دمشق: ربما لو أردت شراء منزل في أي عاصمة أوروبية، سيكون من السهل الحصول على منزل بمبلغ مالي مناسب ومُخدم بكهرباء لا تقطع ومياه جارية ودفء يلفك بأبسط التكاليف، وعلى رأس ذلك الأمان الذي تعيش فيه تلك العواصم.
لكن مع النظر قليلاً في وضع العاصمة دمشق التي تعتبر الأقل توفيرًا لكل شيء ستكون حالتها مختلفة تمامًا فالنسبة الطردية لم تنل نصيبها في سوريا، كون هذه العلاقة يجب أن تكون:
«خدمات = أسعار مرتفعة»، وتصبح العلاقة هنا عكسية بأسعار يمكن وصفها بالخيالية مع خدمات شبه معدومة.
لؤي محملجي، أحد العاملين في تجارة البيوت والعقارات، يقول لـ«المجلة»: «العقارات باتت وسيلة للادخار في وضع مجهول تمامًا، حيث لا ثبات لسعر الليرة مقابل الدولار ولا سماح بتداول الدولار، والأخيرة باتت من المحظورات ويمكن أن تتسبب بالسجن لمدة تصل إلى 7سنوات».
ويتابع محملجي: «الغريب في الموضوع أن وضع العقارات ليس ثابتًا وغير مؤمن من الدولة، حيث لا دراسة حقيقية تحدد قيمة العقارات ولا تدخل، وعندما تريد الدولة التدخل، فإن العملية تنحصر بتحصيل الضرائب أو رفع الرسوم، وهذا ما جعل نسبة كبيرة من المؤجرين يحددون قيمة على الورق مغايرة للقيمة الحقيقية لما سيدفعه المستأجر».
وتشير المعلومات المتداولة (لعدم وجود معلومات حقيقية)، إلا أن الأسعار في العاصمة دمشق تصل إلى مليوني دولار أي ما يقارب 3 مليارات ونصف المليار ليرة سوريا، والحديث هنا عن منازل في منطقة «المالكي- كفرسوسة» في حين تقل بنسبة قليلة في المهاجرين والروضة، والقيمة تنخفض شيئا فشيئًا.
أما بالنسبة لمنازل دمشق القديمة فالأسعار تختلف بحسب القيمة التراثية أو الحضارية لمنطقة المنزل والأماكن المحيطة به وبالتأكيد المساحة وإن كان طابقًا أم اثنين مع «السطوح» والأخير ثمنه مرتفع لأن الاستفادة منه أكبر فقد يتحول لفندق تراثي أو لمطعم أو كافيه شبابي في المدينة القديمة.
عقارات وأراض في دمشق
«أبحث عن منزل للإيجار لا يتعدى 200 ألف ليرة سورية في الشهر».. منشور عبر موقع «فيسبوك»، وضعه أنور محمد (اسم وهمي) للحصول على منزل في ظل النزوح الكبير الذي ما زال يعيشه السوريون ليس من المناطق فقط بل من منزل لآخر بحثًا عن إيجار يتناسب مع ما يستطيع تأمينه وليس مع دخله، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية والتدهور الذي شهدته الليرة السورية في العشر سنوات الأخيرة.
يقول أنور لـ«المجلة»: «لقد أصبح هذا الموقع الأزرق بمثابة مكتب عقاري يمكن لأي عائلة أن تحصل على منزل للإيجار أو الشراء، أو نشر طلبها عبره، لأن الذهاب إلى مكتب عقاري يعني دفع شهر إضافي لصاحب المكتب كأجر له أو مكافأة لأنه وجد بيتًا لعائلة لم تستطع حتى الآن العودة لمنطقتها ومنزلها».
ويتابع أنور: «لم يعد من السهل إيجاد منزل بإيجار يقل عن 200 ألف ليرة سورية للشهر الواحد، وهنا إن كان الطلب في الضواحي والريف وليس بالقرب من مركز المدينة، وفي حال أراد أحدهم البقاء في المدينة فهذا المبلغ لا يؤمن سوى غرفة واحدة فقط».
الكارثة التي ما زال السوريون يواجهونها حتى اليوم هو أن الإيجار يجب دفعه لمدة سنة مقدمًا أي على المواطن السوري الذي لا يتعدى دخله كموظف حكومي، الـ100 ألف ليرة سورية ما يعادل 30 دولارًا، أن يدفع مليونين و400 ألف ليرة سورية.
أما الكارثة الثانية، وباتت تتعدى حدود المنطق العقلي، فقد أصبح عليهم عند تجديد عقد المنزل أن يتوقعوا زيادة في المبلغ، إلى أن وصل الحد بالمالك أن يطلب من المستأجر أن يدفع له بالدولار الذي منعت الحكومة السورية التعامل به وأعلنت ملاحقة كل من يتعامل به قضائيًا، فالمنزل الذي كان إيجاره 250 ألفا أصبح المالك يطلب فيه 100 دولار في الشهر سواء انخفض أم ارتفع.
أما بالنسبة لعمليات الشراء فيقول أسامة طالب أحد مالكي المكاتب العقارية في ريف دمشق: «إذا اتتك الحرب فعليك بالعقارات، نتيجة ارتفاع الدولار لا يوجد هناك حركة بيع قوية في السوق، فمن لديه منزل لا يريد بيعه، فهل هنالك عاقل يسعى لبيع دجاجة تبيض الذهب، فتأجير المنزل أفضل بكثير من بيعه».
تصنف دمشق ضمن أغلى العواصم في العالم من ناحية العقارات ويقول أحد الخبراء الاقتصاديين ويعمل مستشارًا إلا أنه فضل عدم ذكر اسمه، إن سبب الارتفاع الكبير في أسعار العقارات يعود لعدد من العوامل أبرزها الحرب التي ساهمت بشكل أساسي في تكوين المحفظة السورية من عدم ضياع قيمتها أمام التذبذب في سعر الصرف.
أما السبب الثاني فيعود لأيام حرب العراق، بعد لجوء العراقيين إلى سوريا، حيث كان الدولار الذي بحوذتهم يثير الكثير من ملّاك البيوت، ووجدوهم رزقة على طبق من ذهب وسط ثبات للسعر الجديد، وعدم تمييز في المعاملة، فالسوري عليه أن يدفع كما العراقي، وإلا كان رد صاحب المنزل: «دور على بيت تاني»، وبقيت الأسعار تشهد صعودًا لحين بدأت شرارة الحرب.
في حين يعود السبب الثالث، بحسب الخبير الاقتصادي، إلى الطبيعة الاجتماعية عند بعض السكان والارتباط بالمكان، على سبيل المثال في دمشق لا تزال فكرة داخل السور وخارج السور (والمقصود هنا داخل سوار المدينة القديمة التي تعتبر رمزًا للدمشقيين الأصليين) ورغم عدم إظهارها بشكل مباشر إلا أنها موجودة في الباطن.
السبب الاجتماعي هنا ينطبق على كثير من المناطق في سوريا، في ظل عدم انتشار ثقافة المدن الكبيرة والضواحي التي يجب أن تتطور بناءً على النمو في عدد السكان، علما أن البعض قبل الحرب كان قد أجبر على بيع المنزل الكبير داخل المدينة ليتنازل عن شقق صغيرة لأبنائه في الريف، وجاء الأسف الكبير بعد ذلك من قبل من باعوا واشتروا، فقدوا منزلهم الكبير وشققهم الصغيرة.
الرقابة على الأسعار
حاولت الجهات المعنية في سوريا عبر قرارات مختلفة ضبط حالة الشراء والإيجار للعقارات وكان آخرها تسجيل العملية بواسطة بنك يوضع فيه مبلغ مادي يحدد على أساس المبلغ الإجمالي، بحيث يمكن للجهات المسؤولة ضبط العملية ومعرفة المبلغ المدفوع، لكن الأثر لم يكن بشكل مثالي، لعزوف الكثير عن البيع والشراء مدة معينة، ريثما يتمكنون من إيجاد منفذ بعيد عن وضع مبلغ تتجاوز قيمته 5 ملايين ليرة سورية لعمليات البيع.
لا يمكن لمؤسسات الدولة وضع رقم أساسي أو متقارب لكل المنازل من ناحية الشراء لكن يمكن لها ضبط عملية الإيجار وذلك لحفظ حقوق المستأجرين من زيادة مفاجئة يطلبها المؤجر أو لعدم التزام بدفع المستحقات.
كانت عملية الإيجار سابقًا تسجل على الورق بمبلغ مالي بسيط كي لا يتم دفع الضريبة اللازمة فمثلاً كان الأجر يكتب 10 آلاف ليرة سورية ويدفعون ضريبة لا تتجاوز 5 في المائة من الإجمالي، فيما الحقيقة أن المبلغ كان يصل إلى 100 أو 150 ألف ليرة سورية.
وبعد القرارات الجديدة يقول الخبير الاقتصادي والمستشار آنف الذكر أن عملية البيع والشراء لن يتم ضبطها لمعرفة الجميع بأن القيمة تقدر بالدولار لا الليرة السورية وهذا بالنسبة للبائع والمشتري، كله متفق عليه.
أما بالنسبة للإيجار فاستطاعت العمل على وضع آلية جيدة من ناحية لجنة التخمين التي تقدر المبلغ وتحدده على الورق ولا يمكن تجاوزه، فيما يتم بعدها الاتفاق، لكن في حال لم تعجب نتيجة التخمين صاحب المنزل يمكنه التراجع عن الاتفاق، حتى لو لم يتمكن من فسخه بعد التخمين مباشرة، فإنه لن يجدد العقد من المستأجر وهكذا.
ويصف الخبير الاقتصادي، أن حالة العقارات تشبه الواقع السوري بكل تعقيداته وتناقضاته أيضًا، ويرجع ذلك لعدم الاستقرار الذي يعيشه الناس في بلدهم، فهم على صفيح ساخن لا يعلمون ما يحدث بين ليلة وضحاها، ومع انعدم الاستقرار المادي سيبقى قطاع العقارات على حاله دون تطور لافت على الأقل في المستقبل القريب.
وضع التسعيرة.. من المتحكم؟
ردًا على الكلام الذي ذكر أعلاه، تم التواصل مع أحد المعنيين في مديرية المصالح العقارية التابعة لوزارة الإدارة المحلية والبيئة، وبين أنه لا يمكن وضع آلية محددة لعملية تسعير المنازل وهذه العملية ليست في سوريا فقط، بل في جميع دول العالم، فإذا اتفق البائع والمشتري على السعر، فهذا عقد بين طرفين وهو جارٍ بناء على الموافقة المتبادلة.
التدخل من قبل الجهات المعنية حول قصص البيع والشراء تتم في حال تقدم أحد الأطراف بشكوى تتعلق بعدم إيفاء الالتزامات المالية، أو في حال أخل أحد الأطراف بالاتفاق، وهو أمر متعارف عليه سابقًا، وبالطبع فإن أي إثبات يدل على التعامل بغير الليرة السورية، فإن هذا الأمر يندرج ضمن مساءلات أخرى لا تتعلق بالبيع والشراء، وإنما بالتعامل بغير العملة الرسمية للدولة، وتعتبر مخالفة للدستور.
وعن المحددات التي وضعت لضبط إيجارات المنازل، فجاءت لحماية حقوق الناس من جهة، وتحصيل الضرائب النظامية أثناء التسجيل من جهة ثانية، والأخيرة تعتبر مخالفة كبيرة كونها تندرج تحت اسم التهرب الضريبي، وتم تسجيل حالات وأحيلت للقضاء المختص، بعكس حالات كثيرة لم يتم ضبطها، وتم اتباع التخمين للمنزل من قبل لجان مختصة في حال كان السعر قليلا، وذلك منعًا لأي مخالفة قد تحدث.