد بن خوارزم، ومع نجاحهم في الدخول إلى العاصمة، لاذ محمد بن خوارزم بالفرار إلى مدينة نيسابور، فلما علم بقربهم منه ترك نيسابور واتجه إلى مازن دران وهي مدينة تقع في إيران حاليا فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل جاوزوها واتجهوا خلفه مباشرة فترك مازن دران إلى مدينة الري ثم إلى مدينة همدان والتتار في أثره ثم عاد إلى مدينة مازن دران مرة أخرى ليتجه منها إلى مدينة طبرستان وهي مدينة على ساحل بحر ما يعرف الآن ببحر قزوين، ومنها إلى جزيرة في وسط البحر وظل بها حتى موته. لتعاود الفرقة التترية احتلال هذه المدن مرة أخرى، حيث نجحت في السيطرة على مازن دران رغم صعوبتها وحصانتها، كما سقطت مدينة الري ومدينة قزوين. ومع سياسة القتل والتعذيب والسبي والنهب التي تبناها الجيش المغولي، بدأت تتساقط المدن الإسلامية بالاستسلام، حيث قرر حاكم مدينة تبريز الواقعة في دولة أذربيجان غرب بحر قزوين تسليم المدينة دون مقاومة. وهو المسار الذي انتهجه الجيش المغولي في اجتياح المدن الواقعة غرب بحر قزوين، إذ نجحوا في هزيمة مملكتي أرمينيا وجورجيا المسيحيتين.

4- سقوط إقليمي خراسان وخوارزم (1219 - 1220م- 616 - 617هـ)، لم يركن جنكيز خان إلى الدعة والاستقرار في مدينة سمرقند، وإنما وجد أن ثمة إقليمين من أعظم الأقاليم وأقوها في المناطق المحيطة به، وهما: إقليمي خراسان وخوارزم؛ حيث كان يضم إقليم خراسان الواقع الآن شرق إيران وشمال أفغانستان، عددا من المدن الكبيرة، أهمها: بلخ – مرو – نيسابور – هراة – غزنة. أما إقليم خوارزم والذي كان نواة الدولة الخوارزمية فقد اشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية، ويقع إلى الشمال الغربي من سمرقند ويمر به نهر جيحون، ويقع الآن في دولتي أوزبكستان وتركمانستان؛ فأرسل جنكيز خان ثلاث فرق من جيشه: الأولى، لتدمير إقليم فرغانة الواقع في أوزبكستان حاليًا على بعُد نحو 500كلم شرق سمرقند، والثانية، لتدمير مدينة ترمز والتي تبعد نحو 100كلم – جنوب سمرقند، والثالثة، لتدمير قلعة قلادة وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون. وقد نجحت هذه الفرق الثلاث بدورها التدميري، عبر إعمال القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب؛ فوصلت الرسالة المغولية إلى كل الشعوب المحيطة فعمت الرهبة في أرجاء المنطقة؛ وعندما عادت الفرق الثلاث من مهمتها، بدأ جنكيز خان يعد للمهمة التالية وهي السيطرة على إقليمي خراسان وخوارزم، وقد تم له ذلك عام 617 هـ، ليسيطر المغول على المناطق الشمالية والوسطى من دولة خوارزم الكبرى ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب على مقربة كبيرة من نهاية هذه الدولة على حدود العراق.

5- معركتا غزنة وكابل عام 617 هـ والنصر للمسلمين، رغم ما حققه الجيش المغولي من انتصارات على الدولة الخوارزمية، فإنه لم تمتد سيطرته على حدودها كلية، وإنما ظل جنوبها بعيدا عن سيطرته، وكان حاكمه هو جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه، الذي استفاد من الدرس الذي تم مع والده، فأسرع بإعداد العدة للقتال عبر مسارين: الأول، إعداد جيشه إعدادًا جيدًا. الثاني، تحالفه مع بعض الملوك المسلمين، منهم: سيف الدين بغراق وهو أحد الملوك الأتراك بجيشه البالغ عدده ثلاثين ألف مقاتل، وملك خان أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه. فضلا عن انضمام ما يقرب من ستين ألفًا من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها. ولم ينتظر قدوم التتار وإنما خرج إليهم في منطقة بلق بجوار مدينة غزنة (تقع هذه المدينة في أفغانستان الآن، وذلك على بعد نحو مائة وخمسين كلم جنوب مدينة كابل، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروبا ميزوس الأفغانية). وكان لحمية المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة وبعد معركة دامت ثلاثة أيام، ألحق المسلمين النصر للمرة الأولى على التتار. ورغم ذلك النصر فإن جنكيز خان الذي كان يتمركز في منطقة الطالقان في شمال شرقي أفغانستان، لم يرتدع، وإنما أرسل جيشا بقيادة أحد أبنائه لمعركة جديدة في مدينة كابل الأفغانية وهي مدينة محاطة من كل جهاتها تقريبًا بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان، وقد تكرر معه ما حدث في معركة غزنة حيث تعرض جيشه لهزيمة كبيرة قُتل على إثرها عدد كبير من جنوده.

[caption id="attachment_55256845" align="alignleft" width="300"]امرأة سورية في جنازة لأحد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية قتل أثناء معركة ضد تنظيم داعش في الرقة (غيتي) امرأة سورية في جنازة لأحد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية قتل أثناء معركة ضد تنظيم داعش في الرقة (غيتي)[/caption]

6- التفكك مدخل لهزيمة المسلمين واحتلال أفغانستان كاملة، لم يستمر التحالف الإسلامي طويلا، إذ دب الخلاف بين أطرافه، وتحديدا بين سيف الدين بغراق أمير الترك، وملك خان أمير مدينة هراة، بشأن أنصبتهم في الغنائم المحققة من الحرب، ورغم محاولات القائد جلال الدين خوارزم شاه المحافظة على وحدة الصف فإنه لم ينجح في ذلك، مما أدى إلى تفكك التحالف، لينتهز جنكيز خان القتال الذي احتدم بين الطرفين ليعاود هجومه لتعويض هزيمتيه السابقتين، وهو ما لم تستطع القوة الإسلامية ما بعد الانقسام من مواجهته، وقد اضطر جلال الدين إلى الهروب من ساحة المعركة والاتجاه جنوبا نحو نهر السند الفاصل بين باكستان والهند، حيث وقعت المعركة بين الجيشين ولم تستمر طويلا، انتهت بهزيمة الجيش الإسلامي وهروب جلال الدين ومقربيه ومقتل ملك خان، في حين تُرك عامة المسلمين ليتعرضوا إلى مذابح جماعية على يد التتار معلنا جنكيز خان سيطرته الكاملة على أفغانستان لتمثل الخطوة الأكثر خطورة في طريق سقوط الخلافة الإسلامية، نظرا لعدة أسباب، أبرزها ما يلي:
• الطبيعة الجبلية للدولة الأفغانية بما يجعل غزوها شبه مستحيل، وبذلك فهي تمثل حاجزًا طبيعيًا قويًا في وجه الغزاة، وهذا الحاجز يخفف الوطأة على البلاد المجاورة لها. فإن سقوطها يعني أن سقوط البلاد المجاورة لها أمر محتمل جدًا، وسيكون غزو أو مساومة باكستان وإيران ثم العراق بعد ذلك أسهل جدًا.
• موقعها الاستراتيجي وسط آسيا، فالذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها، حيث يصبح على بعد خطوات من دول المنطقة مثل باكستان وإيران وروسيا والهند، كما يصبح قريبا نسبيًا من الصين، وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا - بعد احتلال أفغانستان - أمرًا ممكنًا.
• تمتع سكانها بنزعة إسلامية عالية جدًا، وبروح جهادية بارزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وظهر ذلك واضحًا في انتصارهم مرتين على التتار بينما فشلت كل الجيوش الإسلامية في تحقيق مثل هذا النصر. وعليه، فاحتلالها يعني نشر الروح السلبية في بقية الإمارات الإسلامية.

7- التهديد بغزو شمال العراق، وانسحاب جيش المغول وتوجهه نحو إيران: في ظل الانتصارات المتتالية التي حققها جيش المغول، فُتحت شهيته لمزيد من احتلال أراضي الدولة الإسلامية، حيث أصبح على مقربة من العراق، فبدأ التفكير في غزو مدينة أربيل في شمال العراق، ودب الرعب في أهالي المدينة وفي بعض المدن المجاورة كالموصل، وبدأوا في الهروب خوفا من ملاقاة العدو، وهو ما حرك الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وبدأ في إعلان حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية، مع تجهيز جيش الخلافة، إلا أنه لم يستطع أن يجمع سوى ثمانمائة رجل وذلك بسبب ما سبقت الإشارة إليه بشأن الصراعات والانقسامات، فلم يكن الخليفة إلا مجرد رمز أو صورة. ولذلك قرر قائد جيشه مظفر الدين الانسحاب خوفا من خوض معركة بهذا الجيش الهزيل بما يعني فناءه عن بكرة أبيه. ورغم كون هذه هي الحقيقة فإن الجيش المغولي شعر من جانبه أنها خدعة وأن هذا العدد هو مقدمة لجيش كبير، فقرروا الانسحاب من المعركة، متبنين أسلوب حرب استنزاف بدلا من الصدام المباشر، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضًا عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب. لذلك فقد انسحب الجيش المغولي بإرادته ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى.

[caption id="attachment_55256836" align="alignleft" width="300"]أحد مقاتلي «داعش» أثناء معركة في الموصل أحد مقاتلي «داعش» أثناء معركة في الموصل[/caption]

8- اجتياح المدن الإيرانية همذان وأردويل وبيلقان، إذ أقدم المغول على حصار المدينتين، والدخول في معارك مباشرة مع أهلهما، انتهت بانتصارهم، حيث أعملوا القتل والحرق وسفك دماء أهلهما. إلا أنهم لم يتمكنوا من دخول مدينتي تبريز وكنجة حينما علموا بقوة أهلهما وقائدهما في ذلك الوقت وإعلانهما الجهاد، وهو ما أدخل الرعب في قلوبهم.
هكذا، نجح التتار خلال أعوام ثلاثة (616 - 619هـ) في الانطلاق من منغوليا بالصين إلى كل من: كازاخستان ثم أوزبكستان والتركمنستان وأفغانستان وإيران والوقوف على أبواب العاصمة العباسية العراق. وعلى الجانب الآخر نجحوا في السيطرة على كل من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وروسيا.

المغول ما بعد جنكيز خان واستمرار التوسع على حساب دولة الخلافة


حرص جنكيز خان قبل وفاته على أن يقسم إمبراطورتيه على أربعة من أبنائه دون الباقين والبالغ إجمالهم تسعة أبناء، لضمان تدريبهم على مباشرة مهام الحكم وتحمل المسؤوليات من ناحية، والحفاظ على ما حققه من منجزات من ناحية أخرى. وقد تم التقسيم على النحو التالي:

1 - أكبر أبنائه جوجي كان من نصيبه البلاد الواقعة بين نهر ارتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكان أغلب أهلها من الأتراك والتركمان. ولما توفي جوجي قبل جنكيز خان، قرر أن تكون هذه المناطق من نصيب حفيده باتو بن جوجي وقد لعب دورا مهما في تسوية المنازعات على ولاية عرش الإمبراطورية بعد وفاة جنكيز خان.
2 - اختص جغتاي ببلاد الإيغور وأقاليم ما وراء النهر وكاشغر وبلخ وغزنة.
3 - نال أوكتاي السيطرة على مناطق جبال تار باجاي وأطراف بحيرة ألاجول وحوض نهر اليميل الذي يصب في البحيرة الواقعة في غرب منغوليا.
4 - أما منغوليا فكانت من نصيب تولوي أصغر أبنائه، وقد ظل وصيا على العرش – طبقا للعرف المغولي - بمساعدة ثلاثة من المستشارين إلى أن انتخب أوكتاي خانا جديدا خلفا لجنكيز خان.
وجدير بالذكر أن التوسعات ظلت مستمرة في عهد الخان الجديد، حتى وصلت حدود دولة التتار عام 639هـ من كوريا شرقا إلى بولندا غربا، ومن سيبيريا شمالا إلى بحر الصين جنوبا، بل أصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم. في حين ظل القسم الأوسط والغربي من العالم الإسلامي – الذي يبدأ من العراق حتى المغرب - مفرقا مشتتا لا يكتفي بمشاهدة الجيوش المغولية وهي تُسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، بل انشغلوا بالصراعات الداخلية فيما بينهم وازداد تفككهم. ومع وفاة أوكتاي تولى ابنه كيوك بن أوكتاي وكان له الفضل في تثبيت أقدام الإمبراطورية في مستعمراتها من دون إضافة بلاد جديدة. ولذا فقد توقفت توسعاتهم في ذلك الوقت.

[caption id="attachment_55256838" align="alignleft" width="300"]رجل عراقي يمر أمام لوحة إعلانات عليها شعار «داعش» شرق الموصل (غيتي) رجل عراقي يمر أمام لوحة إعلانات عليها شعار «داعش» شرق الموصل (غيتي)[/caption]

إلا أنه في ظل ما كانت تتعرض له دولة الخلافة بممالكها المستقلة من حملات صليبية أوروبية، وفي ظل التقارب الذي حدث بين الطرفين (المغول والصليبيين) نتيجة تزاوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات البلدان الأوروبية التي احتلوها، بما سمح بتغلغل الديانة المسيحية نسبيا في بلاط الحكم المغولي، الأمر الذي أوقع المسلمين بين شقي الرحى المغول من ناحية والصليبيين من ناحية أخرى، ومما زاد الطين بلة أن الصراعات بين المسلمين لم تتوقف مما ضاعف من أثر هذه الحروب على مستقبل الدولة العباسية، خاصة مع وفاة الخليفة العباسي المستنصر بالله، ليخلفه ابنه المستعصم بالله البالغ من العمر ثلاثين عاما ولم تكن لديه دراية واسعة بشؤون السياسة والعسكرية.

وفي خضم ذلك، استكمل المغول توسعاتهم بحق ما تبقى من أراضي الخلافة خاصة بعد استيلائهم على أملاك الدولة الخوارزمية كاملة والتي كانت بمثابة الحاجز القوي في مواجهة تقدمهم نحو مقر الخلافة في العراق، إذ لم يعد فاصلا بينهم سوى شريط ضيق في غرب إقليم فارس (غرب إيران حاليا)، تقطنه طائفة الإسماعيلية الشيعية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال ولهم قلاع وحصون، فضلا عن طبيعة المكان الجبلية، وكانوا على خلاف دائم مع المذهب السني وكراهية شديدة له، بل كانوا يتعاونون مع الأعداء، تارة يراسلون المغول وتارة أخرى يراسلون الصليبيين. وهو ما أدركه المغول في ضرورة التخلص من هذه الطائفة واقتلاع جذور دولتهم، إذ أقدم هولاكو على رأس جيش كبير في يناير (كانون الثاني) 1256م-653هـ، متوجها إلى قلاع الدولة الإسماعيلية البالغ عددها نحو المائة قلعة، وذلك بناء على تعليمات أخيه منكو خان، وهو ما دفع زعيم الإسماعيلية ركن الدين خوارزم شاه إلى الاستسلام وتقبيل الأرض أمامه، بل وتوجيه أوامره إلى المندوبين التابعين له في بلاد الشام إلى تسليم جميع القلاع إلى جيش هولاكو.

المغول واحتلال بغداد والجزيرة العربية وبلاد الشام


[caption id="attachment_55256844" align="alignleft" width="230"]مشهد درامي لجندي مغولي مشهد درامي لجندي مغولي[/caption]

مع تحقق الهدف الأول الذي جاء من أجله هولاكو والمتمثل في القضاء على الدولة الإسماعيلية، توجه لتحقيق هدفه الثاني المتمثل في الاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية التي كان خليفتها آنذاك المعتصم بالله (1242م - 1258م)، ونجح في الاستيلاء على عاصمة الخلافة، بل باشر فيها كثيرا من سلطاته بشأن تنظيم شؤون الإدارة فيها مع تركها في أيدي العراقيين عدا الإدارة العسكرية والشرطية.

واستكمالا لتوسعتهم، توجهت جيوشهم صوب الجزيرة العربية، إذ توجه هولاكو بنفسه إلى كل من دينسمر ونصيبين ومن ثم حران، وكلف ابنه يشموط بقيادة فرقة أخرى من الجيش والتوجه إلى ميافارقين، كما وجه فرقة أخرى بقيادة الصالح ابن صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ إلى آمد. وقد نجحت هذه الجيوش في السيطرة على هذه المدن، إذ أخضعت آمد بعد استسلام أهلها في عام 1257م. كما نجحوا في الاستيلاء على ميافارقين بالقوة بعد مقتل الملك الكامل، ليتوجه الجيش بعدها إلى حصار مدينة ماردين التي رفضت الاستسلام، ليتم تركها والتوجه إلى حلب عن طريق عبور نهر الفرات والاستيلاء عليها عام 1260م بعد حصار شديد ومهاجمتها من كل الجهات، والعودة إلى ماردين مرة أخرى وفرض الحصار عليها والذي انتهى بخضوع المدينة بعد وفاة الملك السعيد وتولي ابنه المظفر والدخول في مفاوضات ثنائية انتهت بتسليم المدينة. وبعدها توجهت الجيوش إلى دمشق إذ تم استسلامها في فبراير (شباط) 1260م، وخروج الملك الناصر وأتباعه إلى غزة، ليتوالى بعد ذلك سقوط مدن الشام مثل حماه حيث كان لما جرى في دمشق أثر كبير في استسلام أهلها وهروب الملك المنصور الثاني. وهكذا بعد أن تم للمغول السيطرة على حلب ودمشق وحماه وغيرها من المدن المجاورة، أصبح استيلاؤهم على بقية مدن الشام مسألة وقت، وذلك بسبب ما حل ببلاد الشام من الأهوال والخوف والفزع، فضلا عن تفرق كلمة الأمراء الأيوبيين.

معركة عين جالوت ونهاية إمبراطورية المغول


كان من نتائج سقوط كثير من المدن الإسلامية في أيدي المغول وحلفائهم أن عم الرعب والخوف سائر أرجاء مدن الدولة الإسلامية، خاصة مع هروب الكثيرين بما يحملونه في نفوسهم من خوف بسبب ما حل بهم وببلادهم من دمار وخراب وهلاك. وفي تلك الأثناء بدأت جيوش المغول تتمدد في بقية أراضي الخلافة العباسية، ولم يبق لها إلا مصر إذ أن احتلالها يعني سهولة استكمال المخطط المغولي في التمدد نحو مدن وممالك الخلافة الواقعة في الغرب خاصة أن الوضع في المغرب الكبير كان قد تمزق إلى دويلات صغيرة بعد سقوط دولة الموحدين. كما حرص المغول على احتلال مصر خوفًا من أن يؤدي تجمع العلماء والعسكريين الفارين من بلادهم المحتلة إلى مصر بما لها من مكانة تاريخية وقيادة واعية وحمية دينية من تحولها لمقر لإعادة ترتيب البيت الإسلامي لمواجهة تمددهم، وهو ما تم بالفعل. إذ أدرك سيف الدين قطز أن الحفاظ على دولته (دولة المماليك) يستوجب القضاء على الخطر المغولي الذي استشرى في الممالك الإسلامية، وبالفعل تم اتخاذ خطوات جادة لإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية من خلال عزل الملك المنصور وتعيين ابن المعز أيبك قائدا للدولة، مع توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية عبر إشراك الأمراء والعلماء وكبار القادة وأصحاب الرأي في كيفية مواجهة هذا الخطر. وهو ما نتج عنه الاتفاق في الرأي على رفض ما حمله رسل هولاكو من تهديد ووعيد، وذلك بقتلهم وتعليق رؤوسهم على باب زويلة، وهي رسالة أراد بها قطز رفع معنويات المواطنين من ناحية، وإعلان الحرب على المغول من ناحية أخرى. لتبدأ مرحلة الاستعداد للمواجهة مع تغير النهج الذي اتبعته الممالك الإسلامية التي تحصنت داخل حدودها، حيث ارتأى قطز أن التحصن داخل المدن لصد الهجوم في حالة حدوثه لم ينجح في هزيمة المغول. ولذا اعتبر أن الخروج لمواجهتهم هو أفضل وسيلة للنصر واختار لذلك مكان عين جالوت في فلسطين، ويرجع اختيار هذا المكان لعدة عوامل، أبرزها: الطبيعة الجغرافية للمنطقة، إذ أنها منطقة منبسطة بما يجعل المعارك مكشوفة مع العدو، مع وجود جبل يعلوها بما يُمكّن الرماة من أداء واجبهم على أكمل وجه. كما أن اختيار بلاد الشام يعطي دفعة قوية للجموع الشامية الهاربة إلى مصر والمنضمة لجيش المماليك للاستبسال والتفاني في الجهاد طمعا في العودة مرة أخرى إلى بلادها. وبالفعل تحقق النصر للجيش المصري على المغول في معركة عين جالوت في أغسطس (آب) 1260م- 658هـ. ليستكمل المهمة بتحرير الكثير من مدن الشام (دمشق، حمص، حلب...) وإعادة ترتيب أوضاعها وأحوالها من خلال إعادة الملوك الأيوبيين إلى عروشهم تابعين لسلطان مصر المملوكي.
وكان من نتيجة الهزيمة التي مني بها الجيش المغولي بقيادة كيتوبوقا وعدم قدرة هولاكو على تزويده بقوات نظرا لحروبه مع منافسيه من أهل بيته، أنه سعى لدى الخان الأعظم لتعزيز قوته وهو ما تم له عبر إصدار مرسوم بمنح هولاكو البلاد الواقعة بين نهر جيحون حتى بلاد الشام، وبدأ في ترتيب جيشه لمعاودة الحرب مع المماليك إلا أنه لم يتمكن من ذلك إذ عاجلته المنية في 1265م- 663هـ.

ولكن لم يتخل المغول عن حلمهم بضم مصر والشام، إذ مع تسرب خبر مقتل سيف الدين قطز بسبب خلافه مع قائد جيشه الظاهر بيبرس، توقعوا الانقسام داخل دولة المماليك بما دفعهم لمحاولة فرض سيطرتهم على بلاد الشام مرة أخرى، ورغم الاستبسال الذي أبلاه أهالي الشام في مواجهتهم، فإنهم لم يتمكنوا من هزيمتهم حتى تمكن الظاهر بيبرس بعد تثبيت شؤونه على عرش الدولة المملوكية في مصر والشام، بإرسال جيش لطرد المغول من بلاد الشام، وهو ما دفعهم إلى الانسحاب قبل قدومه خوفا مما جرى لهم في السابق. وهكذا نجحت الأمة الإسلامية حينما توحدت صفوفها في طرد المغول كما سبق ونجحت أيضا في طرد الصليبيين.

من كل ما سبق، يمكن أن نخلص إلى نتيجتين مهمتين: الأولى، تتعلق بأوضاع الأمة الإسلامية بين البارحة واليوم، إذ أنه ما تعرضت له من غياب لهويتها الإسلامية وتفرقها وتمزقها وتشتت إراداتها مع غياب الاستعدادات المادية اللازمة لمواجهة التهديدات والمخاطر، كانت من أبرز الأسباب وراء تعرضها للهزائم وللقتل والإبادة. أما حين فاقت من غفوتها ونجحت في تجميع شتات قواتها استطاعت أن تدحر أعداءها وتقف في مواجهة تهديداتهم. ولن تقف الجرائم التي ترتكب اليوم بحق أبناء الأمة الإسلامية إلا إذا فاقت من غفلتها واستعادت زمام أمورها ووحدت صفوفها، ولعل خطوة التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب التي اتخذتها المملكة العربية السعودية بداية حقيقية لتصحيح هوية الأمة الإسلامية وتوحيد صفوفها في مواجهة أشد المخاطر التي تحيط بها اليوم وهو القتل باسم الدين. أما النتيجة الثانية، فتتعلق بدور القائد في تغيير حركة التاريخ ومساره، فالمقارنة مع الاختلاف بين دور كل من جنكيز خان في توحيد الشعب المغولي وبناء دولته التوسعية، وبين دور القائد قطز ونجاحه في إعادة ترتيب شؤون الدولة الإسلامية بعدما تفككت أواصرها وضاعت ممالكها تحت جحافل الجيش المغولي، توضح أنه يمكن أن يتحول مسار التاريخ تماما بظهور رجل قادر على بناء دولته شريطة أن تتأسس على مبادئ العدل والشورى والديمقراطية والمساواة والعدالة، وهو ما تطمح فيه شعوب منطقتنا العربية ودولنا الإسلامية جمعاء لاستعادة مجدها.

[caption id="attachment_55256843" align="aligncenter" width="940"]قوات «داعش» أثناء معركة في الموصل قوات «داعش» أثناء معركة في الموصل[/caption]
font change