في الشهور السابقة والتالية للانتخابات الرئاسية الأميركية التي أجريت في 2020، وجد ملايين الأميركيين أنفسهم وسط شلالات من المعلومات المغلوطة المتدفقة عبر الإنترنت، بما فيها الأكاذيب واسعة الانتشار بأن عملية تزوير كبرى سمحت لجو بايدن بأن يسرق الفوز المستحق لدونالد ترمب. وفي يناير (كانون الثاني) عام 2021، اتضحت التبعات الفعلية لهذه الخديعة وهذا الوهم، حيث شن آلاف من المشاغبين المناصرين لترمب اعتداءً عنيفاً على مبنى الكونغرس بهدف منع اعتماد فوز بايدن بالرئاسة.
عكَس الحصار الذي قاموا به توجهين مهمين سيظلان يشكلان السياسة الأميركية في الأعوام المقبلة. الأول هو انتشار تطرف اليمين بين التيار السائد. كانت أغلبية المشاغبين حتى هذه اللحظة من الأميركيين العاديين الذين تبنوا الأفكار المتطرفة منذ فترة قريبة. ولم تتضمن مسارات لجوئهم إلى العنف السياسي آيديولوجيا أو انتماء لجماعات معينة محددة بوضوح، ولكن بتأثير من الحملة الدعائية التي اجتاحت أوساط التيار اليميني السياسي بكل طوائفه: من المسؤولين المنتخبين من الجمهوريين، والمحللين المحافظين البارزين، والمنصات الإخبارية الكبرى ذات الميول المحافظة إلى الشخصيات المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتنظيمات الراديكالية الصغيرة ومجموعة ناشئة من المنصات الإعلامية المتخصصة التابعة لليمين المتطرف.
حتى قبل صعود ترامب، ازدادت قوة هذه القوى إلى حد ما بسبب ما يسمى الحرب على الإرهاب. كما ذكرت في العام الماضي في «فورين آفيرز»، أصبح عصر ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) تربة خصبة لليمين المتطرف، عندما ركزت جهات إنفاذ القانون والاستخبارات حصرياً تقريباً على التهديدات الجهادية، ووقع الخوف من الإرهابيين المسلمين في يد كارهي الأجانب والعنصريين البيض وأصحاب النزعة القومية المسيحية. استغل ترامب هذه التطورات في حملته الانتخابية في عام 2016، وعندما وصل إلى السلطة، تحولت الأفكار التي ظلت طويلاً على هامش المجتمع الأميركي بسرعة إلى محور البيئة السياسية في البلاد.
أدى شيوع التيار المتطرف في حد ذاته إلى ظهور التوجه الثاني: وهو تدافع وإعادة تركيب الأفكار والتنظيمات المتطرفة. لم تكن انتخابات 2020 هي السبب فحسب، ولكن أيضاً الاستقطاب الذي غذته الجائحة واحتجاجات «حياة السود مهمة»، في أن يعتاد مرتكبو أعمال الشغب في السادس من يناير ممن ينتمون إلى جماعات يمين متطرف معروفة بالتحالف مع تيارات غريبة عنهم، مثل مروجي نظرية المؤامرة من حركة «كيو أنون» المناصرة لترامب، ومعارضي أخذ اللقاحات، والتحرريين المناهضين لفرض ارتداء كمامات طبية، ومناصري حمل السلاح المحتجين على أي تهديد للتعديل الثاني من الدستور، وأنصار مذهب «التسريعية» الساعين إلى هدم النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعنف.
جعلت هذه التغييرات الحركات المتطرفة العنيفة أقل اتساقاً وأكثر تقلباً من ذي قبل. عامة ما تُعرف هذه الجماعات في الولايات المتحدة بانتماءات آيديولوجية واضحة نسبياً تتماشى مع ما تحدده الاستخبارات وجهات إنفاذ القانون من استراتيجيات واحتياجات تدريبية وخبرات معينة. ولكن تكتيكات الرصد والمراقبة والاختراق تصبح أصعب في بيئة أكثر عشوائية وتشتت وتتسم بالتطور السريع والتحالفات المفاجئة. ببساطة، تصبح الأدوات التي تستخدمها السلطات لمكافحة المتطرفين أقل فائدة عندما يتلاشى الخط الفاصل بين الأطراف والمركز.
تحتاج الحكومة الفيدرالية على نحو عاجل التكيف مع هذا الواقع الجديد. لقد أصبح التطرف تياراً سائداً، ويجب التدخل لمعالجته.
حلفاء غريبون
تشهد الحركات العنيفة تغييرات استراتيجية وتنظيمية في أثناء تحولها إلى تيار سائد. من جهة، ينتج التحول عن مساعي تتم من أعلى إلى أسفل بهدف إعادة تعبئة الآيديولوجيات لتوسعة نطاق الأفكار الرائجة لدى الجمهور وإلا سيرفضونها. ومن جهة أخرى، وقع التغيير نتيجة لتشتت وإعادة ترتيب للأفكار المتطرفة من أسفل إلى أعلى حيث يتبنى الناس التطرف عبر بيئة إنترنت ممتدة وكبيرة، وهي عملية لا تحتاج أحياناً إلى تواصل مع منظمات معينة.
وتتأصل التغييرات الاستراتيجية عادة في محاولات الوصول إلى قاعدة جمهور وتجنيدها، ولكن في أثناء العملية أحياناً ما تسفر هذه التغييرات عن تحولات جوهرية في هذه الحركات الهامشية ذاتها. على سبيل المثال، على مدار التاريخ كان اليمين المتطرف يدافع عن الأعراف فيما يتعلق بالأسرة ويعارض سياسات زواج المثليين. ولكن تدعي بعض الجماعات اليمينية المتطرفة أن حقوق المرأة والمثليين تمثل أساس القيم الغربية التي ترغب في حمايتها ضد أي تهديد مفترض من الإسلام- خاصة عبر تقييد الهجرة. وأعاد الأهلانيون الراديكاليون صياغة أجندتهم لجذب من يهتمون بقضايا البيئة، إذ دفعوا بأن غلق الحدود أو فرض قيود على الهجرة سوف يضع حداً للتلوث ويحفظ الموارد النادرة.
أما التغييرات التنظيمية فتتسم بحدوثها من أسفل إلى أعلى، مدفوعة بالطبيعة المختلطة لبيئة المعلومات عبر الإنترنت والتي تحرك القارئ العادي عبر إطارات عمل متفرقة. سمحت التحولات في كيفية إنتاج الدعاية المتطرفة وتوزيعها- قليل من البيانات وكثير من «المميز»- للأفراد بالتمسك ببعض أجزاء الآيديولوجيا وإعادة تركيبها في صور جديدة غير متوقعة. وبالتالي، أصبحت هناك حركة تنادي بسيادة البيض وتصف نفسها بـ«البلشفية» تدعو إلى تصفية الطبقة الرأسمالية، وأصبحت جماعات يمينية متطرفة تثني على طالبان والإرهابي مفجر الجامعات، وباتت حركة «كيو أنون» تنتشر في فصول اليوغا ومجتمعات الطب البديل، وانضمت ميليشيات مناهضة للحكومة إلى جماعات مناهضة للقاحات ذات الانتماءات اليسارية احتجاجاً على القيود والاشتراطات الإجبارية المتعلقة بجائحة كورونا.
عندما يواجه الأشخاص العاديون هذه الأفكار، سواء كانت دعاية موضوعة خصيصاً أو عبر مساعٍ عامة تضخمها وسائل التواصل الاجتماعي، فهم يضعونها داخل منظومة معتقداتهم الشخصية. وهذا نهج بعيد عن النماذج التقليدية للتحول الراديكالي الذي يتبنى فيه الأشخاص إطارا آيديولوجيا لجماعة يمكن التعرف عليها- مثل الفاشية أو النازية الجديدة- والتي تدعو إلى حلول عنيفة ضد عدو مشترك. تتضمن هذه العمليات المتجانسة طقوس انضمام وبيانات وزعماء وتسلسل قيادة يوجه المعتقدات والتصرفات. ولكن تلك العناصر مفقودة بدرجة كبيرة في نموذج التحول الراديكالي الحالي الذي يتسم بالترقيع ودعوة الأفراد لاختيار طريقهم الخاص.
عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع هذا النوع من التطرف المنتشر، سبقت عدد من الدول الأخرى الولايات المتحدة بشوط طويل، حيث أدركوا أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الأفكار المتطرفة هي التركيز على التيار السائد نفسه. تبنت كل من كندا وألمانيا ونيوزيلندا والنرويج نهجاً متعدد الطوائف، مستفيدين من الموارد والخبرات التي تملكها عشرات الأجهزة الفيدرالية وليس فقط الأمن والاستخبارات، ولكن أيضاً التعليم والعمل والصحة والخدمات الإنسانية والشباب والعائلات والخدمات الاجتماعية والثقافة والفنون. وخصصوا مليارات الدولارات لجهود بناء الثقة داخل المجتمع وتعزيز المساواة والدمج الاجتماعي ومحاربة العنصرية وتحسين التثقيف الإعلامي والتربية الوطنية حتى يتمكن المواطنون من التعرف على الحملات الدعائية والمعلومات المغلوطة ونظريات المؤامرة ومقاومتها.
تتعامل هذه المقاربات مع حركات التطرف العنيف بصفتها قضية اجتماعية توشك أن تمثل تهديداً للصحة العامة أكثر من كونها قضية أمنية. وتهتم بإدراج مكافحة التطرف والوقاية من العنف في برامج فنية مجتمعية وأندية كرة القدم وحوارات بين الأديان. ويتلقى المربون والأخصائيون الاجتماعيون الشباب وغيرهم من المتخصصين تدريباً منتظماً- يتضمن ورش عمل ومعسكرات وندوات تمولها الدولة- لتحسين معرفتهم بالمؤشرات التحذيرية وتعريفهم بالثقافة المتطرفة وتطوير استراتيجيات تعليمية. كما يدعم التمويل الحكومي خدمة الاستشارات الأسرية للأشخاص الذين يعانون من علاقات مع أفراد متطرفين سواء كانوا آباء أو إخوة أو معلمين أو أصحاب عمل.
من الصعب الوصول إلى بيانات حول مدى فاعلية هذه البرامج. ولكن عندما بدأ مركزنا للأبحاث في دراسة هذه النماذج في الولايات المتحدة، وجدت أنا وزملائي أدلة واضحة على نجاح هذه البرامج. وضعنا دليلاً لتزويد أولياء الأمور بأدوات للتدخل فيما يخص تحول الشباب إلى التطرف، ثم أجرينا تقييماً على ما تعلمه أكثر من 750 ولي أمر من قراءة هذا الدليل. وجدنا أن الأمر تطلب قراءة استغرقت سبع دقائق فقط لكي يُحَسِّن المشاركون معرفتهم واستيعابهم للتطرف والتحول الراديكالي الذي يتعرض له الشباب، مما قد يُمكنهم من التصرف على نحو ملائم عند التعامل مع شخص معرض للخطر. وأورد أكثر من 80 في المائة من أولياء الأمور المشاركين بأنهم بعد قراءة الدليل شعروا بأنهم مستعدون بشكل «أكيد»، أو «محتمل» للحديث مع الشباب حول التطرف الإلكتروني وللتدخل عند الشباب المعرضون لأفكار متطرفة. كما حققنا نجاحاً مماثلاً باستخدام محتوى الفيديو (متضمناً رسوماً متحركة) والندوات التدريبة التي عقدت إلكترونياً.
نهج جديد
في مقابل المقاربات الشاملة التي يتبعها بعض الحلفاء والشركاء، تحتفظ الولايات المتحدة بمساعيها الوقائية على وجه حصري تقريباً داخل وزارة الأمن الداخلي. ويرجع الأمر إلى أنه في واشنطن، كانت مكافحة التطرف العنيف في الماضي تعني وضع تركيز أكبر على العنف وأقل على التطرف. في عصر ما بعد 11 سبتمبر، وضع مسؤولون أميركيون مقياساً لنجاحهم بالضرورة يتعلق بمدى تحصين البلاد ضد العنف الصادر من جماعات هامشية متطرفة بالفعل. ولكن ما غفلوا عنه هو منع الناس من التحول إلى التطرف في المقام الأول.
حدث بعض التغيير في النهج الأميركي منذ اندلاع أعمال الشغب في السادس من يناير عام 2021. على سبيل المثال، أعادت وزارة الأمن الداخلي بشكل كبير تجهيز عملياتها الوقائية، حيث ضمت خبراء إلى مكاتبها الإقليمية وأصبح متخصصون مقيمون داخل المجتمعات يعملون بشكل مباشر مع مسؤولي السلامة في المدارس والقادة الدينيين وغيرهم من المتخصصين والشركاء. وفي يونيو (حزيران) الماضي، أصدرت الإدارة أول استراتيجية وطنية أميركية من نوعها لمواجهة الإرهاب المحلي، والتي تبنت نهجاً يتعلق بالصحة العامة ويتسم بتعاون أكبر بين الأجهزة المختلفة والوقاية داخل المجتمعات واستثمارات جديدة في التثقيف الإعلامي ومهارات التفكير النقدي وبرامج مستندة إلى أدلة لتعزيز «قدرة المستخدم على مواجهة المعلومات المغلوطة والمضللة عبر الإنترنت».
جدير بالملاحظة أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة أبرزت الحاجة إلى مواجهة الأسباب التي تساهم على المدى البعيد في ظهور الإرهاب المحلي ومنها العنصرية وتوفر السلاح بسهولة والمرض النفسي ونقص فصول التربية الوطنية في المدارس.
تمثل تلك خطوات جوهرية إلى الأمام في دولة أمضت عقوداً من التركيز على الجوانب الأمنية لمكافحة الإرهاب والتطرف. ولكن تحتاج إدارة بايدن إلى التعامل مع هذه الأجندة باهتمام أكبر. على الأقل تحتاج الولايات المتحدة إلى فرقة عمل مشتركة بين الأجهزة المختلفة مزودة بموارد جيدة للاضطلاع بجهود الوقاية التي تقتصر حصرياً على قطاعي الأمن والاستخبارات. ويجب أن يكون التركيز على بناء قدرة صمود ديمقراطية داخل التيار السائد، وليس فقط الحد من خطورة العنف في الحركات الهامشية. وذلك عن طريق منح سلطة اتخاذ القرار لخبراء في التعليم والعمل الاجتماعي والصحة النفسية. يجب أن تقدم واشنطن التمويل أيضاً لهذا النوع من الجهود في الولايات والمحليات، لتوضح أن مثل تلك المساعي ليست مجرد فكرة مكملة للتدابير الأمنية التي تنفق عليها أميركا مليارات لا حصر لها من الدولارات.
في غياب هذه الخطوات، سوف تستمر خطورة اندلاع عنف سياسي في التزايد. في استطلاع رأي أجري في نوفمبر (تشرين الثاني)، كان عدد المشاركين الذين قالوا إنهم قد يثقون في النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية في عام 2024 إذا خسر مرشحهم المفضل منخفضاً بدرجة مثيرة للقلق: 82 في المائة من الديمقراطيين و33 في المائة فقط من الجمهوريين. إذا لم يجد المسؤولون طرقاً لدفع الأفكار المتطرفة إلى خارج التيار السائد، قد لا تكون أعمال الشغب التي وقعت في السادس من يناير من العام الماضي وكأنها الرمق الأخير لحركات التطرف من عصر ترامب، بل ربما تبدو مقدمة لعصر من الانقسام العنيف.
* نشر هذا المقال في الأصل في «فورين آفيرز»