السياسة المالية في دول مجلس التعاون الخليجي في ظل الأزمة المالية العالمية الراهنة

السياسة المالية في دول مجلس التعاون الخليجي في ظل الأزمة المالية العالمية الراهنة

[escenic_image id="556053"]

أدت الأزمة المالية الحالية إلى صدور ردود أفعال متباينة فيما يتعلق بالسياسة المالية فى دول مجلس التعاون الخليجي،عند مقارنتها بفترات سابقة شهدت تراجعا فى معدل النمو الاقتصادى. فى الحقيقة، تشير الإجراءات المتخذة من جانب حكومات دول مجلس التعاون الخليجي والهيئات المالية بوضوح إلى سياسة مالية معاكسة للتقلبات الدورية.

أدت الأزمة المالية العالمية الراهنة إلى حدوث تحول كبير فى السياسة المالية فى دول مجلس التعاون الخليجي. فمن الناحية التاريخية، كانت السياسة المالية فى دول مجلس التعاون الخليجى مسايرة للتقلبات الدورية. ففى الماضى، كان معدل إنفاق حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أقل عندما انخفض معدل النمو الاقتصادى وكان معدل إنفاقها أعلى عندما ارتفع معدل نموها الاقتصادى، مما كان يدفع الاقتصاد فى نفس الاتجاه الذى كان يسلكه بالفعل. هذا الاطار من السياسة يعد دون المستوى الأمثل سواء فى الاقتصاد المتنامى أو المنكمش لأنه إما يزيد التضخم أو يتسبب فى تفاقم الركود.

والسبب فى أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجى قد تبنت تاريخياً هذا الموقف المالى المساير للتقلبات الدورية هو أن الدخل الحكومى فى دول مجلس التعاون الخليجى يعتمد بشكل كبير على مصدر خارجى وهو عائد النفط الذى يخضع لتقلبات كبيرة. ولأن الدخل الحكومى لا يعتمد على قاعدة الضرائب المحلية، فإنه لا يمكن اعتباره بشكل أساسى نتيجة من نتائج النشاط الاقتصادى المحلى. ومن ثم، فإنه بدلاً من أن يحدد مستوى النشاط الاقتصادي المحلى، فإن في السياسة المالية، يحدث العكس تماماً. ولذلك، فإن السياسة تساير هذه التقلبات الدورية لأنها تدفع هذه الدورة، بدلآمن أن تكون مدفوعة بها.

وبالنسبة لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي فإن هذا معناه ببساطة أن الازدهار والكساد كثيراً ما يكونان أكبر من حجمهما لأنه لم يحدث أن كان الحكومات أية وسائل لتهدئة فورة الازدهار أو تخفيف حدة الكساد. ولمزيد من الاختبار لصحة هذه الفكرة، اطلعت على أعلى حالات الازدهاروالكساد فى اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجى منذ عام 1946. فمنذ ذلك الوقت، تغير سعر النفط بمعدل أكثر من 30% فى عام واحد فقط خمس مرات بين ارتفاع وانخفاض – وهى أعوام 1973، 1980، 1986، 200، 2008.

وكانت الصدمة سلبية فقط فى عامى 1986 و 2008. ففى عام 1986،خفضت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي الإنفاق استجابة للصدمة، وهذا يعد مثالاً على السياسة المسايرة للتقلبات الدورية والتى جعلت الكساد أشد وطأة مما كان سيصبح عليه الحال لو استطاعت الحكومات اتباع سياسة معاكسة للتقلبات الدورية. وقد نشر صندوق النقد الدولى ورقة عمل فى نوفمبر من عام 2008 كشفت عن نتيجة مماثلة باستخدام بيانات الفترة مابين 1991-2007.

ففى ظل المناخ الراهن، أدت أربعة تحولات كبرى فى بيئة صنع السياسات الاقتصادية إلى ظهور سياسة مالية معاكسة للتقلبات الدورية فى دول مجلس التعاون الخليجي. فقد أعلنت جميع دول مجلس التعاون الخليجي عن توقعات بحدوث عجز كبير فى ميزانية 2009. وأعلنت دولة واحدة منها على الأقل، وهى الإمارات العربية المتحدة عن أعلى ميزانية حكومية. وتعد هذه الإجراءات مؤشراً واضحاً ومبكراً على سياسة مالية معاكسة للتقلبات الدورية.

كان أول وأهم تحول هو ظهور الصناديق السيادية ونموها إلى درجة النضج. ففى حين امتلكت جميع دول مجلس التعاون الخليجي هذه الصناديق فى عام 1986، فلم تكن بنفس الحجم أو التطور المؤسسي التى هى عليه الآن. فالخبرة والحجم والثقة عوامل تمكن هذه الصناديق من توفير قاعدة صلبة تستطيع من خلالها دول مجلس التعاون الخليجي التعامل مع العجز المالى المستدام وذلك لمواجهة آثار تراجع الاقتصاد العالمى حالياً.

وقد أصبحت بعض الصناديق السيادية كبيرة بما يكفى لتصبح بمثابة قوى هامة فى تحقيق الاستقرار. وفى حين أن توافر معلومات عن هذه الصناديق أمر محدود، نجد أن الصندوق السيادى النرويجى يقدر بنحو 300 مليار دولار أمريكى؛ وهو ما يزيد على الناتج الاقتصادي السنوى للدولة. وحتى لو افترضنا العائد المنخفض نسبيا لتلك الصناديق، فإنها يمكن أن توفر حماية من الانخفاضات الكبيرة إلى حد ما فى الناتج الاقتصادى.

ففى حالة النرويج ، يعطى العائد الذى يقدر ب 7% على أصول الصندوق السيادى احتياطياً يبلغ حوالى 9% من الناتج المحلي الإجمالى. وبالتالى يمكن لهذه الصناديق توفير مصدر للإنفاق أثناء العجز يكون مستداماً على المدى المتوسط .

لقد كان سر نجاح هذه الصناديق فى توفير مصادر للاستقرار متمثلاً فى فصلها عن عملية الميزانية العادية. فالتحول إلى الصناديق السيادية فى الكثير من الدول، يجعل الأموال غير متاحة للإنفاق الحكومى التقديري. ويؤدى هذا إلى منع حدوث فوائض مبالغ فيها فى  أوقات ارتفاع أسعار النفط، كما أنه يعد أيضاً بمثابة مصدرا للاستقرار عند انهيار أسعار النفط.

والتحول الثانى الذى أدى الى تفعيل السياسة المالية المعاكسة للتقلبات الدورية هو الاستثمار الضخم من جانب دول مجلس التعاون الخليجي فى مجال البنية التحتية المحلية. فهذه الاستثمارات تهيئ السبيل أمام السياسة المعاكسة للاتجاه الدورى بإحدى طريقتين. فأولاً تقوم هذه الاستثمارت بتأسيس اقتصاد قائم على الضرائب، أو على الأقل اقتصاد تقوم فى ظلمه الحكومات بالحصول على عوائد من النشاط الاقتصادي المحلى بطريقة ما من خلال رسوم معينة تفرضها على المستفيدين. ولأن استخدام البنية التحتية، كما هو الحال فى استخدام الطرق نظير مقابل يتم دفعه على سبيل المثال، لا يستجيب بمرونة للتغيرات فى معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذه الايرادات تكون أقل تقلبا من عائدات النفط.

 وثانياً، غالباً ما تمثل هذة الاستثمارات في البنبة التحتية قرارات طويلة الأجل لا يمكن التراجع عنها بسهوله بمرور السنوات. فعلى سبيل المثال فإنه متى تم الالتزام بمشروع لتشغيل مترو أنفاق أو بناء إحدى الجامعات، فسيستمر تنفيذ المشروع حتى في فترات الكساد. ولن يتوقف إلا في ظل أشد الظروف وطأة.

والنقطة الثالثة مرتبطة بالنفطة الثانية وهى أن الإنفاق الاستهلاكي يمثل نسبة أقل من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي ليس هناك مجال كبير لتقليل الإنفاق من قبل دول مجلس التعاون في ظل الأزمة المالية ففي الفترات السابقة كان الإنفاق الاستهلاكي يهيمن على الإنفاق في اقتصاديات تلك الدول خلال الفترة الأزدهار، مع تقشف متوقع حدوثة خلال فترات الإصلاح التي أعقبت ذلك .

 وأخيراً، فقد تغير المناخ السياسي الذ يتم في ظله اتخاذ القرارات الخاصة بالسياسية الاقتصادية. فالعولمة والتداخل الاقتصادي العالمي يعينان أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تحقق مكاسب أكبر عن طريق زيادة معدل الطلب الكلي من خلال سياسة معاكسة للتقلبات الدورية، نظراً للارتباط القوي لتلك الدول بالاقتصاد العالمي.

ونتيجة لهذا التغير في الأوضاع، فقد لمسنا بالفعل بداية تحول كبير في السياسة الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي نحو سياسة مالية معاكسة للتقلبات الدورية. فقد أعلنت جميع بلدان المنطقة عن عزمها التحكم في العجز المالي خلال عام 2009 وما بعده.

ولو ثبتت صحة المؤشرات الحالية ونجحت السياسة المعاكسة للتقلبات الدورية. فإن هذا التحول سيكون له نتائج مهمة في المنطقة على المدى القصير والبعيد. فمن أهم النتائج على المدى القصير أن فترات الكساد الاقتصادي في المنطقة ستكون أقصر وأقل عمقاً مما كانت ستصبح عليه بخلاف ذلك، وهذا من شأنه أن يجعل المنطقة في مقدمة مناطق العالم التي تستعيد حاله من الاسقرار النسبي في أوضاعها الاقتصادية .

وهناك نتائج إيجابية أيضا على المدى الطويل. فسوف تتمكن الحكومات الاقليمية من خلال إظهار الرغبة والقدرة على حفز  الطلب الكلي في فترات الكساد الاقتصادي من تعزيز الثقة للمستثمرين الدوليين في استقرار الأوضاع الاقتصادية بالمنطقة. بالأضافة إلى ذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تعزز مكانتها في المجتمع العالمي من خلال إظهار  قدراتها واستبعداها للمساهمة في ايجاد حلول للمشاكل المالية العالمية في المستقبل.

محمد سليمان – اقتصادى يعمل حاليا مديرا للأسهم الخاصة والعقارات فى شركة صناديق الاستثمار الوطنية وعضو مجلس إدارة فى جمعية القادة الشبان العرب ، فرع الامارات.

font change