انطلقت في العاصمة النمساوية فيينا يوم 27 ديسمبر (كانون الأول) 2021 الجولة الثامنة من المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، التي تجري هي أيضا على مستويين، مستوى مباشر بين إيران من جهة ومجموعة دول «4+1» (روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) من جهة أخرى، ومستوى غير مباشر بين إيران والولايات المتحدة الأميركية من خلال الوسطاء الأوروبيين، وذلك منذ انسحاب واشنطن الأحادي سنة 2018 من الاتفاق المبرم سنة 2015. وإعادتها فرض عقوبات متعددة على إيران.
إن تفاؤل تصريحات مختلف الوفود المشاركة عشية بدء الجولة الثامنة لم يخف حقيقة أن الانطباعات الأولية عن مجريات الجلسة الأولى لهذه الجولة لا تعكس مطلقا ذلك التفاؤل في ظل استمرار نفس المواقف المعبر عنها غداة انتهاء الجولة السابعة، والتي اتسمت بالارتياب والتشكيك المتبادلين، بشكل عكس وجود اختلاف كبير في وجهات نظر الأطراف المتفاوضة بشأن مآل هذه المفاوضات، وذلك نتيجة تباين الأهداف التي يتوخاها كل طرف، بما في ذلك أهداف دول مجموعة «4+1».
وعلى غرار ما حصل في الجولات السابقة، فإن التصريحات الإيرانية الأخيرة أكدت من جديد أن طهران لا تبحث من خلال التفاوض الراهن سوى عن:
* العودة إلى اتفاق سنة 2015 دون زيادة أو نقصان بشكل يسمح برفع كامل العقوبات المفروضة عليها أميركيا وأوروبيا وخاصة على تصدير النفط والغاز، إضافة إلى التنصيص على ضمانات تمنع العودة إلى أي عقوبات في المستقبل فور التوصل إلى اتفاق جديد.
* الاحتفاظ بقدراتها النووية مقابل التزامها بتقديم ما تسميه أقصى الضمانات على سلمية برنامجها، وفتح أماكن وجود كافة مكونات هذا البرنامج أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون تقييد لحركتهم. وقد حاولت في هذا الإطار تسويق اتفاقها مؤخرا مع الوكالة الدولية بشأن تركيب كاميرات مراقبة جديدة في منشأة كرج كدليل على حسن نواياها، وكخطوة مبدئية في اتجاه تبديد المخاوف المثارة حول برنامجها النووي.
* الامتناع عن مناقشة مواضيع جانبية أخرى خارج نصوص الاتفاق النووي الأول، وخاصة ما يتعلق بقدراتها الصاروخية الباليستية، وأدوارها الإقليمية ؛ وهي مواضيع تثيرها، كما تدعي طهران، أطراف غير معنية أصلا بالموضوع النووي، في اتهام واضح إلى كل من إسرائيل وبعض الدول العربية التي طالبت بالمشاركة في التفاوض بأي صيغة ممكنة دون أن يلقى طلبها تجاوبا إيجابيا.
وإذا كانت كل من روسيا والصين قد أبدت تفهمها للموقف الإيراني إلى حد كبير، معتبرة أن أصل المشاكل التي تعترض طريق التفاوض يكمن في النهج الأميركي المتذبذب، ورافضة مواكبة المفاوضات بأي ضغوط أو تهديدات؛ فإن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية ترفض بقاء المفاوضات أسيرة حلقة مفرغة من المقترحات والمقترحات المضادة.
ولكن رغم الصرامة التي تبدو على المواقف الأوروبية والأميركية من خلال تكرار الحديث عن وجود بدائل في حالة اليأس من المفاوضات الجارية، والتلويح بين الفينة والأخرى بإمكانية اللجوء إلى وسائل أخرى؛ إلا أن تعمد إبقاء هذه الوسائل غامضة وغير محددة، والتأكيد مقابل ذلك على الرغبة في التشبث بالدبلوماسية كوسيلة مثلى، وكخيار أفضل لحل المشاكل العالقة ومن دون تحديد سقف زمني للتفاوض يشي بأن القوى الغربية لا تتوفر على بدائل ناجعة ورادعة في حال إعلان فشل المفاوضات.
ولا شك أن إيران ترى في هذا التذبذب الذي يعتري مواقف القوى الغربية نوعا من التهافت، الذي ينبغي استغلاله على طريقة كوريا الشمالية المتمثلة في مواصلة الأبحاث مع تمديد أمد المفاوضات بغية كسب المزيد من الوقت لاستكمال كافة عناصر البرنامج النووي بما في ذلك رفع نسبة التخصيب إلى مستوى 90 في المائة، ووضع العالم بعد ذلك أمام الأمر الواقع لقبولها كقوة نووية ولو على الصعيد الافتراضي.
والملاحظ أنه على عكس مواقفها المهادنة لإيران، فإن العواصم الغربية وخاصة واشنطن لا تتردد في توجيه الانتقادات اللاذعة أحيانا لتصريحات وتصرفات بعض الأطراف الإقليمية التي هي إما متضررة أو متوجسة منذ زمن بعيد من عموم السلوك الإيراني في المنطقة إن كان بشكل مباشر أو من خلال التوترات التي تذكيها جماعات وميليشيات مسلحة تدين بالولاء لنظام الملالي، وتعمل على تنفيذ أجندته في عدد من البلدان العربية.
ومن المؤكد في سياق إصرار إيران على امتلاك ناصية دورة وقود نووية كاملة، وبنسبة تخصيب عالية لليورانيوم، وتخاذل القوى الدولية في لجم هذا الإصرار عبر اتخاذ إجراءات كفيلة بإخضاع المنشآت النووية الإيرانية من دون استثناء للتفتيش الدولي، الدوري والدقيق وغير المقيد، فإن المنطقة ستشهد فورة في سباق التسلح الكمي والنوعي لن يكون بالإمكان كبحها، إذ لا أحد سيقبل تغيير معادلات التوازن الإقليمي لفائدة طرف على حساب الأطراف الأخرى.
إن دول المنطقة خلافا للقوى الكبرى تدرك جيدا أن النظام الثيوقراطي في طهران عاقد العزم على امتلاك قدرات نووية كاملة لاعتقاده الراسخ بأنها تؤمن له المزيد من الشرعية الداخلية المتآكلة نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، وتمنحه الهيبة الخارجية بما يتيح له التمادي في تصدير ثورته. ولهذا لم يكن مفاجئا إقدام دول مجلس التعاون الخليجي في الآونة الأخيرة على تكرار التحذير من مغبة اندلاع أزمة ونزاع حول البرنامج النووي الإيراني، الذي بات في حكم اليقين أنه مصمم لأغراض عسكرية ولا علاقة له بتلبية أي احتياجات مدنية.
وغير خاف على أحد أن من شأن نزاع كهذا أن يقضي على ما تبقى من استقرار هش في منطقة الشرق الأوسط كلها، وعلى كل استراتيجيات مكافحة الإرهاب. فهل هذا هو المطلوب؟