لم تعد للصراعات المحتدمة في عدد من مناطق العالم العربي خطوطا حمراء، تستوي في ذلك الصراعات العسكرية، وتلك التي تدور سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا على أكثر من واجهة وفي مختلف المحافل الإقليمية والدولية. ولهذا أصبحت القوى المتصارعة أو المتنافسة سواء المنتمية لنسيج المنطقة أو المجاورة لها، وحتى تلك الدخيلة عليها تلعب بأوراق مكشوفة ولغايات معلنة ومعروفة.
فالقوى الدخيلة على المنطقة العربية في معظمها قوى عظمى وبأهداف كونية، تسعى إلى تأمين مصالحها وتعظيمها، وتعمل في ذات الوقت على تحجيم نفوذ القوى المناوئة لها أو المتمردة عليها وحصره إن لم تستطع محاصرته؛ فيما القوى الإقليمية المجاورة لا تبحث عن تأمين المصالح فقط، وإنما تغريها الأطماع لتوسيع الإشعاع، باحثة عن الاستفادة القصوى من الفراغ الكبير الحاصل في المنطقة، وآملة في توظيف ذلك كورقة في صراعاتها المختلفة، خاصة وأنها استطاعت النفاذ إلى العالم العربي من زاوية المعطيات الدينية والمذهبية التي تشترك فيها مع بعض الدول العربية.
ولا شك أن معظم الدول العربية على بينة بأهداف وغايات كافة القوى الفاعلة والمتفاعلة مع كيانات المنطقة، ومع التطورات الجارية فيها، وتعرف كيفية التمييز بين الأهداف والغايات التي تروم التعاون معها، وتلك التي تستهدفها ؛ ولكنها في أغلب الحالات تتصرف إزاء هذه الأخيرة درءا لخطرها ولتحييد تأثيراتها السلبية بشكل منفرد، وفي أحسن الظروف بتنسيق ثنائي ضيق ومؤقت، وبشكل حذر أحيانا.
وغير خاف على أحد أن تصرف أي دولة في قضاياها المصيرية والحساسة سيظل محدودا إذا كان منفردا، كما أن تكلفة فاتورة ذلك التصرف ستكون مرتفعة على كافة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية والدبلوماسية؛ الأمر الذي يشكل استنزافا متواصلا لإمكانياتها، خاصة إذا كانت تلك الإمكانيات محدودة، وكانت الدولة المعنية تحتاج كل مواردها بغية تنفيذ برامجها التنموية.
إن هذا الواقع العربي وما يتسم به من عدم الثقة أو محدوديتها بين الأقطار العربية، والذي أدى إلى اتساع فجوة فراغ القوة العربية الذاتية أغرى القوى الدولية والإقليمية كل حسب طاقاتها للتمدد في المنطقة على حساب كياناتها، ولاستغلال تلك الكيانات أو لتوظيفها لتحقيق مصالحها، وفي أغلب الأحيان على حساب كيان عربي آخر يفترض أن يتضامن أشقاؤه معه لا أن يتواطأوا مع الآخر ضده.
لقد أثبتت تجارب العشر سنوات الأخيرة أن ضراوة التدخل الأجنبي الدولي والإقليمي في الشؤون العربية قد تضاعفت؛ وذلك في أعقاب ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، وما خلفته من هشاشة سياسية واجتماعية في معظم الأقطار، التي لم تعد محصنة كما كانت من قبل بعد أن تعرضت لاستنزاف حاد لطاقاتها، وغدا بعضها مجرد ساحات لصراعات الآخرين لتصفية حساباتهم.
والملاحظ أن القوى الأجنبية رغم ضراوة تدخلاتها، وأحيانا تضارب مصالحها لم تصطدم فيما بينها إلا نادرا، بما في ذلك الأطراف التي تدعي دوما وجود عداوة متبادلة بينها؛ بل إن أكثر من اصطدام كان فرصة للتفاوض بين أطرافه لتحديد مجالات نفوذها بشكل يقود إلى الاعتقاد بأن الهدف الأسمى لكافة التدخلات الأجنبية يتمثل إبقاء المنطقة في حالة عدم استقرار دائم، أعصاب أهلها متوترة وقدراتها عرضة للمزيد من الاستنزاف.
في المقابل، فإن الجانب العربي يسوده التشرذم، وأحادية التصرف بشكل تبدو دوله وكأنها معزولة عن بعضها البعض، وحتى عندما تقتضي ظروف إحداهن ممن لم تصنف مارقة أو فاشلة إعلان التضامن معها، يتم ذلك عبر بيانات رسمية وتصريحات صحافية معظمها غير جدي، وغير متبوع بإجراءات تضامن فعالة، مما يؤكد أن اتخاذه تم لرفع العتب فقط.
صحيح أن لكل دولة عربية مصالح وقضايا مصيرية وحساسة يمكن أن تكون متعارضة مع قضايا ومصالح دولة عربية أخرى، مما يضع باقي الدول في حرج بين الدولتين المعنيتين، وخاصة عند تعنت إحداهن وتطرف مواقفها، ولكن هناك قضايا مشتركة وعامة يعتبرها المجتمع الدولي، وخاصة الدول الغربية نقطة ضعف يجري توظيفها دوما ضد كافة الدول العربية بلا استثناء، ومهما كانت طبيعة نظامها.
وأبرز هذه القضايا تلك المرتبطة بحقوق الإنسان ليس فقط السياسية، وإنما حتى تلك المتعارضة مع القيم الدينية والأعراف الاجتماعية للمجتمعات العربية، إذ يلاحظ إصرار غربي كبير على توظيف مفاهيم حقوق الإنسان بطريقة انتقائية لمحاولة حشر هذه الدولة أو تلك في زاوية معزولة عن باقي الدول لتعريضها أكثر للابتزاز، دون النظر إلى ما تكون قد أنجزته هذه الدولة من تطورات في مجال حقوق الإنسان بمختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن استخدام حقوق الإنسان كمطية للتمادي في التدخل في شؤون العالم العربي مرشح للتصاعد بشكل يفرض على دوله إعادة النظر في مقارباتها المنفردة والأحادية لمواجهة الضغوط والتدخلات الأجنبية في قضاياها. فالواجب يحتم الآن التوجه نحو إعادة النظر في ترتيب كامل وشامل للبيت العربي، والعمل على تنقية الأجواء من أجل السعي إلى بلورة موقف جماعي وموحد كفيل بـ:
1- فرملة محاولات عزل الدول عن بعضها البعض لوقف عملية الاستفراد بكل واحدة منها بعيدة عن الأخريات، وإخراجها من متاهة الاستنزاف التي تدور في حلقتها المفرغة دون أمل في كسرها.
2- تبديد الشكوك المتبادلة القائمة بين أكثر من دولة تمهيدا لحل الخلافات بينهما أو على الأقل تجميدها ومنع تفاقمها.
فالهدف هو أن يعي العرب بأنهم قد يؤكلون الواحد تلو الآخر، وسيندمون يوم لا ينفع الندم على عدم التحرك يوم أكل الثور الأبيض منهم. فهل سيدركون أنه ما لهم غير بعضهم البعض؟