دمشق: «الرمد أحسن من العمى» مثل سوري شهير يعني أن يفقد الإنسان جزءاً من بصره خيرٌ من فقدانه بشكل كامل، فطلب القليل صار بمثابة الكل، وعند غالبية السوريين، ليس الهدف هو الكمال، بل الاستمرار.
ليست غريبة هذه المواعظ والأمثال عن شعب، تعلقت أغلب قصصه بالمدرسة، منزله الثاني الذي يكتسب فيه أول خبراته الحياتية.
رؤى الخزنوي، معلّمة صف لفئة الابتدائي في منطقة ريف دمشق تروي لـ«المجلة» ما يحدث في المدرسة التي تعمل بها، تقول: «لا يمكن وصف الشعور عندما يدخل الأستاذ ليجد أكثر من 40 طالباً في الصف، شعور يترافق مع عدم إمكانية الشرح مرة ثانية، وإيصال المعلومة للجميع، وهذا اليقين يحبط الأستاذ فوراً».
يعتبر عدد الطلاب المرتفع في الصّف الواحد كارثياً، إلا أنّ الأمر يبدو انعكاساً لواقع سوريا وبنيتها التحتية التي خسرت ما يقارب 400 مليار دولار خلال سنوات الحرب، حيث ثمّة من يعمل ضمن الظروف القاسية، ويتحمل ضغطاً إضافياً يضاف إلى ضغوط حياته اليوميّة.
تتابع الخزنوي: إن كان القول (قم للمعلم ووفه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا) صالحاً في كل مكان، إلا أنه لا يناسبنا نحن المعلمين في هذه الأوقات فالمعلم اليوم أصبح أي شخص يدخل على الطلاب ويلقي على مسامعهم بعض العبارات ويخرج، وهذا الشخص لا يمكن إعطاؤه سمة الأستاذ، كونها مستمدة من المعرفة الفكرية والثقافية والأخلاقية والحياتية، وإن كان المعلم الحقيقي يجد صعوبة في التعامل مع طلاب كثر في الصف، فما هو الوضع بالنسبة لشخص يتفوّه أمام التلاميذ ببعض الأشياء ويمضي في سبيله، كي يجد في نهاية المطاف بعض الليرات السورية؟
تقدر قيمة ما يتقاضاه المعلمون في سوريا ما بين 20 إلى 50 دولاراً في الشهر، بمعدل أقل بثلاثة أضعاف من قيمة المتطلبات والاحتياجات للأسرة السورية التي تقدر بـ200 دولار، مع الأخذ بعين الاعتبار ساعات العمل التي يقضيها المدرس وأجور المواصلات في حال كان عاملاً بين مدرسة وأخرى.
هالة منير، تعمل موجهة لفئة الإعدادي في إحدى مدارس دمشق، توضح آلية الرواتب وطبيعة العاملين في المدارس تقول: الرواتب تصل إلى 60 لأستاذ حديث التعيين، أما عن العاملين زمناً طويلاً في المجال التربوي فإنهم يتقاضون 100 ألف ليرة سورية، ولا يمكن تجاهل فكرة أن الأستاذ يمكنه العمل مدرساً خصوصياً يستطيع تأمين المزيد من المال ليسد حاجاته، بعكس الإداريين (الموجهون- المرشدون النفسيون إن وجدوا- الديوان) هؤلاء إن لم يكونوا من المدرسين، فلا حلول لديهم سوى إيجاد عمل آخر مختلف تماماً عن التربية.
تتحدث هالة عن معاناتها: لم يعد الحال كما في السابق، ففكرة التربية لا تمت للمدرسة بصلة في الوقت الراهن، الأهالي يحتجون إذا توجهنا إلى أبنائهم بملاحظة، حتى وإن كانوا على خطأ، وعلى مبدأ الحداثة في التربية والتعليم، على الرغم من إجماع الكثيرين حول منع الضرب في المدارس، إلا أنه يجب التفريق بين الضرب والتأديب، فالأولى جريمة وقد تضر بالطفل نفسياً، لكن التأديب ضروري وهو في صلب العملية التعليمية.
وترى هالة، أن عدم وجود أشخاص أكفاء في العملية التربوية، يتسبب في أخطاء، لأن المعيّنين حديثاً، بعضهم لا يفقه أساليب التعامل مع الأطفال، وقد يكونون بالأصل وظفوا في التربية بشكل غير ثابت، بالشهادة الثانوية مثلاً، دون وجود إجازة في التربية أو في الاختصاص العلمي مثل الرياضيات أو الفيزياء، وطبعاً لا يمكن لوم المعينين أنفسهم حول ما يحدث، لأن السبب الرئيسي يعود للراتب القليل جداً مقارنة مع تكاليف الحياة الباهظة.
تطوير المناهج
استفسارات عديدة تُطرح بين حينٍ وآخر، حول المناهج التربوية للمراحل الدراسية كافّة، لا سيما مع التغييرات العديدة لبعض الكتب، منها ما هو جذري ومنها ما يتعلق ببعض التفاصيل وطرق التعليم واللغة المستخدمة في المناهج وتحديداً للمواد العلمية التي كانت منذ سنوات باللغة العربية وتم استبدالها باللغة الإنكليزية.
بعض العاملين في وزارة التربية، يجد أن تجديد المناهج التعليمية ضروري لمواكبة دول العالم، بالإضافة إلى تعديلات من أجل تبسيط المادة العلمية ليسهل فهمها على الطلاب، بينما ثمّة تعديلات تفرضها مع التكنولوجيا الحديثة، فما كان بالماضي يعطى بطريقة ما، لا بد أن يتغير.
وفي سياق متّصل، يصرّح مصدر في وزارة التربية السورية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن تطوير المناهج يجب أن يكون مصحوباً بتطورات على أرض الواقع، فكيف يتم وضع منهاج لمادة المعلوماتية، فيما تفتقر المدارس لأجهزة الحاسوب، مبيناً أن غياب الأدوات يعرقل عملية تجديد المنهاج التعليمي، وإن كانت النية جيدة، وهادفة لرفع المستوى التعليمي.
وتعليقاً على فكرة رفع المستوى التعليمي، يقول خالد نوح، أستاذ في إحدى المدارس: إن عملية رفع السوية، لها محددات أولها، الأدوات التي يجب توافرها في الصف المدرسي، من جهاز إسقاط وحاسوب ومسجل، وثانيها، المعلم، الذي يمتلك المعرفة والفهم والأسلوب في الإعطاء وإلمامه بالتكنولوجيا، كي يستطيع استخدام الأدوات، فيما المحدد الأخير يكون المنهاج الذي يتماشى مع المحددات آنفة الذكر.
ويتابع: الفكرة في تطوير المناهج جيدة، لكن ليس في الوقت الحالي، حيث يجب التركيز على بناء الجيل وتنمية مهاراته وثقافته، وإعطائه الدافع للدراسة، دون تعقيدات والتي ازدادت في الآونة الأخيرة بسبب غياب الأدوات أو افتقارها إن كان أهله من ذوي الدخل المحدود.
ويشير إلى أنّ الفكرة سامية وهادفة، إلا أنّ الظروف في سوريا، ليست جيدة بما فيه الكفاية لطموح كبير يواكب الدول المتقدمة.
ويضيف: قبل التفكير في التطوير يجب أن نعلم ماذا لنا وماذا علينا، ونرى واقعنا بوضوح، ومن ثم نخطط ونبني ونلبي الاحتياجات، ولا يمكن أن نحقق تنمية دون إدراك الواقع.
ويطرح نوح فكرة بما يتعلق بمنهج المعلوماتية، وخاصة التطور الهائل في هذا المجال، أن تكون المناهج عباراة عن كتب إلكترونية (PDF) يتم تطويرها بشكل دوري، دون مزيد من أعباء الطباعة على الوزارة، وطبعا مع التركيز على أن تكون الكتب سهلة وتناسب أبسط أنواع أجهزة المحمول، ليلجأ الطالب إلى أحد أبويه ليتمكن من المتابعة والمراجعة.
كلام نوح وافقته الأستاذة فتون أرناؤوط، (طلبت النقل من مدرسة في ريف دمشق، لأخرى داخل العاصمة بسبب صعوبة المواصلات)، واعتبرت أن عملية تغيير أو تطوير المنهج الدراسي، ليس بالسلبية المطلقة التي يراها البعض، لكن لماذا التغيير لا يُدرس جيداً، لماذا لا تكون هنالك رقابة على الأدوات في المدارس رغم وجود لجنة للكشف مهمتها القيام بتفقد النواقص بالمدارس كل سنة؟
استفسارات أرناؤوط، بقيت معلقة دون وجود إجابات من قبل التربية، عدا بعض التوضيحات التي تشير إلى أن اللجنة تفتقد المعدات المخصصة لكل مدرسة، وهي بالفعل موجودة لكن ربما أصابها عطل، أو أنها لا تعمل لقدمها وعدم تماشيها مع التطورات التكنولوجية، أي إن الفكرة من هذه اللجنة هي ضبط ما يوجد في المدارس سابقاً، بالإضافة لتسجيل الاحتياجات والتي من الصعب تلبيتها بسبب ظروف الحرب.
مدرس في المرحلة الابتدائية، كشف لـ«المجلة» أنّ ثمّة تغييرات تحصل لمادة اللغة الإنكليزية مع كل تغيير في وزارة التربية، وتحديداً لمنهج الصف الأول الابتدائي، وبشكل غير مفهوم، رغم التصريحات التي تؤكد على ضرورة مواكبة التطور.
يقول المدرس، إنّ المنهج في الحقيقة لا يتغير كمضمون، فيما يتم تغيير التصاميم والشكل وأفكار غير رئيسية، مثل تغيير في الأسماء أو القوالب داخل المنهج التعليمي، الأمر الذي يكلف الدولة مبالغ كبيرة، يجب صرفها على أمور ملحة أكثر مثل جلب معدات وأدوات وقرطاسية، هذا غير النقص في طبعات الكتب الذي يحصل بين فترة وأخرى لمنهج اللغة الإنجليزية ولكافة المراحل الدراسية بسبب تأخر الطباعة.
ماذا عن اللغات الأجنبية؟
أثار خبر إدخال اللغة الروسية إلى المنهج التربوي، ضجة على صفحات التواصل الاجتماعي للسوريين وغيرهم من المتابعين للشأن السوري، رغم أنّها بقيت اختيارية غير ملزمة للطالب، وطبعا دون فكرة القرعة التي كانت سائدة أواخر القرن الماضي، ما بين الإنجليزية والفرنسية.
مصدر وزارة التربية أوضح لـ«المجلة» أنّ اللغة الروسية أدخلت بشكل اختياري لا إجباري، تبعاً لضرورات المرحلة المقبلة في سوريا، والتطور الروسي الحاصل في العالم، وتدريسها في بعض الدول.. ما يجعل تطبيقها ضمن المنهج ضرورة لتعزيز مفهوم الصداقة الروسية السورية من جهة، وإعطاء فرصة للراغبين بدراستها من جهة ثانية.
ويتابع أن الأخبار المتناقلة حول إدخال لغات أخرى ستدرس هي شائعات ولا تمتّ للواقع بصلة، فمثلاً الحديث عن إدخال اللغة الفارسية للمنهج السوري، غير منطقي، لأن فكرة التعليم السوري، قائم على الاحتياجات والمتطلبات العالمية، نحن ندرس اللغة الإنجليزية لكونها من أكثر اللغات شيوعاً في العالم وباتت لغة العمل، إذ لا يمكن لأحد التقدّم لوظيفة في أيّ مكانٍ إن لم يتقن الإنجليزية، وجاءت الفرنسية بعدها لاعتبارها ثالث لغة منطوقة في العالم.
ويجيب المصدر الذي كان قد رفض ذكر اسمه لاعتبارات خاصة، أن اللغات (الفارسية- الألمانية- الإسبانية. وغيرها) تدرس في كليات الآداب في الجامعات السورية، وتدخل ضمن المفاضلة بعد المرحلة الثانوية ولها منهج محدد وأساتذة محددون، فيما يجب على طلاب الآداب للغات أن يختاروا لغة ثانية إضافية عن اللغة التي يدرسونها، وهذا الأسلوب ليس في سوريا فقط، بل في كل الجامعات في العالم.
==========================
الصور
---------------
- تعاني المدارس السورية من اكتظاظ في عدد الطلاب
- تفتقر المدارس في سوريا إلى البنى التحتية
- رغم الظروف القاسية يرسل السوريون أولادهم ليتعلموا
- وضع المعلمين سيئ بسبب رواتبهم المتدنية