لم تشذ سنة 2021 عن سابقاتها منذ 2013. فيما يخص التراجع الرهيب لتنظيمات الإسلام السياسي من الساحات السياسية العربية التي كانت اكتسحتها بعد ثورات الربيع العربي واحتجاجاته أو فرضت نفسها رقما مميزا في معادلاتها. وقد تميز التراجع الذي حصل هذه السنة باقتحامه آخر قلاع صمود التيارات المتشحة بالدين المتمثلة في كل تونس والمغرب.
وخلافا للوسائل المتشددة التي ووجهت بها التيارات ذات النكهة الإخوانية في بعض دول المشرق العربي، فإن تراجع هذه التيارات في تونس والمغرب حصل بطرق هادئة، سلمية وقانونية لم تتح لسدنة المعبد ومريديه فرصة النحيب وادعاء المظلومية وتعرضها لمؤامرات سياسية. كما لم تعقب هذا التراجع مضايقات أمنية أو قضائية لزعمائها وأعضائها؛ مما فوت عليها إمكانية توظيف ذلك لاستجلاب التعاطف الدولي حقوقيا وسياسيا.
لم تكن تلك الطرق القانونية والسلمية التي كبحت تعاظم نفوذ التيارات الإسلامية واحدة، وإنما حسب خصوصية كل بلد. ففي تونس تجلت بإقدام رئيس الجمهورية على استخدام صلاحياته الدستورية لتجميد العمل بالدستور، وتعليق عمل البرلمان الذي كانت حركة النهضة تترأسه، وتوظفه في بسط هيمنتها على الساحة، وترهيب معارضيها؛ بينما تكفلت صناديق الاقتراع في المغرب بمنح حزب العدالة والتنمية 13 مقعدا فقط، وهو عدد مقاعده في أول مشاركة له في الانتخابات سنة 1997 ؛ وذلك بعد أن كان قد تصدر انتخابات 2011 و2016. ما منحه حق رئاسة الحكومات الائتلافية التي شكلها آنذاك.
ورغم قانونية طرق ووسائل إعادة القوى السياسية الإسلامية المغربية والتونسية إلى حجمها الطبيعي، إلا أنها لم تمنع تلك القوى من محاولة التهرب من مسؤولية إخفاقها في ممارسة السلطة عندما كانت مشاركة فيها. فعلى استحياء وبأسلوب ارتجالي اتهم حزب العدالة والتنمية المغربي تارة القاسم الانتخابي لحساب الأصوات، وانتقد طورا ما سماه الانحياز الإداري للأحزاب الفائزة، فيما هاجمت حركة النهضة الرئيس التونسي وكالت له اتهامات عديدة واصفة تصرفه بالديكتاتوري العميل للقوى الأجنبية أحيانا، والانقلابي المتواطئ مع القوى المضادة للثورة أحيانا أخرى.
وإذا كان حزب العدالة والتنمية المغربي قد اكتفى بإصدار الانتقادات اللفظية المعبرة عن إحباط قيادته من النتائج التي خيبت توقعاتها، واستمر في حملة هجوم واسع على الحكومة الجديدة، فإن حركة النهضة في تونس سعت إلى تأليب الشارع ضد قرارات الرئيس، بل وإلى محاولة تشكيل ما سمته «جبهة وطنية»معارضة لها. غير أنها فشلت في مساعيها تلك، ما اضطرها إلى تراجع تكتيكي اعتبرت فيه أن ما جرى قد يكون فرصة للإصلاح، ولكنها سرعان ما عادت إلى المناكفة حين مدد الرئيس مدة حالة الاستثناء، وقرر إجراء تعديلات دستورية جوهرية، وتنظيم انتخابات جديدة في غضون السنة المقبلة، وهي مناكفات لم تجد سندا شعبيا وازنا.
إن هذا التهرب من تحمل المسؤولية عن التراجع الرهيب في شعبية التنظيمين معا لم يكن في الحقيقة سوى محاولة للهروب إلى الأمام من واقع وجود تذمر داخلي لدى قواعدهما. تذمر لا يحمل القيادات مسؤولية الفشل والتراجع، ويطالب بمحاسبتها فقط، وإنما ينم عن وجود صراعات متعددة داخلها بعضها صراع أجيال بين شيوخ التنظيمين وشبابهما، وأخرى بين توجهات فكرية ودعوية.
لقد تمكن حزب العدالة والتنمية المغربي عن طريق مجلسه الوطني وفي مؤتمر استثنائي من احتواء التذمر نسبيا من خلال انتخاب أمين عام جديد قديم في شخص السيد عبد الإله بن كيران، مانحا إياه من خلال قرار تأجيل عقد المؤتمر الوطني التاسع لمدة سنة كاملة الفرصة لمحاولة ترتيب البيت الداخلي في ضوء ما يروج عن تململ بعض مكونات الحزب المنتمية في الأصل إلى حركة التوحيد والإصلاح قبل اندماجها مع حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وخاصة فيما تبقى من أتباع رابطة المستقبل الإسلامي، التي كانت قبل اندماجها مع حركة الإصلاح والتجديد قد حاولت سنة 1992 تأسيس حزب باسم الوحدة والتنمية وقوبل طلبها بالرفض.
وعلى عكس حزب العدالة والتنمية المغربي، فإن حركة النهضة التونسية لم تتمكن من إخفاء صراعاتها الداخلية، التي انفجرت غداة قرارات الرئيس التونسي بتعليق العمل بالدستور وتعطيل البرلمان ببيان صدر عن مئات من شباب الحركة الذين طالبوا رئيسها بتغليب المصلحة الوطنية عوض الشخصية والحزبية، وبحل المكتب التنفيذي وتشكيل خلية أزمة تحظى ببعض القبول الشعبي لإبقاء التواصل مع الشارع.
وحسب معلومات مستقاة من مصادر داخل تونس، فإن تعنت رئيس النهضة بإقدامه على طرد أعضاء قدامى كانوا مقربين منه، وتجميد عضوية آخرين، فضلا عن تأجيل المؤتمر العام هو تهرب من المحاسبة في ضوء ما يروج عن صراعات حول استحواذ شرذمة صغيرة تحيط به على موارد التمويل الأجنبي، ومحاولة منه لربح مزيد من الوقت لتمهيد طريق خلافته لصهره وزير الخارجية الأسبق.
إن ما يحصل في العديد من التنظيمات ذات النكهة الإخوانية في العالم العربي برمته وليس في المنطقة المغاربية فقط غير مستغرب في ضوء انعكاس ما يشهده التنظيم الأم من صراعات عليها، وهي صراعات خرجت على غير العادة إلى العلن على خلفية ارتباط هذا التيار أو ذاك بلندن أو إسطنبول، ورغبة كل منهما في احتكار تلقي التبرعات والمعونات المالية.
هل تستطيع تلك التيارات تجاوز مأزقها الراهن واستعادة شعبية استطاعت اقتناصها في غفلة من الزمن؟ أمر صعب في ضوء مرورها بالسلطة حيث أثبتت أنها لا تمتلك أي خطط أو تصورات لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعاتها، ناهيك عن فشلها في إقناع الناس بإيمانها الفعلي بالتعددية.