ديزموند توتو كان محبا للسلام ويسعي له في أحلك الظروف. ديزموند توتو، هذا الأسقف والعالم اللاهوتي عُرف بنشاطه المناهض لنظام الفصل العنصري أو الأبارتايد الذي كان معمولا به في جنوب أفريقيا. وهو نشط في مجال حقوق الإنسان أيضا في بلاده والعالم، إذ اهتم بقضايا تخطت جنوب أفريقيا، فكان مدافعا عن حقوق المثليين، وانغمس في نشر الوعي حول مرض الإيدز كما كان متابعا للصراع العربي الفلسطيني وبعد اتفاق أوسلو تمت دعوته لمركز بيريز للسلام كما كان عضو في لجنة التحقيق الأممية لتقصي الحقائق حول حادثة بيت حانون في قطاع غزة عام 2006 والتي قتل فبها الجنود الإسرائيليون 19 فلسطينيا. تم تعيينه أسقف جوهانسبرغ من عام 1985 إلى عام 1986 ثم رئيس أساقفة كيب تاون من عام 1986 إلى عام 1996 وهو أول أفريقي أسود يشغل هذا المنصب.
توتو كان يمقت العنف ولا يحبذ المقاومة العسكرية ضد نظام الأبارتايد الظالم والمجرم بحق أكثرية شعب جنوب أفريقيا. قاد مظاهرات عدة وأوقف مرات عدة كما سحبت السلطان الجنوب أفريقية منه جواز سفره في أكثر من مرة أيضا خاصة عندما طالب بإنزال عقوبات اقتصادية على حكومة بلاده العنصرية. ووقّع على عريضة للإفراج عن نيلسون مانديلا، وكانت توقيعه على تلك العريضة بداية العلاقة بين الرجلين من خلال تبادل الرسائل. بعد خروج مانديلا من السجن قاد معه المفاوضات مع رئيس جنوب أفريقيا دوكليرك لإنهاء نظام الفصل العنصري.
شهرته وشعبيته في بلاده لم تكن تضاهيها سوى شعبية صديقه نيلسون مانديلا. حصل على جائزة نوبل للسلام في العام 1984. ولكن يبقى عمله الأهم برأيي مع مانديلا الحؤول دون اشتعال الحرب الأهلية في بلاده ونشر ثقافة السلام بين الشعب.
فقد يكون أصعب ما واجهه الرجلان هو مرحلة ما بعد نظام الفصل العنصري، فكمّ الجرائم الذي ارتكبه رجال هذا النظام وكمّ الظلم الذي مارسوه ضد السود شكلا فتيلا لحرب أهلية نجحت في إطفائها حكمة الرجلين وطبعا مكانتهما لدى الشعب الجنوب أفريقي.
في العام 1990. نظم توتو «قمة» لكل من قادة الكنيسة وقادة الجماعات السياسية مثل ANC وPAC وAZAPO، حيث شجعهم على حثّ مؤيديهم على تجنب ممارسة العنف. وبعيد اغتيال كريس هاني زعيم الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، ترأس توتو مراسم الدفن على الرغم من اعتراضاته على ماركسية هاني، كرسالة ضد العنف والاغتيال السياسي.
عندما فاز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في الانتخابات وأعلن مانديلا رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية في أول انتخابات ديمقراطية جرت بعد سقوط نظام الفصل العنصري حضر توتو حفل تنصيب مانديلا في شقها الديني، وأصر على مشاركة كل القادة الروحيين المسيحيين والمسلمين واليهود والهندوس.
وصف ديزموند توتو جنوب أفريقيا بـ«أمة قوس قزح» بعد سقوط نظام الفصل العنصري وهو كان استخدم هذا التشبيه قبلا في العام 1989 عندما وصف حشدا احتجاجيا متعدد الأعراق بأنه «شعب قوس قزح الله».
مسيرته كلها حافلة بالنشاط المسالم والاعتراض غير العنفي. ترأس بين العامين 1996 و1998 لجنة الحقيقة والمصالحة واقترح توتو أن تتبنى تلك اللجنة نهجا ثلاثي الأبعاد: الأول هو اعتراف مسؤولين في ظل النظام العنصري بقيامهم بأعمال انتهكت حقوق الإنسان والكشف عن أنشطتهم بالكامل، والثاني هو العفو القانوني من الملاحقة القضائية لطالبي العفو، والثالث هو طلب الجناة الغفران من ضحاياهم.
في طرفة شهيرة ومضحكة في آن انتقد توتو ميل مانديلا لبس قمصان ماديبا ذات الألوان الزاهية، والتي اعتبرها غير مناسبة فجاءه رد الأخير بأنه من سخرية الاقدار أن يأتيه هذا الانتقاد من رجل يرتدي فستانا في إشارة إلى زي رجال الدين المسيحيين الذي كان يرتديه توتو.
يرحل ديزموند توتو عن هذه الدنيا مطمئنا أن بلاده نجحت في تجاوز مرحلة خطرة بفضل جهود مجموعة آمنت بالسلام كان هو ضمنها.
كان توتو يقول: إن أحد أسباب نجاح جنوب أفريقيا في تفادي الحرب الأهلية والصراعات المسلحة هو وجود قادة مستعدين لتقديم تنازلات غير شعبية على مستوى الجماهير، لأن لديهم الحكمة لمعرفة أن تلك القرارات ستجعل السلام ممكنا في نهاية المطاف.
كم إن العالم بحاجة لأمثال توتو ورفاقه اليوم...