القاهرة: قبل شهرين فوجئت فتاة مصرية أثناء استقلالها مترو الأنفاق الذي يستخدمه آلاف المصريين يوميا براكب في المقعد المواجه لها يمعن النظر إليها ويأتي بأفعال منافية للآداب. استطاعت الفتاة أن تلتقط مقطع فيديو للشخص قبل أن تنزل في محطة المترو التالية لتجده يتبعها حتى خرجت من المحطة. لجأت الفتاة إلى نشر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي مطالبة بالعثور على الشخص المتحرش ومعاقبته لما سببه لها من أذى نفسي. وفي وقت قياسي تمكنت السلطات المصرية من تحديد هوية المتحرش والقبض عليه، ثم أحيل لمحاكمة عاجلة قضت بحبسه ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ.
لاقى الحكم السريع وشجاعة الفتاة في المطالبة بحقها إشادة من المجتمع المدني بالعدالة الناجزة أملا في أن تكون عقوبة رادعة، وكانت ثمرة لمساعٍ عديدة تبذلها جهات رسمية وغير رسمية لمواجهة ظاهرة التحرش التي تطل بوجهها القبيح منذ فترة طويلة. فهل يكون هذا الحكم رادعاً، وهل تضع المبادرات التي تستهدف دعم النساء والفتيات وتدعو المجتمع إلى مساندتهن بدلا من وصمهن وإلقاء اللوم عليهن حدا لارتفاع نسب التحرش في مصر؟
إحصائيات مؤسفة
على مستوى العالم، تقع حوادث التحرش كل يوم، والأسباب متعددة ولا تقف عند الجاني والضحية. بل قد تمتد إلى الشهود والمجتمع الذي تغافل وبالغ في توجيه الاتهامات للشخص الخطأ منذ البداية، وإلى الوصمة التي تطال الضحية فتسكت ولا تقرر الإبلاغ حتى لا تلوث سمعتها. ويشمل التحرش الجنسي التحرش اللفظي بكلمات غير مرغوب فيها أو إيماءات أو أفعال ذات طابع جنسي تنتهك خصوصية أو حرمة الجسد أو تسبب شعورا بعدم الارتياح والتهديد، وتتدرج من التحديق إلى الجسد إلى الحركات المنافية للآداب أو إبداء ملاحظات على جسد الشخص أو التطرق إلى موضوعات جنسية.
لا تنجو أغلب النساء والفتيات في مصر من مواقف تفسد عليهن حياتهن ربما يرتكبها شخص مؤذٍ ويمضي إلى حياته غير عابئ بموقف حفر جرحا غائرا في نفس لم تجن أي شيء سوى أنها أنثى.
كشفت دراسة أعدتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في عام 2013 تحت عنوان «دراسة حول طرق ووسائل القضاء على التحرش الجنسي في مصر» أن 99.3 في المائة من الفتيات والسيدات تعرضن لنوع من أنواع التحرش الجنسي في فترة ما في حياتهن. وذكرت الدراسة ذاتها أن «82.5 في المائة من المشاركات في الدراسة لا يشعرن بالأمان أثناء سيرهن في الشارع، وتزداد النسبة إلى 86.5 في المائة بالنسبة لشعور عدم الأمان في المواصلات العامة».
وتقع حوادث التحرش لنساء من مختلف الأعمار، كما تشير دراسة مسحية لمعدلات التحرش الجنسي في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نشرتها شبكة الباروميتر العربي في ديسمبر (كانون الأول) 2019. وذكرت الدراسة أن مصر تعاني من ارتفاع نسب التحرش، لدرجة أن نحو 90 في المائة من النساء المشاركات في الدراسة (ما بين 17 إلى 28 عاما) قد تعرضن للتحرش في أماكن عامة، تليها الجزائر والأردن والسودان واليمن بنسبة تزيد على 50 في المائة لنفس الفئة العمرية، ثم العراق ولبنان وليبيا وفلسطين وتونس بنسبة تتراوح ما بين 35 إلى 45 في المائة.
آثار لا تمحى
أوضحت دكتورة رحاب عبد الفتاح طبيبة الأمراض النفسية والعصبية أن ضحية التحرش الجنسي «تتعرض لصدمة عصبية نتيجة لتعرضها لحدث مفاجئ فيه تعدٍ يهددها بالخطر، وقد تحدث الصدمة بمجرد مشاهدة الحدث يقع لآخرين»، مضيفة أن «التعرض للإيذاء الجنسي يعتبر صدمة عصبية تساوي التعرض للحرب».
وتفسر الطبيبة النفسية سبب عدم قدرة الضحية على اتخاذ رد فعل في كثير من الأحيان بأن «الجهاز العصبي للإنسان يحتوي على مركز استشعار للخطر يسمى (اللوزة المخية) والتي تقوم وقت حدوث الصدمة بإيقاف مراكز التفكير المنطقي وتهيئة الجسم لتقليل أو إلغاء الإحساس بالألم بحيث تستطيع الضحية أن تنجو بحياتها مما يؤثر على مراكز الذاكرة وقدرة الإنسان على تذكر التفاصيل بل قد يقوم العقل بعملية تسمى الانشقاق(dissociation) بحيث تشعر الضحية بأنها في حلم وذلك يحميها من الألم النفسي والجسدي الشديد مع الحادث».
أما عن الآثار الناجمة عن الحادث على المدى القريب، فتشير الطبيبة النفسية إلى أنها «تشمل تعرض الضحية لآلام نفسية شديدة وشعور بالذنب وعدم تصديق لما يحدث وأعراض نفسية اكتئابية وقلق واضطراب في النوم ومشاعر بالدونية والخوف والحساسية الشديدة مع عدم قدرتها على مواجهة كل ما يذكرها بالحادث (أعراض تجنبية) مع استرجاع لا إرادي للحادث وإعادة التجربة وأحلام وكوابيس سيئة».
ومن المؤسف أن معاناة ضحية التحرش الجنسي قد تستمر لفترة أطول حيث تعجز 15 في المائة من الحالات عن تجاوز الحدث وآثاره النفسية على حد قول الطبيبة رحاب عبد الفتاح التي أكدت أن ذلك «يؤدي إلى إصابتهن بكرب ما بعد الصدمة والذي يستمر سنوات طويلة وقد تحدث مضاعفات نفسية ونفسية-جسدية أخرى مثل الاكتئاب والقلق والآلام الجسدية غير المبررة بأمراض عضوية أخرى».
واستطردت الطبيبة بأن الضحية تعيد معايشة الحادث بشكل مستمر سواء أثناء النوم على شكل كوابيس مستمرة أو على شكل استرجاع مفاجئ للأحاسيس الجسدية والنفسية للحادث وكأنه يحدث الآن مما يجعل من الصعب جدا على الضحية الاقتراب من كل ما يذكرها بالحادث لتجنب إعادة المعايشة».
دوائر الدعم
ربما تظهر ملامح الخوف من التعرض لتجارب مشابهة في الشارع في خطوات سريعة أثناء المشي يصاحبها كثير من التلفت، عبور الطريق تجنبا لبعض المارة أو السيارات الواقفة، والانكماش في المواصلات العامة، ودفع أجرة مقعد خالٍ إلى الجوار إذا سمحت الظروف، أو الوقوف بعيدا حتى تمر دراجة نارية أو حتى هوائية في الطريق... توترات لا يشعر بها إلا النساء والفتيات اللاتي يحلمن بيوم يسرن فيه بأمان وأن يلقى كل متحرش عقابا يردع غيره ممن تسول له نفسه انتهاك خصوصية المرأة، وأن يثبتن للمجتمع حقهن في الشكوى والتألم.
وكانت مشكلة ضياع حق كثير من النساء والفتيات في الحوادث المماثلة بسبب خوفهن من الإبلاغ وعدم قدرتهن على إثبات الواقعة وعدم تحملهن هجوم المجتمع والوصمة اللاحقة لمثل تلك المواقف. غير أن قطرة ماء تفتت الحجر، ومبادرات مكافحة التحرش في مصر لم تتوقف منذ أكثر من 15 عاما عن دعم الفتيات والنساء ضد كل متحرش.
من أهم الأفكار التي تروج لها مبادرات مكافحة التحرش هي تشجيع النساء والفتيات على الكلام والإبلاغ، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في سرعة الكشف عن الحوادث والإبلاغ عنها.
ومن المراكز الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني التي تنظم فعاليات تدعم الفتيات وتنشر التوعية بأهمية الإبلاغ إلى مبادرات ناشئة أطلقتها مجموعات من الشباب والفتيات لنشر التوعية وبث الثقة في نفس الفتيات وتبديد المفاهيم المغلوطة التي تحيط بالقضية.
على سبيل المثال، تستقبل صفحة (اتكلم-ي- Speakup) شكاوى الفتيات والنساء عن طريق ملء نموذج دون الكشف عن هويتهن وتقدم لهم فرصة الوصول إلى متخصصين نفسيين وقانونيين لمساعدتهن على تجاوز الحوادث التي يتعرضن لها.
وتعد حملة «التحرش جريمة ما تسكتيش» أحدث المبادرات الناشئة ضد التحرش حيث تحث الفتيات على المطالبة بحقوقهن وتحث المجتمع على مساندتهن. ينظم الحملة فريق من طالبات كلية الإعلام بجامعة المنوفية اللاتي قمن مع اثنين من زملائهن الشباب بإنتاج سلسلة فيديوهات لعرض قصص حقيقية ترويها فتيات تعرضن للتحرش الجنسي في حياتهم اليومية.
قالت إحدى منسقات الحملة لـ«المجلة»: «في بداية الحملة، أعددنا استبيانا لجمع قصص حقيقية تعرضت فيها الفتيات لتحرش جنسي، ووصلتنا عديد من القصص التي تخشى صاحباتها من الكلام خوفا من نظرة المجتمع وحكمه عليهن».
في أحد الفيديوهات التي أنتجها الفريق، روت إحدى الفتيات حادث تحرش تعرضت له أثناء ركوبها إحدى المواصلات العامة في طريق عودتها إلى المنزل، بدأت قائلة: «دائما ما أتساءل كيف تصرخ فتاة تتعرض لموقف ما دون أن يساعدها أحد؟ أو أن يتخذ الجميع موقفا ضدها حتى تصل إلى مرحلة التزام الصمت».
وأوضحت كيف صرخت في وجه المتحرش ووقف الركاب ضدها ولم يدينوا المتحرش، بل اتهموها بأنها تبالغ في الأمر. فما كان منها إلا أن صفعته وتركت الحافلة متألمة من عدم مساندة أي من الركاب لها.
انتصار تشريعي
صدر أول قانون لتجريم التحرش الجنسي في مصر في يونيو (حزيران) عام 2014 لتعديل المادة 306 مكرر (أ) من قانون العقوبات، والتي نصت على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية».
وبعد مرور سبعة أعوام شهدت مزيدا من الجهود المجتمعية لمكافحة الظاهرة شُددت العقوبة على الجاني في أغسطس (آب) من العام الحالي، عندما أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارا بتعديل القانون، لتنص التعديلات هذه المرة على أن يعاقب المتحرش «بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز أربع سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين».
وعلى الرغم من أن بعض قضايا التحرش الجنسي التي نظرتها المحاكم تطرقت إلى الصحة العقلية للمتهم بالتحرش لعله ينال عقوبة مخففة أو تبرر له سلوكه، تقول الطبيبة النفسية رحاب عبد الفتاح إن «المرض النفسي يفسر السلوك ولكنه لا يبرره»، وأن بعض الأمراض مثل الإصابات المخية قد تجعل الإنسان يتصرف بسلوكيات غير معتادة، ولكنها أكدت أن «التقييم الشائع للمتحرش عادة ما يكون اضطراب الشخصية السيكوباتية التي تميل إلى الممارسات الإجرامية»، موضحة أن القانون في هذه الحالة لا يعفيه من المسؤولية وأن علاجه هو إعادة التأهيل داخل السجن.
========================
الصور
-------
1- مجموعة من النساء يهتفن في وقفة احتجاجية ضد التحرش أمام دار الأوبرا المصرية بالقاهرة. 14 يونيو عام 2014 (تصوير: أسماء وجيه- رويترز)
2 - صورة أرشيفية ترجع إلى 12 فبراير عام 2013. متظاهر مصري يرفع شعار: بنات مصر خط أحمر»، أثناء مظاهرة بالقاهرة (أ.ف.ب)