القامشلي: لم يكن عمل النساء السوريات في الزراعة في مناطق شتّى من بلادهن، شيئا غريباً، فهن يعملن في قطاف المحاصيل الزراعية كالقطن والعدس والفول والزيتون منذ سنوات، لكن الحرب الحالية التي اندلعت في البلاد وتلت احتجاجات شعبية طالبت بإسقاط رئيس النظام السوري بشار الأسد في مارس (آذار) من العام 2011. زادت من أعداد النساء العاملات في الحقول والبساتين التي تزرع فيها الحمضيات والخضراوات، كما هي الحال في أرياف اللاذقية وطرطوس وحلب والرقة والحسكة وإدلب وغيرها من المناطق الريفية.
وقال عدد من النساء اللواتي يعملن في قطف الزيتون في أرياف محافظة إدلب الواقعة شمالي البلاد والتي تخضع لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) وهي ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، إن «العمل في قطف الزيتون أو حتى تنظيف مزارعها من الأعشاب الضارة، بات الوسيلة الوحيدة لتأمين قوت يومنا بعد اضطرارنا للعمل من أجل إعالة أسرنا».
يحصل هؤلاء النساء على أجرتهنّ بالليرة التركية بعدما اعتمدت كامل المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الجيش التركي، على هذه العملة عوضا عن الليرة السورية، والواحدة منهنّ تحصل على ما يتراوح بين 15 إلى 20 ليرة تركية يوميا وهو ما يعادل نحو 1.5 دولار أميركي، وفق سعر الصرف الرسمي لليرة التركية التي تشهد تراجعا في الآونة الأخيرة.
وتقول امرأة أخرى تعمل في قطاف الزيتون لـ«المجلة» إن «النساء في مناطقنا كنّ يعملن سابقا في مزارع الزيتون التي تعود ملكيتها لعائلاتهنّ فقط، لكن بعد نزوح العائلات من بلدة إلى أخرى نتيجة الحرب، أُرغِمت النساء على العمل في مزارع الآخرين لإعالة أسرهن خاصة أولئك الذين فقدوا أزواجهنّ أو معيلهنّ».
وتضيف أن «عدد النساء العاملات زاد بالفعل وهو ما أدى عمليا إلى انخفاض أجرتهنّ سيما وأن مزارعٍ كثيرة حُرِقت، وبالتالي زاد عدد العاملات مقارنة مع المزارع التي يمكنهن العمل فيها، ولهذا باتت أجرتهنّ منخفضة لعدم وجود طلبٍ على اليد العاملة».
وبحسب رواية هذه السيدة السورية التي تعمل في قطاف الزيتون وتنظيف مزارعها من الأعشاب الضارة، فإن الرجال أيضا يعملون في هذا المجال، لكن أعداد النساء أكثر منهم بكثير، وفقا لمشاهداتها اليومية.
وتقود هذه السيدة فريق عمل يتكون من عشرات النساء وهي التي تتفق مع أصحاب المزارع على أجرتهن ومدّة العمل. وفي النهاية هي التي تحاسب العاملات مقابل حصولها على نسبة من أجورهن لكونها هي التي قامت بتأمين هذا العمل لهنّ.
الاستيلاء على بساتين السكان الأصليين
تعد محافظة إدلب معقلا لمزارع الزيتون، حالها حال مدينة عفرين السورية ذات الغالبية الكردية. لكن المواجهات العسكرية التي حصلت في هاتين المنطقتين نجم عنها احتراق آلاف الهكتارات التي زُرِعت فيها أشجار الزيتون والفستق الحلبي والرمّان.
كما أن جماعاتٍ مسلّحة مؤيدة لتركيا ومعارضة للأسد، سيطرت على مزارع زيتونٍ وبساتين هُجِر أصحابها من المنطقة.
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخّذ من بريطانيا مقرّا له أن «مشاهد الاستيلاء على مزارع الزيتون وسرقة محاصيلها باتت تتكرر في مدينة عفرين وأريافها»، منذ سيطرة الجيش التركي والجماعات المسلّحة المؤيدة له على المدينة الواقعة شمال غربي سوريا في مارس من عام 2018.
وتعمّدت الجماعات المسلّحة المؤيدة لتركيا على قطع الأشجار وبيعها لاحقا كحطبٍ للتدفئة، وذلك بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان وسكانٍ محليين تحدّثوا إلى «المجلة».
وقال رجل كردي ينحدر من عفرين إن «المسلّحين المؤيدين لتركيا استولوا على 50 شجرة زيتون تعود ملكيتها لي وتمّ منعي من جني محصولها، وهو أمر تكرر مع بعض أقربائي أيضا والذين تمّ منعهم من جني محاصيل أشجارهم».
ولم يتوقف الأمر لدى مزارع الزيتون وحدها، فقد استولت الجماعات المؤيدة لأنقرة على بعض معاصر الزيتون أيضا وتمّ منع أصحابها من العمل فيها، بحسب ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أيضاً.
الموت بات عاديا
في مناطق سورية أخرى، تواجه العاملات في الزراعة تحدّياتٍ كبيرة، فبعضهن يعملن على خطوط المواجهة العسكرية بين قوات النظام السوري ومعارضيه، كما هي الحال في أرياف حماة وحلب. وكذلك هناك من يعمل في الزراعة على خطوط المواجهة بين الجيش التركي وقوات سوريا الديمقراطية. وهو ما يعرض حياة العاملات إلى الخطر.
وتقول شابة تنحدر من ريف مدينة منبج الواقعة شمال حلب إن «العمل في الزراعة هو الفرصة الوحيدة التي يمكنني من خلالها تأمين قوت يومي، خاصة أنني لم أتمكن من إتمام تعليمي منذ المرحلة الإعدادية، وبالتالي ليس أمامي أي خيار سوى العمل في الزراعة كجني المحاصيل أو تنظيف المزروعات من الأعشاب الضارة».
وتعمل هذه الشابة في ريف منبج مع مجموعة نسائية في حقولٍ زراعية تقع بالقرب من خط المواجهة بين الجيش التركي وقوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ«قسد» والمدعومة من الولايات المتحدة.
ويبدو أن حصول مواجهاتٍ بالقرب من أماكن عملها، بات أمرا عاديا بالنسبة إليها، فتقول لـ«المجلة»: «لقد قُتِل كثيرون وجُرِح آخرون بعد تحرير هذه المنطقة من تنظيم داعش، نتيجة انفجار الألغام التي كان قد زرعها التنظيم في الأراضي الزراعية، ولهذا بات الموت عاديا والمواجهات المسلّحة التي تحصل بالقرب منا باتت أقل خوفاً».
وبحسب شهادة هذه الشابة وغيرها من العاملات في الزراعة، فهن لا يتوقفن عن العمل صيفا وشتاءً، فالكثير من المزروعات في مناطقهن تكون موسمية، وبالتالي هناك حاجة للعاملات في كلّ وقت، خاصة عند قطاف الزيتون والقطن والفول، والعدس، والبصل، والحمضيات.
وتحصل هذه الشابة على 500 ليرة سورية مقابل كل يوم عمل، وهو ما يعادل أقل من ربع دولارٍ أميركي.
كما طالبت السلطات المحلية بدورها، بافتتاح أماكن لتدريب النساء في مهنٍ لائقة كالخياطة والتطريز وغيرها من المهن التي لا تحتاج إلى دراسة أكاديمية، لتحسين واقع النساء السوريات ومنعهن من ممارسة الأعمال الشاقة.
وتضيف لـ«المجلة»: «أعمل منذ شروق الشمس حتى غروبها مقابل مبلغ زهيد، لكن عند اعتراضنا على ذلك يقول الشاويش بإمكانكن التوقف عن العمل على الفور، ولذلك نضطر على الاستمرار في أعمالنا».
و«الشاويش» هو من يشرف على عمل العاملات في الزراعة ويحصل على أجرة أكثر منهنّ دون أن يعمل مثلهنّ في الحقل. لكنه أيضا الشخص الذي يتفق مع صاحب الأرض على عدد العاملات وعدد أيام عملهن.
العمل في الزراعة الفرصة الوحيدة!
تقول شابة سورية تعمل في مهنة الزراعة بمدينة الرقة لـ«المجلة»: «منذ تحرير المدينة من تنظيم داعش، بات العمل في الزراعة، فرصة العمل الوحيدة بالنسبة لسكان المنطقة لا سيما بعد الدمار الذي لُحِق بالمدينة وتهجير سكانها، مما أدى بدوره لتوقف مختلف المشاريع الصناعية والخدمية، ولذلك لم يعد أمامنا سوى العمل في الزراعة وهي مهنة لا تنحصر على النساء فقط، وإنما الرجال أيضاً».
وتضيف: «في الأصل تعد الزراعة في مدينة الرقة وأريافها مصدرا رئيسيا للدخل لعموم السكان، لكن بعد هجرة معظم الرجال والشبان من المدينة لقلة ظروف العمل فيها، تحوّلت هذه المهنة لمصدر دخلٍ أساسي للنساء، ورغم ذلك لا يكاد العمل في الأرض وحده يؤمن قوت يومنا، فأنا على سبيل المثال أعتمد إلى جانب عملي في الحقول على بعض الأموال التي يرسلها لنا شقيقي من عمله في إقليم كردستان العراق».
وتشدد على أن «العمل في الحقول الزراعية والمزارع يكاد يكون المهنة الوحيدة التي يقبلها المجتمع هنا في الرقة خاصة أن المدينة ذات طابعٍ عشائري، ولهذا يبدو الإقبال عليها كبيرا مع انعدام فرص العمل في المجالات الأخرى».
وتجدر الإشارة إلى أن منظمات محلية ودولية طالبت مراراً، بتحسين ظروف النساء السوريات العاملات في الحقول ومنعهن من العمل في أماكن زُرِعت فيها الألغام أو تقع بالقرب من خطوط المواجهة. لكن الفقر يرغم أغلبهن على العمل في هذه الظروف، وفق شهاداتهن لـ«المجلة».
وأودت الألغام بالفعل بحياة عشرات النساء، فخلال العام الحالي فقط، قُتِلت 13 امرأة سورية في وسط البلاد، بعدما انفجرت ألغام في أماكن بحثهنّ، عن محصول «الكمأة» التي تظهر عادة في الأماكن الخالية غير المزروعة.
ولا يعد عمل النساء في الحقول الزراعية الواقعة في مناطق تخضع لسيطرة المعارضة، آمنا أيضاً، فهن يعملن على خطوط المواجهة بين قوات النظام ومعارضته في مناطق تقصف بشكلٍ مستمر وهو ما يجعل العمل في مثل هذه الظروف أشبه بالانتحار، ففي 12 مارس (آذار) الماضي، قُتِلت امرأة وأصيبت اثنتان بجروح جراء قصف قوات النظام لبلدة تقع في ريف إدلب الجنوبي، حيث كانت الضحايا تعمل في حقولٍ زراعية.
وبحسب تصريحاتٍ لجمال القادري رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال لدى النظام السوري، نقلتها صحيفة «الوطن» السورية شبه الحكومية قبل أشهر، فإن 70 في المائة من إجمالي العاملين في سوريا من النساء. وهذه الإحصائية تعود لمطلع العام الجاري.
وارتفعت نسبة النساء العاملات في قطاعات مختلفة في سوريا على خلفية فقدان مئات النسوة أزواجهن في الحرب الدائرة في البلاد، أو فقدان ذويهن وهو ما جعلهن مستقلاتٍ اقتصاديا دون وجود معيلٍ لأسرهنّ. وهنّ في المجمل يعملن في مهنٍ لا يرفضها المجتمع كعملهنّ في الحقول الزراعية والمزارع.
ومع دخول منظمات المجتمع المدني بكثافة إلى سوريا بعد الحرب، ساهمت هذه المنظمات على منح النساء مشاريع صغيرة في مجالاتٍ متعددة بينها الزراعة خصوصا في المناطق الريفية التي تكون فيها الزراعة مصدر الدخل شبه الوحيد. وهو ما ساهم أيضا في ارتفاع عدد النساء العاملات في المناطق التي دخلتها منظمات المجتمع المدني غير الحكومية.