بيروت: يعيش المواطن اللبناني منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في ظل استنسابية تامة في التعاطي معه من قبل المصارف اللبنانية، حيث سمح للنافذين بعمليات تحويل إلى الخارج وسحوبات نقدية بالعملة الصعبة، في حين أن المودع العادي لا يستطيع القيام بها بحرية، وهو ما يُشكل عملية كابيتال كونترول «شاذة» مُرفقة بعملية اقتطاع على الودائع من باب سعر صرف الدولار على السحوبات النقدية.
هذا الواقع المر يفرض وضع «كابيتال كونترول» علميا محترفا يؤمن العدالة في المعاملة كما نصت عليه مُقدمة الدستور أي التساوي أمام القانون ولكن أيضا قدسية الملكية الفردية.
والمحزن أنه بعد مرور أكثر من سنتين على تهريب رؤوس الأموال الكبيرة من البلاد ودخول لبنان مرحلة الانهيار الكبرى، أسقطت اللجان النيابية المشتركة النسخة الحكومية من مقترح قانون الـ«كابيتال كونترول» الرامي إلى وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية، لعدم تأييد اللجان للمقترح الجديد الذي يُعدل اقتراح لجنة الإدارة والعدل التي بادرت إلى وضع تصور لمقترح القانون، وكذلك اقتراح لجنة المال والموازنة.
وبالتالي بات أمام المجلس ثلاث مسودات متباينة لمشروع القانون وهي المسودة الحكومية، مسودة لجنة الإدارة والعدل، ومسودة لجنة المال والموازنة. والمسودات الثلاث كان من المفترض أن تكون قيد البحث في جلسة اللجان المشتركة، مع أفضلية للمسودة الحكومية، التي يقول نائب رئيس الحكومة إن إعدادها يتم على وقع المشاورات مع صندوق النقد.
القاسم المشترك بين المسودات الثلاث، هو افتقارها لأبسط شروط الكابيتال كونترول، الذي يُفترض أن يمهد لاستعادة انتظام القطاع المالي على المدى الطويل، فجميع المسودات المطروحة لا تتضمن خريطة طريق لكيفية رفع القيود عن السحوبات والتحويلات بشكل متدرج، بعد أن تعالج الخطة المالية الأشمل فجوات الميزانيات المصرفية، كما لا تحتوي أي من المسودات على رؤية لكيفية ربط القيود على حركة الأموال بعملية توحيد أسعار الصرف ومن ثم تعويم السعر الموحد الجديد.
مع الإشارة إلى أن الهدف البديهي لأي كابيتال كونترول خلال الأزمات هو التدرج في عملية الخروج من القيود المصرفية أولاً، ومن ثم التحكم بشكل مدروس في عملية توحيد أسعار الصرف وتعويمها من خلال أدوات التحكم بالسيولة التي ينص عليها القانون الجديد، وبالتوازي مع استعادة النظام المالي لقدرته على جذب التحويلات بالاستفادة من الضمانات والتدابير التنظيمية التي سينص عليها القانون بخصوص الأموال الجديدة والقديمة.
أما التباينات بين المسودات المطروحة، فتشمل نوعية القيود المفروضة على الاحتياطي الإلزامي، وحجم الصلاحيات التي يملكها مصرف لبنان في تحديد سقوف السحب، وصلاحيات القضاء في ملاحقة المصارف، بالإضافة إلى سقوف التحويلات الاستثنائية بالعملة الأجنبية.
عضو لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عقيص قال: «تأخرنا جدا في إقرار قانون الكابيتال كونترول، فحكومة حسان دياب لم تبادر إلى تقديم الاقتراح، وكلنا يعلم في كل التجارب الدولية أن فعالية القانون تتطلب إقراره بسرعة كي يمنع هروب الأموال بشكل كثيف من الدولة التي تتعرض لأزمة مالية ونقدية، وهو ما لم نفعله، الأمر الذي سمح للنافذين والسياسيين وأصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارة المصارف بتهريب أموالهم بشكل منظم وممنهج على حساب المواطنين والمودعين الذين يتعرضون منذ سنتين لهيركات (قضم) بودائعهم بأكثر من 80 في المائة، وبالتالي أقله إذا أردنا أن نقر القانون اليوم فيجب أن يضمن للمودعين ما تبقى لهم من ودائع، كما أنه لا يشكل إعفاء للمصارف مما ارتكبته».
بدوره رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبرهيم كنعان اعتبر أن هذا القانون «استجد من خارج السياق النيابي والنظامي وكاد أن يكرس الاستنسابية من جديد على حساب حقوق المودعين». وقال: «نحن مع الكابيتال كونترول، لكن على أن يكون من ضمن أرقام واضحة على مصرف لبنان والحكومة أن يلتزما بإحالتها إلى المجلس النيابي ضمن خطة واضحة». ووصف الاقتراح الحكومي في شأن «الكابيتال كونترول» بأنه «عملية تهريب منظمة ومرفوضة تقضي بإناطة الصلاحيات بمصرف لبنان لتنظيم السحوبات والتحويلات وتحديد الشروط والسقوف»، مشيرا إلى أن الاقتراح «يقضي على ما تبقى من أمل للمودعين في استعادة ودائعهم، لا سيما الودائع بالعملات الأجنبية، ويضعها في عهدة مصرف لبنان والمصارف ممن سبق لهم أن أمعنوا في اقتطاع نسب لا تقل عن 80 في المائة من هذه الودائع».
هذه هي القراءة والحجج والنفاق النيابي لتأجيل إقرار مشروع القانون الذي وكما يبدو أصبح ورقة انتخابية للأحزاب والكتل النيابية، فكيف ينظر أهل الاختصاص.
«المجلة» سألت قيادات مصرفية عما يدور في مجلس النواب وتمنعه منذ عامين عن إقرار هذا القانون الذي يجب أن يكون الحل لكل المشاكل التي تتخبط بها المصارف وتمنع المودعين بالحصول على أموالهم.
الأزهري: الساسة في لبنان يدفعون لتزداد الأمور سوءاً
يقول رئيس مجلس إدارة بنك لبنان والمهجر سعد الأزهري: «لا يوجد بلد يعاني من وضع سيئ مثل لبنان. وإن المطلب الأساسي في كل الدول التي تعرضت لهزات أو عدم ثقة بفعل الوضع الاقتصادي أو المصائب الطبيعية هو إقرار كابيتال كونترول فورا وذلك لضبط الأمور ريثما يعالج البلد مشاكله. للأسف في لبنان لم يتم وضع كابيتال كونترول حتى الآن رغم مرور أكثر من سنتين على الأزمة ولهذا لا يجب السؤال عما حدث في مجلس النواب بل عما حدث في السنتين الأخيرتين».
ويتابع الأزهري: «أنا كمصرفي عايشت أزمات في عدة دول منها مصر التي أقرت كابيتال كونترول فورا عندما أقفلت مصارفها أثناء ثورة عام 2011 وهي لم تفتح أبوابها إلا بعد إتمام القانون الذي تم تعديله تدريجياً. لذا لا بد من إجراء كابيتال كونترول وهو من الممكن تعديله لاحقا لكن علينا السير بأسس معينة ومن ثم إدخال بعض التغييرات حسب الحاجة، إن المنازعات والاختلافات والشعبوية منعتنا من التصرف طوال عامين، وادعاء الحفاظ على أموال المودعين غير صحيح إذ إن الكابيتال كونترول هو الذي يحمي ويحافظ على أموال المودعين ويوقف الاستنسابية بينهم ويمنع التحويلات تحت الضغط ويحافظ على موجودات المصرف المركزي ويشجع الصناعة والتصدير ويخفف الاستيراد».
ويضيف الأزهري أن الكابيتال كونترول هو الخطوة الأولى بالإجراءات التي يجب تنفيذها. ويتابع: «للأسف لم نقم بالخطوة الأولى حتى الآن. لقد أقفلت المصارف أثناء الثورة ريثما يصدر الكابيتال كونترول لكنه للأسف لم يصدر، بينما علينا أن نُسير أعمال الناس (دفع رواتب، سحوبات، إلخ..) إذ لا نستطيع الإقفال إلى ما لا نهاية وكأن الساسة في لبنان يدفعون لتزداد الأمور سوءاً، الخطا الأكبر هو عدم إقرار هذا القانون».
ويؤكد أن تراكم الأخطاء وسوء الإدارة أفدح من الفساد، ويتابع: «لكننا نأمل أن تتعدل الأمور في ظل هذه الحكومة التي تضم خيرة الخبراء في الموضوع الاقتصادي والمالي، كما نأمل أن نتوصل لإيقاف الانهيار وإجراء الخطوات الصحيحة في حال استطاعت الحكومة العمل وواكبها في ذلك المجلس النيابي».
بركات: الكابيتال كونترول خطوة ضرورية وملحة
كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى بنك عودة الدكتور مروان بركات يعتبر أن «إقرار قانون الكابيتال كونترول في البرلمان خطوة ضرورية وملحة وإن متأخرة، وتشكل شرطا أساسيا لأي مسار إصلاحي، إذ لا يمكن للاقتصاد اللبناني أن يعود إلى نموه الحقيقي ويستعيد عافيته وينهض من جديد دون قانون للكابيتال كونترول يطبع النشاط المالي والمصرفي بشكل عام. ومن المستغرب أنه رغم الإجماع حول الحاجة الماسة والآنية إليه، لم يقر هذا القانون بعد بأي من نسخه المتعددة التي أحيلت إلى البرلمان على مدى السنتين الفائتتين».
ويقول بركات إن «الحاجة إلى هذا النوع من الإجراءات مرتبط بالظروف المالية والاقتصادية الاستثنائية التي يمر بها لبنان والتي وضعت نظامه الاقتصادي في مواجهة الاستقرار النقدي والمالي، ما أدى إلى تراجع الثقة نسبيا بالقطاع المالي اللبناني». ويتابع: «المرحلة الحالية تتطلب اتخاذ إجراءات وتدابير استثنائية ومرحلية تهدف إلى وضع ضوابط مؤقتة تشكل في الوقت نفسه حماية لحقوق المودعين وتعزيزا لقدرات المصارف على القيام بواجباتها وتمنع الاستنسابية بين المصارف». كما يذكر أن الكابيتال كونترول هو قيود رسمية «مؤقتة» على حركة الرساميل مع عدد من الاستثناءات تقرها السلطة التشريعية.
ويعتبر بركات أن «إقرار القانون هو خطوة ضرورية باتجاه الاستقرار الاقتصادي والنقدي والمصرفي، بحيث يسمح التصرف بالتحويلات الجديدة الواردة من الخارج من دون أي قيود، ما يعيد الثقة تدريجيا في القطاع المالي اللبناني مع ما يشكله ذلك من تحفيز للاقتصاد الوطني بشكلٍ عام. إن ذلك من شأنه تفعيل النشاطات الاقتصادية ضمن حدود الضوابط المؤقتة، ما قد يساعد في استعادة شق من النمو الاقتصادي المفقود وينعكس إيجابا على الحركة الاقتصادية بشكلٍ عام».
ويرى بركات أن عمليا بعض الإجراءات والتدابير الاستثنائية التي يفترض اتخاذها تتيح لمصرف لبنان صلاحيات محصورة ومؤقتة تجيز له وضع ضوابط على بعض العمليات والخدمات المصرفية، بشكل يؤدي إلى تنظيم العمل المصرفي خلال فترة الظروف الاستثنائية عبر فرض موجبات على المصارف تحدد طرق التعامل مع العملاء بصورة متساوية، بعيدا عن الاستنسابية بموازاة الحد من المخاطر التي قد يتعرض لها القطاع المصرفي اللبناني.
ويؤكد أن قانون الكابيتال كونترول هو ضرورة لأي خطة تعافٍ، وهو في صلب مطالب صندوق النقد الدولي كشرط أساسي لإبرام اتفاق مع لبنان، الذي يعول عليه اللبنانيون جميعا لبداية الخروج من الأزمة التي عصفت بالبلاد خلال السنتين الفائتتين، ويكون مقدمة للإصلاح الاقتصادي والحصول على مساعدات دولية نظرا للتأثير الذي يتمتع به الصندوق لدى الجهات المانحة. وحسب المعلومات، فإن نائب رئيس الحكومة الذي كان يشغل مركزا إداريا مرموقا في الصندوق، نسق بشكل وطيد مع صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالصيغة الخالية لقانون الكابيتال كونترول بغض النظر إذا كان الصندوق يتبنى نص القانون المحال إلى مجلس النواب بحرفيته.
ويختم قائلا إن «إقرار قانون للكابيتال كونترول وحده غير كافٍ لاستعادة عامل الثقة. وإن الإصلاح المالي والمصرفي في لبنان مرتبط بالإصلاح الاقتصادي ككل، مع ما يتطلب ذلك من خطة خروج من الأزمة على مستوى الدولة تعتمدها الحكومة تطلق عجلة الإصلاحات المنشودة وتسهل الحصول على المساعدات الضرورية التي يحتاج إليها لبنان. ويجب أن يستتبع ذلك إبرام اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي يشمل إصلاحات بنيوية ومالية ويفسح المجال أمام مؤتمرات دولية داعمة للبنان. في هذا السياق، الأنظار شاخصة إلى خطة التعافي التي ستعتمدها الدولة اللبنانية والتي تحدد حجم الخسائر الإجمالية وتوحيد أسعار الصرف المختلفة ورفع الدعم نهائيا وإصلاح القطاع العام لا سيما قطاع الكهرباء».
علامة: الوضع سيزداد سوءاً
بدوره الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور بلال علامة أشار إلى أن «اللبنانيين انتظروا طويلا قانون الكابيتال كونترول المعول عليه تنظيم السحوبات والتحويلات إلى الخارج بالعملة الأجنبية وعلاقة المصارف بالمودعين، إلا أن الأيام مرت دون أن يبصر هذا القانون النور رغم كثرة الحديث وازدحام النقاشات حوله على كل المستويات، حتى بتنا نستطيع القول إن القانون العتيد حصل على نقاشات في لجان مجلس النواب أكثر بكثير من أي من مشاريع القوانين حتى المصيرية منها، ولكن مع الأيام تبين أن كل هذه النقاشات لم تستطع ترجمة مشروع القانون إلى واقع وسقط بعد طرحه على جدول أعمال مجلس النواب».
ويؤكد علامة أنه «في كل الدول التي تعاني من أزمات يقر الكابيتال كونترول سريعا بهدف الحفاظ على العملات الصعبة وترشيد استعمال هذه العملات ضمن البلد، إلا أن السلطة السياسية في لبنان عجزت عن إقرار هذا القانون وتركت الأمور متفلتة لمصلحة تعاميم وقرارات تصدر عن حاكمية مصرف لبنان وبطريقة ردة الفعل وليس الفعل»..
ويشير علامة إلى أن «غياب القانون الواضح الذي يلزم المصارف بعلاقات متوازنة وعادلة مع مودعيها يفتح الباب أمام الاستنسابية والمحسوبية في التعاطي مع الزبائن، لا سيما بعد الاتهامات الكبيرة التي تطال بعض المصارف بسوء إدارة هذا الملف طيلة السنوات التي مرت بعد بدء الأزمة في يوليو (تموز) 2017».
ويقول علامة إنه «مع مرور الوقت بدأت لجان المودعين تشكك في وضع بعض المصارف وتقوم بتحركات اعتراضية على عمل هذه المصارف قد تعرقل عملها وربما مصيرها ووضعها، في ظل الحديث المتنامي عن ضرورة البدء بخطة إعادة هيكلة المصارف بشكل يتزامن مع خطة التعافي المالي والإنقاذ المطلوبة والضرورية لنجاح المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي، تمهيدا للحصول على الموافقة اللازمة لبرنامج الدعم والمساعدة الممكن».
ويطرح علامة تساؤلات: «هل من الممكن التوصل إلى توقيع اتفاق حول برنامج الدعم دون إقرار قانون للكابيتال كونترول؟ وهل يمكن تنفيذ هيكلة المصارف من دون قانون للكابيتال كونترول؟».
أسئلة قد يكون من الصعب الإجابة عليها ولكن الأكيد أن الوضع سيتفاقم سوءا بحسب علامة، خاصة على مستوى العلاقة ما بين المصارف والمودعين، صغار المودعين على وجه الخصوص البالغ عددهم تقريبا 750 ألف مودع، باتوا يشعرون بأن تغييب القانون وعدم إقراره هدفه القضاء عليها وعلى حساباتهم المصرفية وودائعهم التي أصبحت إلى حد ما وبنسبة كبيرة غير موجودة»..
وهذا ما أكده النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان العياش بقوله: «تتم ممارسة غش مقصود وتضليل للرأي العام فقانون الكابيتال كونترول كان ضروريا من اللحظة الأولى للأزمة ولكن هذا القانون لا يرد أموال المودعين، والسياسيون يحاولون إفهام الناس أن هذا القانون سيرد لهم الودائع فيما هذا غير صحيح».
ويتابع قائلا: «الودائع- وأقولها بالفم الملآن- غير موجودة، إذ تبخر قسم منها في إطار حماية المركزي لليرة وتبخر قسم في تحويلات لصالح الدولة وفي تحويلات الليرة للدولار».
البعض يعتبر أن اقتراح قانون الكابيتال كونترول بنسخته الأخيرة التي هبطت بالمظلة على مجلس النواب يمثل انتهاكا صريحا للكتلة التشريعية اللبنانية، ومنها مقدمة الدستور اللبناني وأحكامه والمبادئ الدستورية العامة، وتلك المتصلة بالقوانين العامة إضافة إلى القوانين المرعية الإجراء كافة، لا سيما القوانين المصرفية والمالية، وقانون الموجبات والعقود والقانون التجاري ومجلة الأحكام العدلية. وهو مخالف لتسميته، أي إنه مسمى «كابيتال كونترول» لكنه في الواقع يهدف إلى تشريع مخالفات المصارف وتعميق استيلائها على الودائع بغية تمويل رأسمالها.