باكو: عام 2021 هو العام المتمم لمئوية الدولة العراقية الحديثة التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عشرينات القرن المنصرم، وتحديدا في ديسمبر (كانون الأول) 1921. عقب ثورة وطنية اندلعت عام 1920 شارك فيها العراقيون جميعا للمطالبة بالاستقلال ضد الاحتلال البريطاني الذي بسط سيطرته على الولايات الثلاث المكونة للدولة العراقية (الموصل والبصرة وبغداد) بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتوزيع أراضيها بين المنتصرين وتحديدا (فرنسا وبريطانيا) فيما عُرف في التاريخ باتفاق سايكس بيكو المُوقع عام 1916. والذي يعد واحدا من أكثر الاتفاقات التي اعادت رسم حدود المنطقة وتوزيعها على دول تحت الانتداب والهيمنة والسيطرة الأجنبية، فكانت أراضي العراق أو ما كان يعرف ببلاد الرافدين من نصيب المحتل البريطاني الذي لم تستقر له الأوضاع في هذه الأراضي التي كان شعبها قد شارك فيما يُعرف بالثورة العربية ضد الدولة العثمانية خلال فترة الحرب العالمية الأولى، إلا أن عدم وفاء بريطانيا بوعودها التي قطعتها للشريف حسين بمنح استقلال دول المنطقة عقب الانتصار على الدولة العثمانية، واقتصار ذلك على منحه حكم المملكة الأردنية الهاشمية، دفع ذلك الشعب العراقي إلى الثورة ضد الاحتلال البريطاني وممارساته، مطالبا بإرسال نجل الشريف حسين حاكما عليهم، وبالفعل تم تنصيب فيصل الأول بن الحسين ملكا على العراق.
ورغم ما حققه الملك فيصل خلال سنوات حكمه الأولى من كثير من الإنجازات، إلا أن البلاد واجهت كثيرا من الحروب والنزاعات والمنعطفات التاريخية والمآسي التي كانت ولا تزال يعاني منها العراقيون، حيث شهدت ساحته صراعات عدة؛ سياسية وأمنية واقتصادية بل وفكرية ومذهبية، وصولا إلى صراعات عسكرية أفقدت الدولة الكثير من مقومات قوتها الشاملة وسيادتها السياسية واستقلاليتها القانونية.
وعلى هامش الاحتفال بمئوية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، يستعرض هذا التقرير مآلات الدولة العراقية بعد مرور المائة عام على التأسيس، من خلال الإشارة إلى نقطتين مهمتين، هما:
الأولى: مرت الدولة العراقية في تاريخها الحديث بثلاث مراحل رئيسية كشفت عن حجم المأساة والمعاناة التي عانى منها الشعب العراقي على مدار تاريخه الحديث، صحيح أن هذا التاريخ قد شهد بعض الإنجازات في مرحلتيه الأولى الملكية الممتدة (1921-1958)، والثانية الجمهورية الممتدة (1958-2003)، إلا أنه من الصحيح أيضا أن الشعب العراقي قد واجه خلالهما أزمات مصيرية عديدة سواء على المستوى الداخلي من خلال الانقلابات العسكرية، أو على المستوى الخارجي من خلال ما خاضه من صراعات في جواره الإقليمي؛ بعضها سياسي على غرار ما جرى بين العراق وسوريا حول مرجعية البعث ومحاولات كل طرف فرض هيمنته، وبعضها الآخر عسكري على غرار ما حدث في ثمانينات القرن المنصرم فيما عُرف بحرب الثماني سنوات (1980-1988) بين العراق وإيران، أو ما جرى في بداية التسعينات من القرن ذاته مع الغزو العراقي غير الشرعي للكويت (1990)، ذلك الغزو الذي فتح الأبواب واسعة أمام ويلات لم تعانِ منها الدولة العراقية فحسب، بل عانت ولا تزال تعاني منها المنطقة برمتها حتى اليوم، وصولا إلى المرحلة الثالثة في عمر الدولة العراقية الحديثة والتي بدأت ارهاصاتها منذ حرب الخليج الثانية (1991) حتى جاءت حرب الخليج الثالثة (2003) بالغزو الأميركي البريطاني للعراق، وهو ما مثل بداية تفكك الدولة الوطنية ومؤسساتها الحاكمة سياسيا وأمنيا وعسكريا تحت شعارات واهية من بناء ديمقراطية تكون نموذجا لدول المنطقة، في حين تحول العراق إلى مرتع للتنظيمات المتطرفة والإرهابية من ناحية، وحديقة خلفية للدولة الفارسية الساعية إلى استعادة نفوذها في المنطقة عبر التدخل في شؤون دولها من ناحية أخرى، ليضيع العراق بين صراعات الداخل بمختلف تصنيفاته (دينية وعرقية وطائفية ومذهبية) وتدخلات الخارج بمختلف أطرافه إقليميا ودوليا وتستباح حدود الدولة وسيادتها واستقلالها.
ثانيا: رغم كل ما عاناه الشعب العراقي على مدار تاريخه الحديث، إلا أنه ظل صامدا في مواجهة التهديدات والقدرة على التعامل مع التحديات، صحيح أنه في بعض اللحظات فقد بوصلته في زحام الخطابات الرنانة والشعارات الطنانة التي حاولت تضليل أبنائه بعيدا عن الولاء لوطنهم، فتوزعت انتماءاتهم وتداخلت توجهاتهم وانحرفت تحركاتهم إلا أن ما يشهده العراق اليوم رغم تفاقم الأزمات وتعاظم التحديات التي يعيشها أبناؤه؛ سياسيا بسبب صراعات النخبة الحاكمة وتعددية مرجعيتها، واقتصاديا حيث يعاني العراقيون من تردي أوضاعهم المعيشية وتدني مستويات الخدمات العامة والأساسية المقدمة لهم بسبب تفشي الفساد والرشاوى والمحسوبية، وكذلك أمنيا ليس فقط بسبب انتشار الميليشيات التي باتت مصدرا رئيسيا في تقويض جهود الاستقرار وترسيخ الطائفية، وإنما حملت الصراعات السياسية أيضا بعدا أمنيا، على غرار ما ذكره رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تعليقا على محاولة اغتياله الفاشلة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي (2021)، إذ ذكر أن «الجهة الواقفة خلف هذه العملية داخلية وليست خارجية، وأنها ليست التنظيمات الإرهابية، مثل داعش وغيرها، بل طرف له مشروع سياسي وشريك في العملية السياسية».
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الدولة العراقية قد أخذ تاريخها الحديث شكل الدائرة التي بدأت من نقطة الاحتلال البريطاني في عشرينات القرن المنصرم لينتهي بها الحال إلى العودة إلى الاحتلال ولكن هذه المرة كان أميركياً بريطانياً، وقد فاقت جرائمه في حق الشعب العراقي أي جرائم ارتكبها الاحتلال في سابق الأيام.
صحيح أن ثمة تشابها بين الأمس الذي عاشه العراق عند استقلاله الأول عام 1921حينما واجه صعوبات في بناء مؤسسات الدولة وضمان استقلالية قرارها، وبين استقلاله الثاني في العقد الثاني من القرن الجاري بعد استعادة الدولة لسيادتها المنقوصة في ظل الانسحاب الأميركي المتدرج، وقد تجلى هذا التشابه في البيئتين: الإقليمية والدولية التي صاحبت مرحلة الاستقلال الأولى. فعلى المستوى الإقليمي، واجه العراق محيطا جغرافيا غير مستقر، كان آنذاك بسبب المطالب الشعبية في مواجهة الاحتلال الأجنبي، واليوم يواجه ذات الأوضاع غير المستقرة في دول جواره إما بسبب صراعات في الداخل على غرار الأوضاع السورية أو خلافات مع الخارج على غرار أزمة الملف النووي الإيراني. أما على المستوى الدولي، فقد واجه العراق آنذاك تدشين مرحلة جديدة في تشكيل النظام الدولي مع إعادة ترتيب علاقات القوى الدولية المنتصرة في الحرب على حساب القوى المنهزمة وهو ما عبرت عنه بجلاء اتفاقية فرساي وما سبقها من اتفاق سايكس بيكو الذي سبقت الإشارة إليه، ولا شك أن لهذه التحولات أثرا على أوضاع المنطقة برمتها بما فيها الأوضاع العراقية، وهو الأمر ذاته الذي يواجه العراق اليوم حيث يشهد النظام الدولي حالة من السيولة في ظل التراجع الأميركي والصعود الصيني والعودة الروسية، بما يؤثر على تدخلات الأطراف الثلاثة وحلفائها في شؤون المنطقة وإعادة ترتيب أوضاعها بما يحقق مصالح كل طرف على حساب مصالح دول المنطقة وشعوبها وهو ما يترك بلا شك تأثيره على العراق ومستقبله.
ولكن على الجانب الآخر، نجد أن ثمة تباينا فيما يشهده عراق اليوم مقارنة بما كان عليه عراق الأمس وذلك على مستوى الداخل العراقي، إذ إنه في الوقت الذي كان العراق يعيش فيه حالة متميزة من اللحمة الوطنية المتألفة من جميع العراقيين بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وكانت هذه اللحمة هي العامل الأكثر أهمية في تحقيق الاستقلال وضمان الدولة العراقية الحديثة. إلا أن ما يعيشه عراق اليوم وهو حالة من الصراع بين تركيبته الداخلية، إذ إننا اليوم إزاء عراق ممزق بين أبنائه بسبب الانتماءات المناطقية والدينية والعرقية والمذهبية. بمعنى أكثر وضوحا أنه بدلا مما كان لدينا في عشرينات القرن الماضي من عراق واحد يسعى للاستقلال بإرادة وطنية عازمة على تحقيقه، أصبحنا إزاء أكثر من عراق تتقاطعه الصراعات والنزاعات بين أبنائه لتغلب الولاءات الأولية على الولاء للدولة الوطنية التي تشهد اليوم مزيدا من التحديات التي تهدد استمرارها وسيادتها واستقلاليتها، بما يستوجب على العراقيين أن يعوا درس الماضي ومخاطر الحاضر إذا أرادوا أن يواجهوا المستقبل بتحدياته وأزماته ويحققوا طموحات أبنائهم وتطلعاتهم.
وفي هذا الخصوص تبرز دعوة الرئيس العراقي برهم صالح بضرورة الانطلاق نحو عقد سياسي واجتماعي جديد يقوم على مراجعة موضوعية لأخطاء الماضي وتلافيها، وقراءة تحديات الحاضر ومعالجتها، ورسم مسارات المستقبل والانطلاق فيها.
في مثل هذا الوضع يكون للاحتفال بمئوية التأسيس معنى وهدف يسعى إليه كل مواطن عراقي رافض للأوضاع الراهنة والتهديدات الماثلة كما طالب بذلك رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في كلمته باحتفالية مئوية التأسيس بأن إحياء هذه الذكرى: «لا يعني أن العراق قبل مائة عام من اليوم لم يكن دولة، فهنا على الأرض التي تقف أقدام العراقيين عليها بثبات كانت أول دولة عرفتها البشرية، وأول قانون نظم حياة البشر، وأول شرطي كانت وظيفته حماية الناس وأول جندي نظامي دافع عن الحدود وضحى من أجلها... وأن إدراك العراقيين لكل هذا الإرث، هو مسؤوليتهم التي تناقلتها الأجيال ووصلتنا، وسننقلها إلى أجيالنا القادمة لنقول لهم بكل وضوح وصراحة تليق بعصر التكنولوجيا الحديث: هنا العراق، هنا الدولة، وليس أمامنا من خيار إلا الدفاع عنها وحفظ تاريخها ومنع المتلاعبين بمقدراتها».